الآية رقم (10) - أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُوْلِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا

﴿أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ﴾: أعدّ: أي: أعددنا وهيّأنا، والّذي أعدّ هو الله القويّ القادر سبحانه وتعالى، وهو يُعدّها على قدر سعة قدرته، وقد أعدّ الحقّ سبحانه وتعالى العذاب الأليم لهم؛ أي: الشّديد إيلامه.

﴿عَذَابًا شَدِيدًا﴾: العذاب هو إيلام حيّ يشعر بالعذاب ويُحَسّ به، وهذا غير الإهلاك الّذي يُذهب الحياة، فالإهلاك والاستئصال يمنع الإحساس بالعذاب، ولا بدّ لأيّ قرية طغت وبغت أن ينالها شيء من العذاب، وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد أعدّ لهم عذاباً شديداً فناسب أن يقول هنا:

﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ﴾: وأمر التّقوى أمرٌ عجيب، فنجد الحقّ سبحانه وتعالى يقول: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ﴾، وأحياناً يقول: ﳋ ﳌ [البقرة: من الآية 24]، وتقوى الله سبحانه وتعالى؛ أي: خوف من صفات الجلال، والنّار هي نتيجة غضب الله سبحانه وتعالى.

﴿يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾: أولو الألباب هم أصحاب العقول الرّاجحة، والألباب جمع لبّ، واللّبّ هو جوهر الشّيء المطلوب، أمّا القشر فهو موجود لصيانة اللّبّ، وسُمّي العقل لُبّاً؛ لأنّه ينثر القشور بعيداً ويعطينا جوهر الأشياء وخيرها.

فاتّقوا الله سبحانه وتعالى يا أصحاب العقول الرّاجحة، والأفهام المستقيمة، من البشر، وحرّكوا الإيمان بعقولكم، وتذكّروا دائماً أنّ هذه الحياة ستذهب.

﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾: بدل من أولي الألباب؛ أي: أنّ أولي الألباب هم الّذين آمنوا؛ أي: الّذين آمنوا بالله سبحانه وتعالى إلهاً، ودخلوا معه في عقدٍ إيمانيٍّ، وليس في قلوبهم ريب ولا شكّ، بل يؤمنون أنّ القرآن الكريم مُوحَى به من الله سبحانه وتعالى، مُبَلَّغ إلى سيّدنا محمّد ﷺ بالوحي المنزّل من السّماء، والحقّ سبحانه وتعالى لم يحدّد في قوله جل جلاله: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ آمنوا بماذا؟ فالإنسان إن آمن بالله سبحانه وتعالى فقط فهذا يقتضي أن يبحث المؤمن بالله عز وجلَّ عن مطلوبه جل جلاله، ومطلوب الله سبحانه وتعالى إنّما جاء به رسول، لذلك فالإيمان بالله سبحانه وتعالى يقتضي أن يؤمن الإنسان برسول؛ لأنّ قُصارى ما يعطيه العقل للإنسان أن يؤمن بأنّ وراء الكون إلهاً خالقاً ومدبِّراً، وإيمانك برسول يُعدّ إيماناً بالكتاب الّذي جاء به، وكذلك إيماناً بالملائكة، وكان الّذين آمنوا من أولي الألباب، أو هم أولو الألباب؛ لأنّهم استخدموا عقولهم استخداماً صحيحاً، ووصلوا إلى الإيمان الحقّ بالله سبحانه وتعالى وبرسوله ﷺ وبكتابه الكريم، فلم تأخذهم الأهواء.

﴿قَدْ﴾: نحن نعلم أنّ ﴿قَدْ﴾ للتّحقيق، فـ ﴿قَدْ﴾ إذا دخلت على الفعل الماضي تكون للتّحقيق، وإذا دخلت على المضارع فهي للتّقليل أو التّكثير.

﴿أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا﴾: كلمة ﴿أَنْزَلَ﴾ تعني: أوجد وخلق من أعلى، وما دام كلّ شيء قد وجد بمشيئة مَن هو أعلى من الوجود كلّه، فكلّ شيء لمصلحتهم، فالمنهج من حيث العلوّ يأتي بــ (على)، ومن حيث الغاية يأتي بــ (إلى).

﴿قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا﴾: الذّكر باللّغة هو حفظ الشّيء أو استحضاره، وقد يكون الذّكر بمعنى القول؛ لأنّك لا تقول الشّيء إلّا بعد أن تستحضره، والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [النّحل: من الآية 44]، فأطلق الذّكر على القرآن الكريم، فالذّكر يأتي أحياناً مقصوداً به التّذكير بالقرآن الكريم، وأحياناً القرآن الكريم نفسه، وهو المنهج النّازل من السّماء وطبّقه رسول الله ﷺ، والحقّ سبحانه وتعالى يصف القرآن الكريم، فيقول: ﴿ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ﴾ [ص]، والذّكر ضدّ النّسيان، وقد وردت معان كثيرة للذّكر في القرآن الكريم، وأوّل هذه المعاني وقمّتها أنّ الذّكر حين يُطلَق يُراد به القرآن الكريم، يقول سبحانه وتعالى: ﴿ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ﴾[آل عمران]، وكذلك في قوله جلّ جلاله: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾[الحجر]، فيُطلَق الذّكر ويُراد به القرآن الكريم، ومرّة يُطلَق الذّكر ويُراد به الصّيت؛ أي: الشّهرة، وقد قال الحقّ سبحانه وتعالى لرسوله ﷺ عن القرآن الكريم: ﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ﴾ [الزّخرف: من الآية 44]؛ أي: أنّ القرآن الكريم شرف لك ولأمّتك.

الآية رقم (11) - رَّسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا

فمن نعمة الله عز وجلَّ علينا أنّه أرسل إلينا رسولاً يتلو علينا آياته سبحانه وتعالى، وقد جاء الرّسول ﷺ بآيات مقروءة ليلفت النّاس إلى الآيات المنظورة في الكون، والحقّ سبحانه وتعالى يقول: ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ [آل عمران: من الآية 164]، وهناك فرق بين التّلاوة والتّعليم، فالتّلاوة أن يتلو عليهم؛ أي: أنّ الرسول ﷺ هو الّذي يتلو، وأمّا التّعليم فهو أن تعرف معنى آيات الله سبحانه وتعالى وما جاءت به لتطبّقه وتعرف من أين جاءت، والنّبيّ ﷺ علّمهم تلاوة وقراءة القرآن الكريم وعلّمهم معانيه، وعلّمهم الحكمة، وهي السّنّة النّبويّة الشّريفة، الّتي هي البيان، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ﴾ [الأحزاب: من الآية 34]، فكتاب الله سبحانه وتعالى المقصود هنا، وآياته هي القرآن الكريم، يقول سبحانه وتعالى: ﴿تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ﴾[البقرة: من الآية 252].

﴿مُبَيِّنَاتٍ﴾: بكسر الياء هي رواية حفص وغيره، على صيغة اسم الفاعل؛ أي: أنّ الآيات تبيّن للنّاس ما يحتاجون إليه من الأحكام، أمّا قراءة الجمهور فهي: (مُبيَّنات)، بفتح الياء؛ أي: بيّنها الله عز وجلَّ وأوضحها، كقوله سبحانه وتعالى: ﴿قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ﴾[آل عمران: من الآية 118]، بيّن الله سبحانه وتعالى فيه الحلال والحرام، وقد قال سبحانه وتعالى في آيات أخرى: ﴿وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ﴾ [النّور: من الآية 34]، فالله سبحانه وتعالى قد أنزل الآيات الواضحة الّتي تضمن لكم شرف الحياة وطهارتها ونقاء النّسل، وهذه الآيات ما تركت شيئاً من أقضية الحياة إلّا تناولته، وأنزلت الحكم فيه، فلا توجد قضيّة إلّا والتّشريع نظمها، لذلك يقول سيّدنا عليّ كرّم الله وجهه عن القرآن الكريم: قَالَ: أَمَا إِنِّي قَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «أَلَا إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتْنَةٌ»، فَقُلْتُ: مَا الْمَخْرَجُ مِنْهَا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «كِتَابُ اللهِ فِيهِ نَبَأُ مَا قَبْلَكُمْ وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ، وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ، وَهُوَ الفَصْلُ لَيْسَ بِالهَزْلِ، مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ قَصَمَهُ اللَّهُ، وَمَنْ ابْتَغَى الهُدَى فِي غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللَّهُ»([1])، ومعنى ﴿مُبَيِّنَاتٍ﴾؛ أي: مبيّنات لاستقامة حركة الحياة.

﴿لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾: والرّسول عليه السلام عندما يأتي ليخرج النّاس من الظّلمات إلى النّور يريد أُناساً تفهم عنه، وتؤمن بالله عز وجلَّ، قال سبحانه وتعالى: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ [آل عمران: من الآية 164]، فالقرآن الكريم نزل ليُخرِج النّاس من الظّلمات إلى النّور، فيسير النّاس على هدى وعلى بصيرة.

﴿آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾: فلا يوجد إيمان دون العمل الصّالح، والصّالحات: هي جمع صالحة، وهي الأمر المستقيم، والإيمان هو اعتقاد في القلب وسلوك في العمل، فمن ترجم الإيمان إلى عمل، يدخله ربّه جنّات تجري من تحتها الأنهار، هذه الجنّات يكون خالداً فيها، وقد رتّب الحقّ سبحانه وتعالى على الإيمان به سبحانه وتعالى والعمل الصّالح ثواباً في الآخرة، فقال سبحانه وتعالى:

﴿وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾: فالحقّ سبحانه وتعالى مع الحياة الطّيّبة الّتي يمنحها لمن أطاعه بإيمانه وعمله الصّالح فيحيا في الدّنيا حياة مطمئنة بالإيمان، وفي الآخرة يُدخله سبحانه وتعالى جنّات، وليس جنّة واحدة، بل هي جنّات تجري من تحتها الأنهار، فهي تنبع من تحتها.

﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾: فجنّة الآخرة لا تزول عنهم ولا هم يُزَحزَحون عنها، والخلود أبداً هو المكث طويلاً طولاً لا ينتهي، فالمكث في الجنّة ينتقل من المكث طويلاً إلى المكث الدّائم.

﴿قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا﴾: كلمة ﴿رِزْقًا﴾ هنا تذكّرنا بالوعد الّذي قطعه الله سبحانه وتعالى على نفسه العليّة لمن اتّقى الله سبحانه وتعالى، فقال جلّ جلاله: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾ [الطّلاق: من الآية 2-3]، فالله سبحانه وتعالى يرزق من يتّقيه في الدّنيا رزقاً واسعاً من حيث لا يظنّ أو يحتسب، ويوسّع له في الجنّات رزقاً بما فيها من المطاعم والمشارب وسائر ما أعدّ لأوليائه في جنّة لا ينقطع نعيمها، فهذا وعد كريم من ربّ رحيم، يعد كلّ من آمن به وعمل صالحاً أن يدخله جنّات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً، قد أحسن الله سبحانه وتعالى له فيها رزقاً، وهو نعيم الجنّة الّذي لا ينفد، ولا ينقطع أبداً، والحقّ سبحانه وتعالى لم يقل هنا: (قد أحسن الله لهم)، بل قال سبحانه وتعالى: ﴿قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ﴾ بالإفراد، دلالة على أنّ لكلّ فرد رزقاً على وجه الخصوص به، لا رزقاً على العموم، والنّاس يتفاوتون في رزق الدّنيا، وأيضاً يتفاوتون في رزق الجنّة من مطاعم ومشارب ومساكن، أمّا الّذي يشتركون فيه جميعاً فهو الخلود في الجنّة، لذلك قال سبحانه وتعالى: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾ بالجمع، فالخلود يشمل الجميع.

([1]) سنن التّرمذيّ: أبواب فضائل القرآن، باب ما جاء في فضل القرآن، الحديث رقم (2906).

الآية رقم (12) - اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا

فمنهج الله سبحانه وتعالى الذي أنزله على رسله عليه السلام قد عرّفنا أنّ الله جل جلاله هو الّذي خلق لنا هذا الكون وخلقنا، ودقّة الخلق وعظمته تدلّ على عظمة الله سبحانه وتعالى، والله سبحانه وتعالى يقول هنا: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ﴾، فكما خلق سبع سموات خلق سبع أراض، فحين تكلّم الحقّ سبحانه وتعالى عن الأرض والسّماء قال: إنّها سبع سموات، ولم يقل: سبع أرضين، بل قال: ﴿وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ﴾، فدلّ على أنّ الأرض سبع كالسّماء، وإن كانت السّماء كلّ ما أظلّك، فالأرض كلّ ما أقلّك، ولقد أخبرنا القرآن الكريم أنّ السّموات سبع، وأخبرنا النّبيّ ﷺ أنّه مرّ بها في رحلة المعراج، فقال: في الأولى كذا وكذا، وفي الثّانية كذا وكذا، أمّا بالنّسبة إلى الأرض فلم يقل، وهنا تحدّث العلماء كثيراً، فالسّماء سقف، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ﴾[الأنبياء]، وهو سقف من صنع الخالق العظيم، سقف يغطّي الأرض كلّها بلا أعمدة يراها البشر، لذلك قال سبحانه وتعالى: ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا﴾[لقمان: من الآية 10]، وقال جلّ جلاله: ﴿الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا﴾[الملك: من الآية ٣]، سماء فوق سماء، ﴿مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ﴾[الملك: من الآية ٣].

﴿وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ﴾: فالله سبحانه وتعالى خلق من الأرض مثل سبع السّموات، ولكن هل وصل العلم لماهيّة هذه الأرضين؟ الجواب: ما زال العلم حتّى الآن عاجزاً عن الإجابة.

﴿يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ﴾: أمر الله سبحانه وتعالى بين السّماء السّابعة والأرض السّابعة، فبين كلّ سمائين -كما قال بعض العلماء- أرض، كيف؟ لا ندري.

والأمر: قد يكون الوحي، وقد يكون القضاء والقدر، وذلك بحياة بعض وموت بعض، وغنى قوم وفقر قوم، ولله سبحانه وتعالى في أمره تدابير، فينزل سبحانه وتعالى المطر، ويُخرج النّبات، ويأتي باللّيل والنّهار والصّيف والشّتاء، وقال بعض العلماء: في كلّ أرض من أرضه وسماء من سمائه خلقٌ من خلقه، وأمرٌ من أمره، وقضاء من قضائه، فالأمر يعمّ الوحي وجميع ما يأمر به سبحانه وتعالى من تصريف الرّياح والسّحاب وغير ذلك من عجائب صُنعه، لا إله غيره.

﴿لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾: فقضاء الله سبحانه وتعالى وأمره يتنزّل بين ذلك، لكي تعلموا أيّها النّاس كُنْه قدرته وسلطانه، وأنّه لا يتعذّر عليه شيء أراده، ولا يمتنع عليه أمر شاءه، ولكنّه سبحانه وتعالى على ما يشاء قدير، فكلّ شيء يدخل في إرادة الله وقدرته جل جلاله، فالله سبحانه وتعالى له ملك السّموات والأرض، وللّه عز وجلَّ طلاقة القدرة في مُلكه.

﴿وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾: فالله سبحانه وتعالى مُدرك للأشياء والخواطر كلّها، فما بالسّمع يسمعه، وما بالعين يراه، وما في الصّدر يعلمه، وما هو في أيّ حِسّ من أحاسيس الإنسان هو عليم به؛ لأنّه أحاط بكلّ شيء علماً، والإحاطة تقتضي العلم والقدرة على النّاس، فلن يُفلِتوا من علم الله سبحانه وتعالى ولا من قدرته، ولا بدّ من العلم مع القدرة، لذلك قال سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ﴾[الإسراء: من الآية 60]، فإحاطته سبحانه وت       عالى بالنّاس تعني أنّه سبحانه وتعالى يعلمهم، ويقدر على تنفيذ أمره فيهم جميعاً.

الآية رقم (4) - وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا

﴿وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ﴾: أي: إنّ عدّة النّساء الآيسات، وهنّ اللّاتي قد انقطع حيضهنّ لكبرهنّ ثلاثة أشهر، عوضاً عن الثّلاثة قروء في حقّ من تحيض، كما دلّت على ذلك آية البقرة: رقم (٢٢٨).

﴿إِنِ ارْتَبْتُمْ﴾: إن شككتم وجهلتم كيف عدتهنّ.

﴿وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ﴾: وكذا الصّغيرات اللّائي لم يبلغن سنّ الحيض عدّتهنّ ثلاثة أشهر كعدّة الآيسة.

﴿وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾: عدّة النّساء الحوامل؛ أي: انتهاء عدتهنّ يتمّ بوضع الحمل، ولو كان بعد الطّلاق أو الموت بساعة، في قول جمهور العلماء.

﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا﴾: أي: من يلتزم بأوامر الله سبحانه وتعالى، ويأتمر بما أمر به سبحانه وتعالى، وينته عمّا نهى عنه، يسهّل عليه أمره كلّه في الدّنيا والآخرة، وهذا تنويه بفضيلة التّقوى في الدّنيا والآخرة.

الآية رقم (5) - ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا

﴿ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ﴾: أي: جميع الأحكام المتقدّمة في الطّلاق والعدّة والسّكن هو أمر الله سبحانه وتعالى الّذي أمر به عباده، وأنزله إليهم في قرآنه الكريم.

﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ﴾: ومن يخف الله عز وجلَّ، بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه، يمح الله سبحانه وتعالى عنه ذنوبه من صحائف أعماله، ولا يؤاخذه بها، كما وعد بذلك في قوله: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾ [هود: من الآية ١١٤]، ويضاعف له جزاء حسناته، ويجزل له المثوبة على عمله. وقد كرّر الأمر بالتّقوى للتّأكيد عليها، وكونها عماد النّجاة والسّعادة الدّنيويّة والأخرويّة.

﴿وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا﴾: سيكون له الأجر مضاعفاً في الآخرة.  

الآية رقم (6) - أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِن كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى

لقد رتّب الحقّ سبحانه وتعالى حقوقاً للمرأة المطلّقة في السّكن والنّفقة، لم يرتّبها دين من الأديان، ولا تشريع من الشّرائع، راعى فيها الحقّ سبحانه وتعالى أحوال المرأة من حيث الطّلاق الرّجعيّ، أو البائن بينونة صغرى أو كبرى، ورتّب حقوقاً للمطلّقة الحامل؛ لأنّها أولى بالرّعاية، هي وابنها الّذي من حقّه الرّضاعة وإنفاق أبيه على رضاعته، وأمر الجميع بالتّشاور والتّناصح من أجل مصلحة طفلهما رغبة في إرضاء الله سبحانه وتعالى، والإسلام يحفظ للمرأة حقوقها، أيّاً كانت الحالة الّتي طُلِّقَت عليها، فإن كان طلاقها رجعيّاً احتفظ لها بحقّ السّكنى في مسكن الزّوجيّة، وكذلك النّفقة عليها، عسى أن يذيب القرب ما حدث بينهما من جفاء فيرجعها زوجها، وتستمرّ بهما الحياة، ويستقرّ الأمر بينهما بعد الخصام، وينشأ الأولاد بينهما في جوٍّ سليم، بل إنّ الله سبحانه وتعالى حرّم على الزّوج طرد مطلّقته الرّجعيّة من البيت، أو إرجاع الزّوجة إلى بيت أهلها، إلّا إن جاءت بفاحشة واضحة لا تحتمل اللّبس أو الشّكّ أو عدم اليقين.

﴿أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ﴾: أي: أسكنوا المطلّقات في مسكن مشابه لما تسكنون فيه بقدر أحوالكم، وقدر سعتكم وطاقتكم، ولو كان ذلك في حجرة من غرف الدّار الّتي تسكنون فيها، فالوجد: الغنى والمقدرة.

﴿وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ﴾: ولا تلحقوا بهنّ ضرراً في النّفقة والسّكنى، فتلجئوهنّ إلى الخروج من المسكن، أو التّنازل عن النّفقة.

وهذا بيان ما يجب للمطلّقات من السّكنى في المستوى الملائم لحال الرّجل؛ لأنّ السّكنى نوع من النّفقة الواجبة على الزّوج، فإذا طلّق الرّجل زوجته، وجب عليه أن يسكنها في منزل حتّى تنقضي عدّتها، دون مضارّة في السّكنى أو النّفقة.

﴿وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾: أي: إن كانت المرأة المطلّقة حاملاً، وجب الإنفاق عليها حتّى تضع حملها، ولا خلاف بين العلماء في وجوب النّفقة والسّكنى للحامل المطلّقة، وقيل: تجب النّفقة والسّكنى لكلّ مطلّقة، ولو مبتوتة، وإن لم تكن ذات حمل، لقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ﴾، وترك النّفقة من أكبر الأضرار، ثمّ أمر الله سبحانه وتعالى بدفع الأجرة على الرّضاع، والأجرة هنا عبارة عن نفقة، فقال:

﴿فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾: أي: فإن أرضعت الأمّهات المطلّقات أولادكم بعد ذلك، فأعطوهنّ أجور إرضاعهنّ.

﴿وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ﴾: وتآمروا وتشاوروا أيّها الأزواج والزّوجات الّذين وقع بينهم الفراق بالطّلاق بما هو جميل معروف، وحسن غير منكر، في شأن الولد بما يضمن أوضاعه الصّحّيّة والمعاشيّة، وما تحتاجه المرأة في أثناء الرّضاع من أدوية ونفقات وغيره، من غير إضرار ولا مضارّة، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ﴾[البقرة: من الآية ٢٣٣]، وقال جلّ جلاله: ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾[البقرة: من الآية ٢٣٣]، والآية دليل على أنّ أجرة الرّضاع للأولاد على الأزواج، وحقّ الحضانة للزّوجات.

﴿وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى﴾: أي: وإن تضايقتم واختلفتم في شأن الإرضاع، فأبى الزّوج أن يُعطي الأمّ النّفقة، وأبت الأمّ أن ترضعه، فيستأجر الأب مرضعة أخرى ترضع ولده، وذلك إذا قَبِل الولد ثدي امرأة أخرى، وإلّا وجب الإرضاع على الأمّ. ثمّ أبان الله سبحانه وتعالى مقدار النّفقة، فقال:

الآية رقم (7) - لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا

﴿لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ﴾: اللّام في كلمة: ﴿لِيُنْفِقْ﴾ هي لام الأمر، وقد جاءت مكسورة؛ لأنّها في أوّل الجملة، ولا يُبتدأ في اللّغة بحرف ساكن، فحُرِّكت بالكسر للتّخلّص من السّكون، ثمّ يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ﴾، فجاءت لام الأمر ساكنة؛ أي: لينفق على المولود والده أو وليّه بحسب طاقته أو قدرته، ومن كان فقيراً مقتّراً أو مضيّقاً عليه في الرّزق، فلينفق ممّا أعطاه الله سبحانه وتعالى من الرّزق بقدر سعته، ليس عليه إلّا ذلك، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة: من الآية ٢٨٦]، وقال هنا:

﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا﴾: أي: لا يكلّف الله سبحانه وتعالى نفساً إلّا ما أعطاها من الرّزق، فلا يكلّف الفقير بأن يُنفق على الزّوجة والقريب والرّحم ما ليس في وسعه، كنفقة الغنيّ.

وفي عموم كلمة الإنفاق، بغضّ النّظر عن موضوع المطلقة وحقّها في السّكن والنّفقة عليها وحقّ الإرضاع، هناك سياسة عامّة للإنفاق في الإسلام، وهي أن يُنفق ذو سعة من سعته، فكلّما وسّع الله سبحانه وتعالى عليك، اتّسعت دائرة الإنفاق في ذلك، فتنفق على حسب الاستطاعة، فالله سبحانه وتعالى بشكل عامّ عندما يُعطي التّكليف، فهذا التّكليف لا يكون إلّا وفق الاستطاعة، والحقّ سبحانه وتعالى يأمر بالإنفاق، فالإنفاق فيه حركة للمجتمع، وفيه تكافل، أمّا عدم الإنفاق والتّقتير فإنّه يوقف حركة المجتمع، فعلى الإنسان دائماً أن يكون جاهزاً للإنفاق، وقد روي عن أبي هريرة رضي الله عنه، قَالَ: أَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ بِالصَّدَقَةِ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عِنْدِي دِينَارٌ، فَقَالَ: «تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى نَفْسِكَ»، قَالَ: عِنْدِي آخَرُ، قَالَ: «تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى وَلَدِكَ»، قَالَ: عِنْدِي آخَرُ، قَالَ: «تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى زَوْجَتِكَ» -أَوْ قَالَ: «زَوْجِكَ»-، قَالَ: عِنْدِي آخَرُ، قَالَ: «تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى خَادِمِكَ»، قَالَ: عِنْدِي آخَرُ، قَالَ: «أَنْتَ أَبْصَرُ»([1])، فلو حسبنا دوائر كلّ إنسان من الوالدين والأقربين وما يكون حوله من اليتامى والمساكين، فسنجد الدّوائر المتماسكة قد شملت المحتاجين كلّهم في المجتمع، وهكذا يكون المجتمع قد حمل بعضه بعضاً، ولا يوجد بعد ذلك إلّا العاجز عن العمل.

والإنفاق: هو الإخراج؛ أي: إخراج المال عن ملكيّة الإنسان، فإن أردت أن تفتح لنفسك باب البرّ فعليك أن تُنفق ممّا آتاك الله عز وجلَّ، وقلنا: إنّ مناسبة الآية هنا هي الإنفاق على قدر السّعة، لقول الله سبحانه وتعالى: ﴿أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ﴾؛ أي: ممّا تجدونه دون إرهاقكم بشيء فوق طاقتكم، ﴿وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾، فبيّن الحقّ سبحانه وتعالى أنّ الأمر للرّجل بالإنفاق مرتبط بقدر سعة ماله وغناه ورزقه، فينبغي أن تكون النّفقة في حدود ما يناسب حالة الزّوج. ثمّ وعد الله سبحانه وتعالى بالعطاء والفضل، فقال:

﴿سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا﴾: أي: سيجعل الله سبحانه وتعالى بعد الضّيق والشّدّة سعة وغنى، وهذا وعد منه سبحانه وتعالى، ووعده حقّ لا يخلفه سبحانه وتعالى، وهو بشرى بالفرج بعد الكرب، كما قال جلّ جلاله: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ﴾ [الشّرح]، هكذا خرج النّبيّ ﷺ مَسْرُوراً فَرِحاً وَهُوَ يَضْحَكُ، وَهُوَ يَقُولُ: «لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ»([2])، وقد كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: “ما أبالي على أيّ حال رجعت إلى أهلي؛ لئن كانوا على عسر، إنّي لأنتظر اليسر، وإن كانوا على يسر إنّي لأنتظر العسر”، فمن بعد الشّدّة يأتي الرّخاء، ومن بعد الضّيق تأتي السّعة، ومن بعد الفقر يأتي الغنى، والله سبحانه وتعالى يريد بنا اليسر ولا يريد بنا العسر، فالعسر والعنت والمشقّة كلّها ليست في حسابنا: ﴿سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا﴾.

([1]) سنن أبي داود: كتاب الزكاة، باب في صلة الرّحم، الحديث رقم (1691).

([2]) المستدرك على الصّحيحين للحاكم: كتاب التّفسير، تفسير سورة ألم نشرح، الحديث رقم (3950).

الآية رقم (8) - وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُّكْرًا

﴿وَكَأَيِّنْ﴾: هي للتّكثير، مثل قولنا: (كم)، فعندما تسمع: كأيّن؛ أي: كم مرّة؟ والمراد الكثرة الّتي تفوق الحصر والعدّ.

﴿مِنْ قَرْيَةٍ﴾: القرية هي تجمّع جماعة من النّاس يسكنون في مكان محدود، والمراد بالقرية في القرآن الكريم ليس قرية الرّيف الّتي نعرفها اليوم؛ لأنّ القرية في عرف العربيّ القديم هي المكان الّذي يقابل العاصمة، أمّ القرى؛ أي: مكّة.

﴿عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ﴾: العتوّ: الكبرياء والإباء، عتت: عصت واستكبرت، وقد ذكر القرآن الكريم كثيراً من القرى تمرّدت عن أمر الله عز وجلَّ، وأكثر قرية ذكرها الحقّ سبحانه وتعالى في القرآن الكريم هي قرية قوم لوط، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ﴾[الأنبياء]، وقال جلّ جلاله: ﴿وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ﴾[الفرقان: من الآية 40]، ﴿وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ﴾ [العنكبوت]، فهناك كثير من القرى عتت عن أمر ربّها؛ أي: وكثير من أهل القرى عصوا أمر الله سبحانه وتعالى ورسله، وأعرضوا وتكبّروا، وتمرّدوا عن اتّباع أمر الله عز وجلَّ ومتابعة رسله، حاسبها الله سبحانه وتعالى بأعمالها الّتي عملتها في الدّنيا، وعذّب أهلها عذاباً عظيماً منكراً في الآخرة.

الآية رقم (9) - فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا

﴿فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا﴾: الإذاقة هي أشدّ الإدراكات تأثيراً، فالإذاقة هي الإحساس الشّديد بالمطعوم، شراباً كان أم طعاماً، إلّا أنّه تعدّى كلّ مُحسّ به، ولو لم يكن مطعوماً أو مشروباً، والحقّ سبحانه وتعالى يقول: ﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ﴾[الدّخان]، والحقّ سبحانه وتعالى ينبّه بلفظ الإذاقة: ﴿فَذَاقَتْ﴾ أنّ أهل هذه القرى أحسّت بعذاب الله سبحانه وتعالى بالحواسّ كلّها، حتّى تلك الحاسّة المختفية داخل النّفس.

﴿وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا﴾: عاقبة ذنبها وعتوّها هو الخسران، واستخدام الحقّ سبحانه وتعالى لكلمة: ﴿خُسْرًا﴾ تدلّ على أنّهم كانوا يعتقدون أنّهم بأعمالهم حقّقوا لأنفسهم نفعاً، بينما هم لم يحقّقوا لأنفسهم إلّا الخسران المبين.

﴿خُسْرًا﴾: تعني أنّها خسران مبين يلازم الإنسان ولا ينفكّ عنه، وهو خسران لا يقتصر على الدّنيا فقط، إنّما يمتدّ للآخرة حيث لا عِوَض لخسارتها.

الآية رقم (0) - مقدمة تفسير سورة الطلاق

سورة الطَّلَاق سورة مدنيّة، عدد آياتها: (12)، ترتيبها في المصحف الشّريف (65)، نزلت بعد سورة الإنسان، هذه السّورة تتعلّق بأحكام الطّلاق، وهنا يجب أن نقف قليلاً، فالطّلاق هو من تشريعات الإسلام، وهو أبغض الحلال عند الله عز وجلَّ، وبعض النّاس لمجرّد ذكر كلمة الطّلاق يخطر بباله تعسّف وغضب وظلم الرّجل للمرأة، وكلّ المعاني من الممارسات السّلبيّة والعادات الاجتماعيّة غير الدّينيّة، لذلك وضع المولى سبحانه وتعالى سورة في القرآن الكريم اسمها سورة الطّلاق، فيها أحكام تتعلّق بالطّلاق، والطّلاق كما قال سبحانه وتعالى: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾[البقرة: من الآية 229]، فالطّلاق مرّتان، ثمّ إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، فذكر مع الطّلاق المعروف والإحسان، والزّواج أصلاً هو عقد شراكة حياة بين رجل وامرأة، فإذا سُدَّت الأبواب كلّها، وكانت هناك ظروف قاهرة، ليُصبِح من الأفضل فسخ هذا العقد ليكون الطّلاق، ولا يكون الطّلاق لنزوات وغضب أو لأوّل عقبات تظهر بمسيرة الحياة بين الرّجل والمرأة؛ لأنّ الزّواج يترتّب عليه تكوين أسرة وأولاد، ولهذه الأسرة أحكام تتعلّق بها، وبصيانتها، ومن ضمن الأحكام الّتي تصون الأسر، هي أحكام الطّلاق، وكما قال ﷺ: «أَبْغَضُ الحَلَالِ إِلَى اللَّهِ الطَّلَاقُ»([1])، فالطّلاق يكون لأسباب قاهرة، والله سبحانه وتعالى وضع قيوداً وضوابط وأحكاماً تتعلّق بهذا الطّلاق.

([1]) سنن ابن ماجه: كتاب الطّلاق، باب حدّثنا سُوَيد بن سعيد، الحديث رقم (2018).

الآية رقم (1) - يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا

﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾: الخطاب للنّبيّ ﷺ، قال سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ﴾[الأحزاب: من الآية 1]، أليس هو على تقوى من الله عز وجلَّ؟ فالآية تبليغ لأمّة النّبيّ ﷺ، وأحياناً يقول سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ﴾ [المائدة: من الآية 41]، والفارق ما بين النّبيّ والرّسول أنّ الرّسول تكون لديه رسالة، أمّا النّبيّ فلا يكون معه شرع جديد ولا رسالة، وإنّما يُنَبّأ ويأتيه الوحي فيكون نبيّاً، فهناك أنبياء رسل، وهناك أنبياء فقط، أمّا الرّسول فحتماً يكون نبيّاً.

والمعنى هنا: يا أيّها الرّسول والمؤمنون به إذا أردتم تطليق النّساء وعزمتم عليه، ﴿فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾: وبعض النّاس يأخذون الأمور بشكل سطحيّ، ويعترضون على وجود العدّة، فالعدّة من أحكام الطّلاق الأساسيّة الّتي تحفظ حقوق المرأة، وهنا مباشرة عندما تكلّم سبحانه وتعالى عن الطّلاق، قال: ﴿لِعِدَّتِهِنَّ﴾، والمعنى: إذا أردتم تطليق النّساء وعزمتم على الطّلاق، فيجب أن يكون الطّلاق مستقبِلاً موضوع العدّة قبل وقت العدّة،  والمراد الأمر بالطّلاق في طهر لم يقع فيه جماع، والنّهي عن إيقاعه في الحيض، كما وردت السّنّة الصّريحة بذلك في حديث ابن عمر رضي الله عنهما، فعن سَالِم، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما، أَخْبَرَهُ: أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، فَذَكَرَ عُمَرُ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَتَغَيَّظَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ثُمَّ قَالَ: «لِيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ يُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ فَتَطْهُرَ، فَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فَلْيُطَلِّقْهَا طَاهِراً قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا، فَتِلْكَ العِدَّةُ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ عز وجلَّ»([1])، والآية دليل على حرمة الطّلاق في الحيض، وذكر الفقهاء أنّ الطّلاق نوعان:

1- طلاق سنّيّ، 2- طلاق بدعيّ.

الطّلاق السّنّيّ: هو الطّلاق في طهر لا جماع فيه، أو طلاق في أثناء حمل قد استبان، وسمّي طلاق السّنّة لاتّفاقه مع ما ورد في القرآن الكريم والسّنّة الشّريفة.

أمّا الطّلاق البدعيّ: فهو الطّلاق في أثناء الحيض، أو في طهر قد تمّ فيه الجماع، خشية الحمل، وسمّي طلاق البدعة للزّيادة على الأقراء الثّلاثة؛ لأنّها إذا طُلّقت وهي حائض لم تحسب حيضتها، بل تزيد على ثلاثة أقراء فتطول العدّة عليها، وهو حرام لإلحاقه الضّرر بالزّوجة، بتطويل المدّة الّتي تنتظرها لانتهاء العدّة؛ لأنّ بقيّة الحيض لا تُحسَب من العدّة عند القائلين بأنّ الأقراء هي الأطهار، وكذلك الطّهر الّذي بعد الحيضة الّتي طُلِّقت فيها عند القائلين بأنّ الأقراء الحيضات، ولا بدّ من حيضات ثلاث كاملة، وألحق الفقهاء بذلك في الحرمة الطّلاق في النّفاس، ونصّت السّنّة النّبويّة على صورة الطّلاق البدعيّ المحرّم في طهر جامعها فيه، إذ ربّما تحمل، ويندم الرّجل على الطّلاق، لكنّ الخلع في الحيض بعوض من المرأة ليس محرّماً عند كثير من الفقهاء؛ لأنّ بذلها المال يُشعر بحاجتها إلى الخلاص، وبرضاها بتطويل المدّة، والله سبحانه وتعالى قال: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾[البقرة: من الآية ٢٢٩]، وأذن النّبيّ ﷺ لثابت بن قيس في الخلع على مال، دون سؤال عن حال زوجته وقتها، والأفضل بالاتّفاق كون الطّلقة مرّة واحدة، ويكره عند مالك الثّلاث متفرّقة أو مجموعة، وعند الحنفيّة: يكره الزّيادة على الواحدة في طهر واحد، ثمّ أمر الله سبحانه وتعالى بضبط العدّة وإحصاء وقتها، فقال:

﴿وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ﴾: أي: احفظوها واعرفوا ابتداءها وانتهاءها، لتكون عدّة كاملة، وهي ثلاثة قروء تامّة، والخطاب للأزواج، وضبط العدّة واجب لإجراء أحكامها فيها من تحديد حقّ الرّجعة للزّوج والإشهاد عليها، ونفقة الزّوجة وسكناها، وعدم خروجها من بيتها قبل انقضائها.

﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ﴾: وهذا الّذي يضمن تنفيذ الأوامر والأحكام الإلهيّة في موضوع الطّلاق فلا تعصوه فيما أمركم، ولا تضارّوا نساءكم بتطويل العدّة على المرأة، أو لتحرموها من حقوقها.

﴿لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ﴾: نسب البيوت إلى الزّوجات؛ أي: لا تخرجوا المطلّقات من بيوتهنّ في مدّة العدّة، فلكلّ امرأة معتدّة حقّ السّكنى على الزّوج، ما دامت معتدّة منه، فليس للرّجل أن يخرجها، ولا يجوز لها أيضاً الخروج ما دامت في العدّة إلّا لأمر ضروريّ، رعاية لحقّ الزّوج، وقد أضاف البيوت إليهنّ، وهي لأزواجهنّ لتأكيد النّهي عن الإخراج والخروج، وهناك حرمة في إخراج النّساء من البيوت.

﴿إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾: أي: لا تخرجوهنّ من بيوتهنّ إلّا إذا ارتكبن فاحشة الزّنى، أو إذا نشزن، أو صدر منهنّ بذاءة في اللّسان واستطالة على السّاكن معهنّ في ذلك البيت من أهل الرّجل، فحينئذٍ يحلّ إخراجهنّ من المساكن لبذاءتهنّ وسوء خلقهنّ.

﴿وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾: أي: وهذه الأحكام الّتي بيّنها الله سبحانه وتعالى لعباده هي حدود الله عز وجلَّ الّتي حدّها لهم، لا يحلّ لهم أن يتجاوزوها إلى غيرها، ومن يتجاوز هذه الحدود المذكورة فقد أوقع نفسه في الظّلم، وأضرّ بها، وأوردها مورد الهلاك، ثمّ ذكر الله سبحانه وتعالى علّة تحريم تعدّي حدود الله عز وجلَّ، فقال:

﴿لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا﴾: أي: لا تدري أيّها المطلِّق، ما الّذي سيحدث بعد ذلك، فإنّما أبقينا المطلّقة في منزل الزّوج في مدّة العدّة، لعلّ الإلفة تعود إليهما، ولعلّها إذا بقيت في بيتها أن يؤلّف الله سبحانه وتعالى بين قلوبهما فيتراجعا، بأن يراجعها الزّوج، فيكون ذلك أيسر وأسهل، فالمقصود بالآية الرّجعة، وهذا واقع غالب، فإنّ غالب الطّلاق يحدث نتيجة خلافات وغضب، أو مكايدة ظاهريّة، ثمّ تزول عوامل القلق، وتهدأ الأعصاب، ويعود الرّجل إلى عقله ووعيه، ويحسّ بقسوة الطّلاق، ويتذكّر محاسن زوجته، ويغضّ النّظر عن مساوئها، كما قال ﷺ فيما أخرجه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: «لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً، إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقاً رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ»([2])، والحديث مؤيّد للآية: ﴿فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾[النّساء: من الآية ١٩]، وقد تكون المرأة حاملاً، ثمّ بيّن الله سبحانه وتعالى الحكم عند الاقتراب من نهاية العدّة، فقال جلّ جلاله:

([1]) صحيح البخاريّ: كتاب تفسير القرآن، باب 326، الحديث رقم (4908).

([2]) صحيح مسلم: كتاب الرّضاع، باب الوصيّة بالنّساء، الحديث رقم (1469). ومعنى: «لا يفرك مؤمن مؤمنة»، قال أهل اللّغة: فركه يفركه إذا أبغضه، والفرك: البغض.

الآية رقم (2) - فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا

﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾: أي: إذا شارفن على انقضاء العدّة، قاربت العدّة على الانتهاء، ولكنّها لم تنته تماماً، فلكم أيّها الأزواج اختيار أحد الأمرين: إمّا الإمساك بالمعروف، وهو الرّجعة إلى عصمة الزّوج والاستمرار في الزّوجيّة، مع الإحسان إليها في الصّحبة، وإمّا المفارقة بالمعروف؛ أي: تركهنّ إلى انقضاء عدتهنّ مع إيفاء حقّهنّ واتّقاء الإضرار بهنّ، من غير توبيخ ولا تعنيف ولا مشاتمة، بل تُطلّق المرأة على وجه جميل وسبيل حسن، أمّا الإمساك للمضارّة أو التّسريح مع الأذى ومنع الحقّ، فإنّ ذلك لا يحلّ لأحد. ثمّ أمر الله سبحانه وتعالى بالإشهاد على الرّجعة أو الفراق، فقال:

﴿وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾: أي: وأشهدوا على الرّجعة إن راجعتم، أو المفارقة إن فارقتم، قطعاً للنّزاع، وحسماً لمادّة الخصومة أو الإنكار، وأدّوا الشّهادة أيّها الشّهود، وأتوا بها خالصة لوجه الله سبحانه وتعالى، وتقرّباً إليه لإظهار الحقّ، دون تحيّز أو مجاملة لأحد الخصمين، المشهود له أو عليه، وهذه الشّهادة على الرّجعة أو الفرقة مندوبة، والأمر للنّدب والاستحباب عند أئمّة المذاهب، كما في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ﴾[البقرة: من الآية ٢٨٢]، ودليل صرف الأمر عن الوجوب الإجماع على عدم الوجوب عند الطّلاق، فكذلك عند الإمساك.

وقوله: ﴿وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ﴾: دليل على وجوب أداء الشّهادة عند القضاة على الحقوق كلّها؛ لأنّ الشّهادة هنا اسم للجنس، وإنّما حثّ سبحانه وتعالى على أداء الشّهادة لإظهار الحقّ، وترك التّكاسل والتّهرّب من المشاقّ في الذّهاب إلى المحاكم وانتظار القضاة.

﴿ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾: أي: ذلكم المذكور الّذي أمرناكم به من الإشهاد على الرّجعة أو الفرقة وإقامة الشّهادة خالصة لله سبحانه وتعالى، وإيقاع الطّلاق على وجه السّنّة، وإحصاء العدّة، والكفّ عن الإخراج والخروج، إنّما يأتمر به من يؤمن بالله سبحانه وتعالى واليوم الآخر، ويخاف عقاب الله عز وجلَّ في الدّار الآخرة، وخصّ المؤمن؛ لأنّه المنتفع بذلك دون غيره، ثمّ أكّد الله سبحانه وتعالى بجملة معترضة وجوب احترام هذه الأحكام والتزام حدود الله سبحانه وتعالى بقوله:

﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾: أي: ومن يتّق الله جل جلاله فيلتزم بما أمره به، ويترك ما نهاه عنه، ويقف عند حدوده الّتي حدّها لعباده، يجعل له من أمره مخرجاً أو مخلصاً ممّا وقع فيه، ويرزقه من وجه لا يخطر بباله، ولا يكون في حسابه، وهذا دليل على أنّ التّقوى سبيل النّجاة من المآزق والهموم والغموم الدّنيويّة والأخرويّة وعند الموت، وهي أيضاً سبب للرّزق الطّيّب الحلال الواسع غير المتوقّع، روى الإمام أحمد عن أبي ذرّ رضي الله عنه قال: جَعَلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَتْلُو عَلَيَّ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾ [الطّلاق: من الآية 2]، حَتَّى فَرَغَ مِنَ الْآيَةِ، ثُمَّ قَالَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ لَوْ أَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ أَخَذُوا بِهَا لَكَفَتْهُمْ»([1])، وعَنْ مَسْرُوقٍ، وَشُتَيْرِ بْنِ شَكَلٍ الْعَبْسِيِّ، قَالَا: جَلَسْنَا فِي الْمَسْجِدِ فَثَابَ إِلَيْهِمَا، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: إِنَّهُ لَمْ يُقْدِمْ إِلَيْنَا إِلَّا أَنَّا لَنُحَدِّثُهُمْ، فَإِمَّا أَنْ تُحَدِّثُهُمْ فَأُصَدِّقُكَ، وَإِمَّا أَنْ أُحَدِّثَهُمْ وَتُصَدِّقُنِي، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بن مسعود يَقُولُ: “أَعْظَمُ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ آيَةُ الْكُرْسِيِّ”، قَالَ الْآخَرُ: صَدَقْتَ، قَالَ الْآخَرُ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ يَقُولُ: “أَجْمَعُ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ﴾[النّحل: من الآية 90]”، قَالَ: صَدَقْتَ، وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: “أَشَدُّ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ تَفْوِيضاً: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾ [الطّلاق: من الآية 2]”، قَالَ: صَدَقْتَ، قَالَ وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: “أَكْبَرُ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ فَرَجاً: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ﴾[الزّمر: من الآية 53]”، قَالَ: صَدَقْتَ([2])، فهذه الآية جاءت لبيان أنّه من يتّق الله عز وجلَّ يجعل له مخرجاً إن كان في ضيق.

   

الآية رقم (3) - وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا

﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾: أي: ومن يثق بالله سبحانه وتعالى فيما نابه وفوّض أمره إليه بعد اتّخاذ الأسباب، ومنها السّعي لكسب الرزق، كفاه الله سبحانه وتعالى ما أهمّه في أموره جميعها؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى هو القادر على كلّ شيء، الغنيّ عن كلّ شيء.

﴿إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ﴾: إنّ الله سبحانه وتعالى يبلغ ما يريده، ولا يفوته مراد، ولا يعجزه مطلوب.

﴿قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾: قد جعل للأشياء قدراً قبل وجودها، وقدّر لها أوقاتها، فجعل سبحانه وتعالى للشّدّة أجلاً تنتهي إليه، وللرّخاء أجلاً ينتهي إليه، وإذا كان الرّزق وغيره من الأشياء لا يكون إلّا بتقدير الله سبحانه وتعالى، ولا يقع إلّا وفق علمه، فليس للعاقل إلّا التّسليم للقدر، كما قال جل جلاله: ﴿وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ﴾[الرّعد: من الآية ٨]، وهذا دليل على وجوب التّوكّل على الله عز وجلَّ وتفويض الأمر إليه، مع بيان السّبب والحكمة، فنحن عندما نعرف أنّ الأمور كلّها بيد الله عز وجلَّ، وأنّ الأقدار بيده سبحانه وتعالى، ﴿قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾، فهذا يُريح المؤمن؛ لأنّ المؤمن مأمور بالأخذ بالأسباب، لا تستطيع أن تقول: قدّر الله وما شاء فعل، إلّا بعد أن يقع، أمّا قبل وقوعه تأخذ بالأسباب، ثمّ بعد وقوعه، تقول: إنّه قضاء وإنّه مقدّر، أمّا قبل وقوعه، فلا تقول: قدر، فما الّذي أدراك؟ عليك أن تأخذ بالسّبب، وأن تعمل، وهذا أيضاً بالنّسبة إلى التّوكّل، عليك أن تأخذ بالسّبب، وأن تعمل؛ لأنّ النّبيّ ﷺ قال: «اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ»([1])، فنحن أُمرنا أن نعمل، والله سبحانه وتعالى يعلم، وقبل وقوع الشّيء نحن الّذين نفعل، ونفعله بإرادة الله عز وجلَّ، ولكنّ الله سبحانه وتعالى لا يأمر إلّا بالخير، يقول تبارك وتعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ﴾[النّحل: من الآية 90].

وقد جاءت هذه الآية: ﴿وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾ بين الآيات الّتي تتحدّث عن الطّلاق وأحكام العدّة، وهذا هو الفارق بين القرآن الكريم وبين أيّ كتاب آخر، فهو يوظّف كلّ شيء من أجل الإيمان، ومن أجل الأحكام الّتي أرادها الله سبحانه وتعالى، فإيّاك أن تعتقد أنّ الله سبحانه وتعالى سيعطيك أوامر متتالية فقط، بل سيبيّن لك العلّة، ويبيّن لك المراد، ويبين لك المآل، ويبيّن لك المفتَرَض، فأنت عندما تتحدّث عن الطّلاق، تتحدّث عن ضيق وعن مشكلة، وعن قلّة رزق وعن نفقة، وعن مشكلات تحدث بين الرّجل وزوجته، فجاء حكم عامّ للقضايا كلّها: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2)وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾، بعد ذلك يتابع المولى سبحانه وتعالى الأحكام:

([1]) سنن التّرمذيّ: أبواب صفة القيامة والرّقائق والورع، باب 60، الحديث رقم (2517).