الآية رقم (10) - ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ

أي: ضرب الله سبحانه وتعالى مثلاً لحال الكفّار في مخالطتهم المسلمين، ومعاشرتهم لهم، وأنّه لا يغني أحد عن أحد، ولا ينفعهم شيء عند الله عز وجلَّ، إن لم يكن الإيمان حاصلاً في قلوبهم، فمجرّد الخلطة أو النّسب أو الزّوجيّة لا فائدة فيها ما دام الشّخص غير مؤمن بالله سبحانه وتعالى، ونلاحظ هنا أمراً مهمّاً في بعض الكلمات في القرآن الكريم، فنجد في هذه السّورة: ﴿امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ﴾ مكتوبة بالتّاء المفتوحة، بينما نجد في آيات أخرى كلمة: (امرأة) مكتوبة بتاء مربوطة، فما الفارق بين كلمة (امرأت) المكتوبة بالتاء المفتوحة، وكلمة (امرأة) المكتوبة بالتّاء المربوطة؟ الجواب هو: أنّ كلّ امرأة معروفة من هي، تُكتب بالتّاء المفتوحة، وكلّ امرأة لا تُعرَف من هي، تُكتَب بالتّاء المربوطة، فلفظ: (امرأة) إذا اقترنت بزوجها يوقف عليها بتاء مفتوحة مهموسة، وتُرسَم بالتّاء المفتوحة، وقد وردت في سبعة مواضع في القرآن الكريم:

1- ﴿إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾[آل عمران].

2- ﴿وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ﴾[يوسف: من الآية 30].

3- ﴿قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ﴾[يوسف: من الآية 51].

4- ﴿وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾[القصص].

5- 6- ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ﴾ [التّحريم].

7- ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾[التّحريم].

أمّا إذا ورد لفظ (امرأة) من غير زوجها (نكرة) يوقف عليها بتاء مربوطة؛ أي: هاء ساكنة مهموسة، وجاءت في قوله سبحانه وتعالى:

– ﴿وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ﴾ [النّساء: من الآية 12].

– ﴿وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾[النّساء: من الآية 128].

– ﴿إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ﴾[النّمل].

– ﴿وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾[الأحزاب: من الآية 50].

فسبحان الله العظيم، ففي القرآن الكريم حتّى في الحرف، والحركة الإعرابيّة، وفي الوقوف، وفي كلّ ما ورد فيه هناك حكمة وسبب وسرّ وإعجاز، فبعض النّاس يتعجّب لماذا كُتبت كلمة (امرأة) مرّة بالتّاء المفتوحة ومرّة بالتّاء المربوطة؟ ومثلها كلمة (شجرة)، وغيرها.. فكثير من الكلمات الّتي وردت في القرآن الكريم إذا اختلف فيها الرّسم فالمعنى يختلف، ويكون لعلّة معيّنة، وليس اعتباطاً.

﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا﴾: ذلك المثل أنّ امرأة نوح وامرأة لوط عليهما السّلام، كانتا في عصمة نكاح نبيَّين رسولين، وفي صحبتهما ليلاً ونهاراً، يعاشرانهما أشدّ العشرة والاختلاط، لكنّهما خانتاهما في الإيمان والدّين، فلم تؤمنا بهما، ولم تصدّقا الرّسالة، فلم ينفعهما نوح ولوط عليهما السّلام بشيء، ولا دفعا عنهما من عذاب الله عز وجلَّ، ولا دفعا عنهما محذوراً، مع كرامة نوح ولوط عليهما السّلام على الله سبحانه وتعالى، وحاق بهما سوء العذاب والعقاب، قيل: كانت امرأة نوح عليه السلام تقول للنّاس: إنّه مجنون، وكانت امرأة لوط تخبر قومه بأضيافه ليفجروا بهم.

﴿وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ﴾: وقيل لهما في الآخرة عند دخول النّار: ادخلا النّار مع الدّاخلين فيها من أهل الكفر والمعاصي، جزاء كفرهما وسيّئاتهما. ثمّ ضرب الله سبحانه وتعالى مثلاً آخر يرشد إلى عكس المثل السّابق بامرأتين ليدلّ أنّ المؤمنين لا تضرّهم مخالطة الكافرين إذا كانوا محتاجين إليهم، فقال عن المرأة الأولى:

الآية رقم (11) - وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ

﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ﴾: أي: وجعل الله سبحانه وتعالى مثلاً آخر للمؤمنين، حال امرأة فرعون آسية بنت مزاحم، وعمّة موسى عليه السلام، آمنت بموسى عليه السلام حين سمعت قصّة إلقائه لعصاه، فعذّبها فرعون عذاباً شديداً بسبب إيمانها، ولكنّها لم تتراجع، ممّا يدلّ على أنّ صولة الكفر لا تضرّ المؤمنين، كما لم تضرّ امرأة فرعون، وقد كانت تحت أكفر الكافرين، وصارت بإيمانها بالله سبحانه وتعالى في جنّات النّعيم، وذلك حين قالت:

﴿رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾: يا ربّ ابن لي بيتاً في أعلى درجات المقرّبين منك، ونجّني من ذات فرعون، وممّا يصدر عنه من أعمال الشّرّ، وخلّصني من القوم الظّالمين، قال قتادة: كان فرعون أعتى أهل الأرض وأكفرهم، فو الله ما ضرّ امرأته كفر زوجها حين أطاعت ربّها، ليعلموا أنّ الله سبحانه وتعالى حكم عدل، لا يؤاخذ أحداً إلّا بذنبه، وقال ابن جرير: كانت امرأة فرعون تُعَذَّب في الشّمس، فإذا انصرف عنها أظلّتها الملائكة بأجنحتها، وكانت ترى بيتها في الجنّة، والآية دليل على صدق إيمان امرأة فرعون بالله عز وجلَّ، والبعث، والجنّة والنّار، وأنّ العمل الصّالح طريق الجنّة، والعمل السّيّء سبب النّار، وهي دليل آخر على أنّ الاستعاذة بالله عز وجلَّ من الأشرار دأب الصّالحين.

وقال سبحانه وتعالى عن المرأة الثّانية:

الآية رقم (12) - وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ

أي: وضرب الله سبحانه وتعالى مثلاً للّذين آمنوا مريم بنت عمران أمّ عيسى عليه السلام، جمع الله سبحانه وتعالى لها بين كرامة الدّنيا والآخرة، واصطفاها على نساء العالمين في عصرها، مع كونها بين قوم عصاة، صانت فرجها عن الرّجال والفواحش، فهي مثال العفّة والطّهر، فأمر الله سبحانه وتعالى جبريل عليه السلام أن ينفخ فيها، فحملت بعيسى عليه السلام، وصدّقت بشرائع الله سبحانه وتعالى الّتي شرعها لعباده، وبصحفه الّتي أنزلها على النّبيّ إدريس عليه السلام وغيره، وبكتبه الكبرى المنزلة على الأنبياء، وما خاطبها به الملك، وهو قول جبريل عليه السّلام لها: ﴿قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا﴾[مريم]، وما أخبرها به من البشارة بعيسى عليه السلام وكونه من المقرّبين، كما في سورتي آل عمران (الآيات ٤٢- ٤٨)، ومريم (الآيات ١٦- ٣٦)، وكانت من القوم المطيعين لربّهم، وكان أهلها أهل بيت صلاح وطاعة، ومن عداد النّاسكين العابدين المخبتين لربّهم، روى أحمد عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: خَطَّ رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ خُطُوطٍ، قَالَ: «تَدْرُونَ مَا هَذَا؟»، فَقَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أَفْضَلُ نِسَاءِ أَهْلِ الجَنَّةِ: خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ، وَآسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَمَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ»([1])، وثبت في الصّحيحين عن أبي موسى الأشعريّ عن النّبيّ ﷺ قال: «كَمَلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلَـمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ: إِلَّا آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَإِنَّ فَضْلَ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ»([2]).

فالسّيّدة مريم عانت معاناة كبيرة هي وسيّدنا المسيح عليه السلام من اليهود المجرمين واتّهاماتهم، وقد أتاها سيّدنا جبريل عليه السلام بالبشارة فحملت بسيّدنا عيسى عليه السّلام، كما أخبرنا سبحانه وتعالى في القرآن الكريم: ﴿فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا﴾ [مريم]، فهذا هو سيّدنا عيسى وهذه هي السّيّدة مريم الّتي نزلت سورة بالقرآن الكريم باسمها، وتحدّث القرآن الكريم عن أسرتها في سورة آل عمران، أسرة الصّلاح والتّقوى، قال سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾[آل عمران]، هذه الذّرّيّة الطّاهرة الّتي أنبتت السّيّد المسيح عليه السلام، وقال سبحانه وتعالى عن السّيّدة مريم: ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران].

([1]) مسند الإمام أحمد بن حنبل: ومن مُسند بني هاشم، مُسْنَد عبد الله بن العبّاس بن عبد المطّلب 8، الحديث رقم (2668).

([2]) صحيح البخاريّ: كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول اللّه تعالى: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ﴾، إلى قوله: ﴿وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ﴾، الحديث رقم (3411).

الآية رقم (2) - قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ

﴿قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ﴾: قد: للتّحقيق، ﴿فَرَضَ﴾: فعل ماضٍ يدلّ على أنّ حدث الفعل وقع في الزّمن الماضي، فكفّارة اليمين قد أوجبها الله سبحانه وتعالى قبل وقوع اليمين من رسول الله ﷺ، وكأنّ النّبيّ ﷺ قد أقسم يميناً عندما ذكر أنّه لن يشرب العسل مرّة أخرى، فالله سبحانه وتعالى فرض كفّارة اليمين، والفرض هو التّكليف الّذي كلّفنا الله سبحانه وتعالى به، وقد اختلف العلماء هل كفّر النّبيّ ﷺ عن يمينه أو لم يكفّر؟ أو أنّ المطالَب بتكفير اليمين غير رسول الله ﷺ؟ قال الحسن البصريّ: إنّ رسول الله ﷺ لم يكفّر عن يمينه؛ لأنّه كان مغفوراً له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر، إّنما هو تعليم للمؤمنين.

وهل امتناع رسول الله ﷺ عن أكل العسل، أو حلفه على هذا مرضاة لأزواجه يُعَدّ ذنباً لكي يقال: عليه أن يُكفِّر عن يمينه؟ الجواب: كفّارة اليمين كانت لرسول الله ﷺ ولعموم المسلمين، وإذا تأمّلنا الآيتين معاً: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ﴾، ثمّ قوله سبحانه وتعالى: ﴿قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ﴾، الآية الأولى تكلّمت عن التّحريم، ولم تُحدِّثنا عن يمين أقسمه الرّسول ﷺ، والآية الثّانية تُحدِّثنا عن كفّارة اليمين، فهل معنى هذا أنّ مجرّد التّحريم دون قسم يُعدّ يميناً وقسماً؟ اختلف النّاس في هذا، ولكن سواء كان مجرّد التّحريم يُوجب الكفّارة، أم أنّه اقترن عند رسول الله ﷺ بيمين، كما جاء في بعض روايات الحديث، فالآية تُوجب تحلّة يمين، أو بمعنى آخر كفّارة يمين، وكفّارة اليمين ذكرها الله عز وجلَّ، فقال: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾[المائدة]، والكفّارة ستر العقوبة، وليس معنى هذا أنّ الإنسان تلزمه الكفّارة ما دام قد عقّد الأيمان، وأقسم يميناً مؤكّداً، فالكفّارة تكون فقط حين يحنث في القسم ولا يبرّ به، فتكون الكفّارة أحد أربعة أشياء: إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تُطعمون أهليكم، أو كسوة عشرة مساكين، أو تحرير رقبة بإعتاق عبد أو غيره إن وُجِد، أو صوم ثلاثة أيّام لمن لم يجد، والحقّ سبحانه وتعالى عندما قال في سورة التّحريم: ﴿قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ﴾، فهو سبحانه وتعالى يُشير إلى الكفّارة الّتي في سورة المائدة، فسورة التّحريم نزلت بعد سورة المائدة، وقد يسأل سائل: ولكنّ الرّسول ﷺ لم يحنث في يمينه حتّى تجب عليه الكفّارة؟ نعم رسول الله ﷺ لم يحنث في يمينه، بمعنى أنّه لم يُخالف يمينه فذهب وشرب عسلاً، ولكنّ الكفّارة شرعها الله سبحانه وتعالى أيضاً: ﴿تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ﴾؛ أي: شرع لكم وقدّر ما به تنحلّ أيمانكم قبل الحنث.

و﴿تَحِلَّةَ﴾: أصلها تحللة، فأُدغِمت اللّامان، وهي من مصادر التّفعيل، كالتّوصية والتّسمية، فكأنّ اليمين عقد، والكفّارة حلّ؛ لأنّها تُحلّ للحالف ما حرّمه على نفسه، فكلمة ﴿تَحِلَّةَ﴾ دليل على أنّ رسول الله ﷺ لم يحنث في يمينه، فالتّحلة لا تكون بعد الحنث، وإنّما تكون التّحلّة إذا أُخرجت قبل الحنث لينحلّ اليمين، فإنّه بالحنث ينحلّ اليمين وتجب حينها الكفّارة؛ لأنّها كفّرت ما في الحنث من سبب الإثم لنقض عهد الله عز وجلَّ، فإعجاز النّظم القرآنيّ هنا أنّه لم يذكر شيئاً عن الكفّارة، فلم يقل الله سبحانه وتعالى: (قد فرض الله عليكم كفّارة أيمانكم)، بل قال: ﴿قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ﴾.

﴿وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ﴾: المتولّي لشؤونكم، وكلمة: (مولى) تأخذ معنى القريب والنّاصر والمعين الّذي نفزع إليه في الشّدائد، ثمّ يُنهي الحقّ سبحانه وتعالى الآية بقوله:

﴿وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾: يصف الحقّ سبحانه وتعالى نفسه بصفتين: العلم والحكمة، فهو سبحانه وتعالى العليم؛ أي: الّذي يعلم كلّ شيء خافياً كان أم ظاهراً، والعلم كلّه منه سبحانه وتعالى، وهو سبحانه وتعالى العليم بالنّيّات ومدى إخلاصنا، ويعلم ما في صدورنا قبل أن ننطق به، وهو سبحانه وتعالى العليم بالمناسب لكلّ حال، والعليم أبداً بما ينفع النّاس جميعاً، وبما تتطلّبه الحكمة علماً يحيط بالزّوايا والجهات كلّها، والعليم بما يجول في الخواطر، ثمّ إنّه الحكيم الّذي لا يصدر منه الشّيء إلّا بحكمة بالغة، وهو الحكيم في فعله وتقديره وتصرّفه، يضع كلّ أمر في مكانه الدّقيق، ولا يأمر إلّا بما فيه مصلحة.

الآية رقم (3) - وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ

﴿وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا﴾: السّرّ في هذه الآية كان عند رسول الله ﷺ، وأسرّ به إلى السّيّدة حفصة رضي الله عنها، لكنّها لم تلبث أن أخبرت به السّيّدة عائشة رضي الله عنها، فقال سبحانه وتعالى:

﴿فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ﴾: أي: أخبرت به، ولكنّ السّيّدة حفصة رضي الله عنها لم تُخبِر به خبراً عاديّاً على سبيل الكلام العادي، فالنّبأ لا يأتي إلّا في الخبر المهمّ.

﴿وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ﴾: أي: أظهره الله سبحانه وتعالى على قول حفصة لعائشة رضي الله عنهما، فـ: (أظهره): أطلعه على أنّ حفصة قد نبّأت عائشة بما أسرّه إليها رسول الله ﷺ بشأن مارية القبطيّة.

﴿عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ﴾: عرّف رسول الله ﷺ حفصة رضي الله عنها بعض ما أخبرت به، وأعرض عن بعض تكرّماً منه ﷺ.

﴿فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا﴾: حينما أخبرها بما أفشت من الحديث، قالت: مَنْ أخبرك به يا رسول الله؟ لقد ظنّت حفصة رضي الله عنها أنّ عائشة رضي الله عنها هي الّتي أخبرته، فلا يعتقد أحدٌ أنّ حفصة رضي الله عنها تشكّ في أنّ الله سبحانه وتعالى يُخبِر نبيّه ورسوله بما لا يحيط به علماً من أمر الأمّة.

﴿قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ﴾: أخبرني به الله سبحانه وتعالى الّذي لا تخفى عليه خافية، فهو العليم بالسّرّ، الخبير بكلّ شيء في السّماء والأرض، ثمّ وجّه الله سبحانه وتعالى هذا التّوجيه للسّيّدة عائشة والسّيّدة حفصة رضي الله عنهما:

الآية رقم (4) - إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ

﴿إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ﴾: أي: إن تتوبا تكتما السّرّ، وتحبّا ما أحبّه رسول الله ﷺ، وتكرها ما كرهه، تُقبَل توبتكما من الذّنب.

﴿فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا﴾: فقد عدلت قلوبكما، ومالت عن الحقّ والخير، وهو حقّ تعظيم الرّسول ﷺ وصون سرّه وتكريمه، والخطاب لحفصة وعائشة رضي الله عنهما، لما روي عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أنّه قال: لَـمْ أَزَلْ حَرِيصاً عَلَى أَنْ أَسْأَلَ عُمَرَ رضي الله عنه عَنِ الـمَرْأَتَيْنِ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ ﷺ اللَّتَيْنِ قَالَ اللَّهُ لَهُمَا: ﴿إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا﴾ [التّحريم: من الآية 4]، فَحَجَجْتُ مَعَهُ، فَعَدَلَ وَعَدَلْتُ مَعَهُ بِالْإِدَاوَةِ، فَتَبَرَّزَ حَتَّى جَاءَ، فَسَكَبْتُ عَلَى يَدَيْهِ مِنَ الْإِدَاوَةِ فَتَوَضَّأَ، فَقُلْتُ: “يَا أَمِيرَ الـمُؤْمِنِينَ، مَنِ الـمَرْأَتَانِ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ ﷺ اللَّتَانِ قَالَ اللَّهُ عز وجلَّ لَهُمَا: ﴿إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا﴾”؟ فَقَالَ: “وَاعَجَبِي لَكَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ”([1]).

﴿وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ﴾: أي: وإن تتعاضدا وتتعاونا على ما يسوء النّبيّ ﷺ ويؤذيه بسبب الغيرة والرّغبة في إفشاء سرّه، فإنّ الله سبحانه وتعالى يتولّى نصره، وكذلك جبريل وصالح المؤمنين، والملائكة بعد نصر الله عز وجلَّ له ونصر جبريل والمؤمنين الصّالحين أعوان له وحرّاس وحفظة، وقوله: ﴿بَعْدَ ذَلِكَ﴾ تعظيم للملائكة ومظاهرتهم، ولم نرَ مثل هذا العون والعصمة والتّأييد الرّبّانيّ لأحد من الأنبياء والرّسل وسائر البشر، للمبالغة في تعظيم شأن النّبيّ ﷺ، والتّخلّص من أيّ غيرة بين نسائه، وتبديد أوهام المشركين والمنافقين من محاولات الكيد والأذى وإلحاق الضّرر.

ثمّ أنذرهما الله سبحانه وتعالى وحذّرهما مع بقيّة الأزواج، فقال جل جلاله:

([1]) صحيح البخاريّ: كتاب المظالم والغصب، باب الغُرْفَة وَالعُلِّيَّة الـمُشْرِفَة وغير الـمُشْرِفَة فِي السُّطوح وغيرها، الحديث رقم (2468).

الآية رقم (5) - عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا

﴿عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ﴾: أي: لله عز وجلَّ القدرة البالغة، فإنّه قادر إن وقع من النّبيّ ﷺ الطّلاق أن يبدله أزواجاً خيراً وأفضل منكنّ.

﴿مُسْلِمَاتٍ﴾: قائمات بفروض الإسلام.

﴿مُؤْمِنَاتٍ﴾: كاملات الإيمان والتّصديق بالله سبحانه وتعالى وملائكته وكتبه ورسله.

﴿قَانِتَاتٍ﴾: مطيعات لله سبحانه وتعالى ورسوله ﷺ.

﴿تَائِبَاتٍ﴾: تائبات من الذّنوب.

﴿عَابِدَاتٍ﴾: مواظبات على عبادة الله عز وجلَّ متذلّلات له.

﴿سَائِحَاتٍ﴾: صائمات.

﴿ثَيِّبَاتٍ﴾: بعضهنّ ثيّبات، والثّيّب: هي المرأة الّتي قد تزوّجت، ثمّ طلّقها زوجها أو مات عنها.

﴿وَأَبْكَارًا﴾: وبعضهنّ أبكاراً، والبكر: هي العذراء.

ويُلاحظ أنّ هذه الصّفات جميعها يمكن اجتماعها في موصوف واحد، ما عدا الوصفين الأخيرين، لذا عُطفا بالواو، للدّلالة على التّغاير أو التّباين في الوصفين، والعطف يقتضي المغايرة، فانظروا إلى دقّة القرآن الكريم، ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ [النّساء: من الآية 82]، والآية تتضمّن غاية التّهديد والوعيد على محاولات إيذاء النّبيّ ﷺ، وتعطي صفات لزوجات النّبيّ ﷺ، فكانت هي الأساس لهنّ جميعاً بالتزامهنّ بكلّ ما ورد في هذه الآية، فكانت زوجات النّبيّ ﷺ مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات، فهذا التّحذير الّذي جاء من مجرّد غيرة بالنّسبة إلى مارية القبطيّة، وحديث تمّ تداوله بين السّيّدة حفصة والسّيّدة عائشة رضي الله عنهما إلى توجيه إلهيّ ربّانيّ كيف تكون زوجات النّبيّ ﷺ، أمّهات المؤمنين، وكيف هنّ المثال والقدوة والأسوة لنساء المؤمنين كلهنّ.

الآية رقم (6) - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾: أي: يا أيّها الّذين صدّقوا بالله سبحانه وتعالى ورسوله ﷺ، أدّبوا أنفسكم وعلّموها، واتّخذوا لها وقاية من النّار، وحافظوا عليها بفعل ما أمركم به الله سبحانه وتعالى وتَرْك ما نهاكم عنه، وليس فقط أنتم، بل عليكم تعليم أولادكم وأسركم وأهليكم، وأمروهم بطاعة الله عز وجلَّ وانهوهم عن معاصيه، وانصحوهم وأدّبوهم حتّى لا تصيروا معهم إلى النّار العظيمة الرّهيبة الّتي تتوقّد بالنّاس والحجارة، كما يتوقّد غيرها بالحطب، قال قتادة: تأمرهم بطاعة الله عز وجلَّ، وتنهاهم عن معصية الله جل جلاله، وأن تقوم عليهم بأمر الله سبحانه وتعالى وتأمرهم به، وتساعدهم عليه، فإذا رأيت معصية، قذعتهم عنها، وزجرتهم عنها، ونظير الآية قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا﴾[طه: من الآية ١٣٢]، وقوله جلّ جلاله مخاطباً نبيّه ﷺ: ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾[الشّعراء]، وقال النّبيّ ﷺ: «مُرُوا أَبْنَاءَكُمْ بِالصَّلَاةِ»([1])، فنحن أمام تربية الأولاد والجيل، والنّبيّ ﷺ يقول: «مَا نَحَلَ وَالِدٌ وَلَدَهُ أَفْضَلَ مِنْ أَدَبٍ حَسَنٍ»([2])، فحقّ على المسلم أن يعلّم أهله من قرابته وإمائه وعبيده ما فرض الله سبحانه وتعالى عليهم، وما نهاهم عنه، فعلينا أن نعلّم أولادنا الدّين والاستقامة والخير والأدب، وهذه واجبات نجد أنّنا اليوم معنيّون بها أكثر من أيّ زمن، عندما نرى أولادنا وأجيالنا تتخبّط بهم وسائل التّواصل الاجتماعيّ، وتتخبّط بهم الأهواء، والمنكرات، وفساد القيم والأخلاق، فهنا هذه الآية هي تهديد ووعيد لنا جميعاً، بأنّنا لسنا مسؤولين عن أنفسنا فقط، وإنّما عن أولادنا وأُسرنا، يقول ﷺ: «كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ»([3]).

﴿وَأَهْلِيكُمْ﴾: الأهل: هم الزّوجة والأولاد والخدم.

﴿وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾: المراد بالنّاس: الكفّار.

﴿وَالْحِجَارَةُ﴾: الأصنام الّتي تُعبَد من غير الله عز وجلَّ، لقوله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ﴾[الأنبياء: من الآية ٩٨].

﴿عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾: أي: على النّار خزنة من الملائكة يلون أمرها وتعذيب أهلها، غلاظ أطباعهم، قد نُزِعَت من قلوبهم الرّحمة بالكافرين بالله عز وجلَّ، شداد عليهم، تركيبهم في غاية الشّدّة والصّلابة والمنظر المزعج، لا يرحمونهم إذا استرحموهم، إنّما خلقوا للعذاب، عددهم تسعة عشر ملكاً هم زبانية جهنّم، كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: ﴿عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ﴾[المدّثّر]، يتميّزون بالطّاعة الكاملة لله سبحانه وتعالى، فهم لا يخالفون أوامره سبحانه وتعالى، ويؤدّون ما يؤمرون به في وقته المحدّد له من غير تراخٍ، فلا يؤخّرونه عنه ولا يقدّمونه، وهم قادرون على الفعل، ليس بهم عجز عنه.

وفائدة الإتيان بالجملتين: ﴿لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ أنّ الأولى في الماضي، لبيان الطّواعية، فإنّ عدم العصيان يستلزم امتثال الأمر، ولنفي الاستكبار عنهم، كما قال جلّ جلاله: ﴿لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ﴾ [الأنبياء: من الآية ١٩]، والثّانية للمستقبل وفوريّة التّنفيذ والامتثال، ونفي التّراخي والكسل عنهم، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ﴾[الأنبياء: من الآية ١٩].

ثمّ وعظ المؤمنين بما يقال للكافرين عند دخولهم النّار، فقال جل جلاله:

([1]) مسند الإمام أحمد بن حنبل: مُسند المكثرين من الصّحابة، مُسند عبد الله بن عَمْرِو بن العاص 8، الحديث رقم (6756).

([2]) المستدرك على الصّحيحين: ج4، كتاب الأدب، الحديث رقم (7679).

([3]) صحيح البخاريّ: كتاب الجمعة، باب الجُمُعة في القُرى والمدن، الحديث رقم (893).

الآية رقم (7) - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ

أي: يقال للّذين كفروا عند إدخالهم النّار يوم القيامة، تأييساً لهم وقطعاً لأطماعهم: لا تعتذروا، فإنّه لا يُقبَل منكم العذر، وإنّما تجزون اليوم بأعمالكم الّتي عملتموها في الدّنيا، فالدّنيا هي المقدّمة، وهي الّتي يُحاسَب عليها الإنسان في الآخرة، والمراد بهذا أنّ الدّنيا دار جهاد وعمل صالح، والآخرة دار مقرّ وجزاء، والدّنيا مزرعة الآخرة، فإن زرع فيها الإنسان أو غرس الغرس الصّالح، جنى طيّباً، وإن زرع أو غرس نباتاً أو شجراً رديئاً، حصد ما فعل، وبما أنّ العذر أو التّوبة لا يفيدان في الآخرة، أرشد الله سبحانه وتعالى المؤمنين إلى طريق التّوبة النّصوح، فقال جلّ جلاله:

الآية رقم (8) - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا﴾: يا من آمنتم وصدّقتم بالله سبحانه وتعالى ورسوله ﷺ، ارجعوا إلى الله عز وجلَّ، وتوبوا إليه توبة خالصة صادقة جازمة تمحو ما قبلها من السّيّئات، والتّوبة تكون بأن يعقد الإنسان العزم على ألّا يعود إلى مقارعة الإثم، والنّدم بالقلب على ما مضى من الذّنب، والاستغفار باللّسان، والإقلاع بالبدن، قال العلماء: التّوبة النّصوح: هو أن يقلع الإنسان عن الذّنب في الحاضر، ويندم على ما سلف منه في الماضي، ويعزم على ألّا يفعل في المستقبل، روى الإمام أحمد وابن ماجه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت النّبيّ ﷺ يقول: «النَّدَمُ تَوْبَةٌ»([1])، وأجمعت الأمّة أنّ الإسلام يَجُبُّ ما قبله، لما رواه عمرو بن العاص رضي الله عنه أنّ النّبيّ ﷺ قال له: «يَا عَمْرُو أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهُ مِنَ الذُّنُوبِ»([2]).

﴿عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾: لعلّ الله سبحانه وتعالى يمحو سيّئات أعمالكم الّتي اقترفتموها، ويدخلكم بساتين تجري من تحت قصورها وأشجارها الأنهار، حين لا يُعذِّب ولا يذلّ ولا يفضح الله سبحانه وتعالى نبيّه محمّداً ﷺ، ولا يُعذّب ولا يذلّ الّذين آمنوا به واتّبعوا شريعته، بل يُكرمهم ويعزّهم.

﴿عَسَى رَبُّكُمْ﴾: كما قال الزّمخشريّ: إطماع من الله سبحانه وتعالى لعباده، وفيه وجهان:

أحدهما: أن يكون على ما جرت به العادة من الأقوياء من الإجابة لـ عسى ولعلّ، ووقوع ذلك متوقّع منهم، فإنّهم إذا أرادوا فعلاً يقولون: عسى أن نفعل كذا.

والثّاني: أن يجيء به تعليماً للعباد أن يكونوا بين الخوف والرّجاء.

والخلاصة: أنّ ﴿عَسَى﴾ من الله عز وجلَّ موجبة تفيد التّحقّق، فقوله: ﴿عَسَى رَبُّكُمْ﴾، محقّقة قطعاً.

﴿يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ﴾: في هذا اليوم لا يمكن أن يُخزي الله سبحانه وتعالى النّبيّ ﷺ والمؤمنين، وهذا تعريض لمن أخزاهم الله سبحانه وتعالى من أهل النّار، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ﴾[آل عمران: من الآية ١٩٢].

ثمّ ذكر الله سبحانه وتعالى أثر الإيمان، فقال:

﴿نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ﴾: إنّ نور المؤمنين يضيء لهم طريقهم، ويسعى أمامهم وعن أيمانهم حال مشيهم على الصّراط، كما جاء في سورة الحديد: ﴿وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ﴾[الحديد: من الآية ٢٨]، وحين يُطفئ الله سبحانه وتعالى نور المنافقين يوم القيامة، يدعو المؤمنون قائلين: ﴿رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا﴾؛ أي: أبقه لنا، فلا ينطفئ حتّى نتجاوز الصّراط، واستر ذنوبنا وتجاوز عن سيّئاتنا، ولا تفضحنا بالعقاب عليها حين الحساب، فإنّك على كل شيء قدير.

ثمّ أمر الله سبحانه وتعالى نبيّه ﷺ بجهاد الكفّار بالسّيف والمنافقين بالحجّة، فقال:

([1]) مسند الإمام أحمد بن حنبل: مُسند المكثرين من الصّحابة، مُسند عبد الله بن مسعود t، الحديث رقم (4012).

([2]) مسند الإمام أحمد بن حنبل: مُسند الشّاميّين، بقيّة حديث عَمْرو بن العاص t عن النّبيّ ﷺ، الحديث رقم (17827).

الآية رقم (9) - يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ

﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ﴾: أي: يا أيّها الرّسول قاتل الكفّار إن اعتدوا بالسّيف، والمنافقين بالحجّة والبرهان وإقامة الحدود عليهم إذا ارتكبوها، وشدّد عليهم في الدّعوة إلى الإسلام في الدّنيا، فمنهم من تستطيع مجابهته بالحجّة والبرهان، أمّا الّذي يعتدي ويُقاتل، فكما قال سبحانه وتعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾[الحجّ]، فالجهاد القتاليّ لا يكون إلّا عندما يتعرّض المؤمن إلى القتال والاعتداء والإخراج من الوطن.

﴿وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ﴾: أي: شدّد عليهم، فيجب ألّا تتركهم على هذه الحال الّتي يتمكّنون بها من إيذاء المؤمنين.

﴿وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾: المآل للكافرين والمنافقين جهنّم، وقد جمع الله سبحانه وتعالى الكافرين والمنافقين في مرتبة واحدة، مع أنّهم فريقان، ولكلّ فريق مواصفات، وسيكون مقرّ الفريقين في الآخرة جهنّم، وبئس المرجع والمثوى والمقيل.

الآية رقم (0) - مقدمة تفسير سورة التحريم

سورة التّحريم سورة مدنيّة، عدد آياتها: (12)، ترتيبها في المصحف الشّريف (66)، نزلت بعد سورة الحجرات، وهي آخر سورة في الجزء الثّامن والعشرين، بدأت هذه السّورة بأسلوب النّداء للنّبيّ ﷺ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ﴾.

الآية رقم (1) - يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ

﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ﴾: الجامع بين الرّسول ﷺ وأمّته ليس أنّه محمّد ﷺ، إنّما أنّه رسول ونبيّ الله ﷺ، فلا بُدّ أن يُنادى بهذا الوصف، والله سبحانه وتعالى اصطفاه وميّزه على سائر إخوانه من الرّسل، فنادى سبحانه وتعالى الرّسل بأسمائهم، فقال سبحانه وتعالى: ﴿يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ﴾[البقرة: من الآية 35]، وقال جلّ جلاله: ﴿يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا﴾[هود: من الآية 48]، وقال عزّ وجلَّ: ﴿يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا﴾[الصّافّات: من الآية 104-105]، وقال سبحانه وتعالى: ﴿يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾[القصص: من الآية 30]، وقال جلّ جلاله: ﴿يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ﴾[المائدة: من الآية 116]، وقال تبارك وتعالى: ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ﴾[ص: من الآية 26]، لكن لم يُناد رسول الله ﷺ باسمه أبداً، إنّما ناداه بــ: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ﴾[المائدة: من الآية 41]، أو: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ﴾، فالله سبحانه وتعالى لم يجعل دعاءه للنّبيّ ﷺ كدعائه لباقي أنبيائه ورسله، فلا يوجد رسل بعده، فهو خاتم الأنبياء والرّسل ﷺ.

وقوله سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ﴾ نداء لرسول الله ﷺ، والمنادي هو الله جل جلاله، ونودي ﷺ بـ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ﴾، و﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ﴾ [المائدة: من الآية 41]، تعظيماً له، وهو سفير بين الله عز وجلَّ وبين خلقه، ليُبلّغ المنهج الّذي يريد الله سبحانه وتعالى أن نسير عليه، فالرّسول مُبلِّغ برسالة، والنّبيّ هو الّذي يُنبّأ من غير رسالة، ليس معه شرع جديد، إنّما يسير على شرع مَن سبقه من الرّسل، ومحمّد ﷺ جمع الأمرين معاً، فهو نبيّ ورسول، له خصوصيّات أُمر بها، ولم يؤمر بتبليغها، وهي مسائل خاصّة بالنّبوّة، وله أمور أخرى أُمر بها، وأُمر بتبليغها، وكلّ رسول نبيّ، وليس كلّ نبيّ رسولاً بالمعنى الاصطلاحيّ، وإلّا فهم جميعاً مُرسلون من قِبَل الله سبحانه وتعالى.

﴿لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ﴾: هو خطاب معاتبة لرسول الله ﷺ، وكثيراً ما نجد في القرآن الكريم عتاباً لرسول الله ﷺ، وهو عتاب لمصلحته لا عليه، -ولله تعالى المثل الأعلى- كمثل الأب عندما يُعاتب ولده الّذي أجهد نفسه في الدّراسة خوفاً عليه، وهذا تكريم له، كقضيّة: ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى﴾[عبس]، فالنّبيّ ﷺ يُجهد نفسه فوق طاقته، وهنا في قوله جل جلاله: ﴿لم تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ﴾، يُعاتب النّبيّ ﷺ؛ لأنّه ضيّق على نفسه، وحرّم عليها ما أحلّه الله سبحانه وتعالى، وهذه الآية تشير إلى أمرٍ أغضب النّبيّ ﷺ، فامتنع عن بعض ما ترغب فيه النّفس البشريّة من أمور حلّلها الله سبحانه وتعالى، والنّبيّ ﷺ لم يُحلّ ما حرَّم الله عز وجلَّ، بل حرّم على نفسه ما أحلّ الله سبحانه وتعالى له، وهذا ضدّ مصلحته، وكأنّ الله سبحانه وتعالى يقول له: لماذا تُرهِق نفسك؟ فهذا عتب لمصلحة النّبيّ ﷺ، وقد روت السّيّدة عائشة رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَمْكُثُ عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، وَيَشْرَبُ عِنْدَهَا عَسَلاً، فَتَوَاصَيْتُ أَنَا وَحَفْصَةُ: أَنَّ أَيَّتَنَا دَخَلَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ ﷺ فَلْتَقُلْ: إِنِّي أَجِدُ مِنْكَ رِيحَ مَغَافِيرَ، أَكَلْتَ مَغَافِيرَ، فَدَخَلَ عَلَى إِحْدَاهُمَا، فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: «لَا، بَلْ شَرِبْتُ عَسَلاً عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، وَلَنْ أَعُودَ لَهُ»، فَنَزَلَتْ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ﴾ [التّحريم: من الآية 1] -إِلَى-: ﴿إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ﴾ [التّحريم]([1]).

﴿تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ﴾: لتُرضي أزواجك، وأزواج جمع زوج.

﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾: وهذا دليل على أنّ الله سبحانه وتعالى قد غفر لرسوله ﷺ ما وقع فيه من تحريم ما أحلّه وأباحه جل جلاله، فالمغفرة من الله سبحانه وتعالى والرّحمة منه أيضاً، فالله سبحانه وتعالى يغفر الذّنوب، وهو رحيم لا يُعاجل في العقوبة.

([1]) صحيح البخاريّ: كتاب الطّلاق، بَابُ: ﴿لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ﴾[التّحريم: من الآية 1]، الحديث رقم (5267)، مغافير: جمع مغفور، وهو صمغ حلو له رائحة كريهة، ينضجه شجر يسمّى العرفط.