الآية رقم (14) - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾: أي: يا أيّها المصدّقون بالله سبحانه وتعالى ورسوله ﷺ.

﴿إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ﴾: قال العلماء في تفسير هذه الآية: إنّ بعض أزواجكم وأولادكم أعداء لكم، عداوة أخرويّة، يشغلونكم عن الخير والأعمال الصّالحة الّتي تنفع في الآخرة، فعندما تسرق وتنهب وترتشي لترضي زوجتك، وتؤمّن لأولادك متطلّباتهم، فأنت لا تنتفع بالآخرة، وهم في هذه الحالة يكونون كالأعداء، فكونوا منهم على حذر، واحذروا أن تؤثروا حبّهم وشفقتكم عليهم على طاعة الله سبحانه وتعالى.

وهناك سبب نزول لهذه الآية: أنّ رجالاً من مكّة أسلموا، وأرادوا أن يهاجروا، فلم يدعهم أزواجهم ولا أولادهم، فأمر الله سبحانه وتعالى بأن يحذروهم، ولا يطيعوهم، ثمّ أمر الله سبحانه وتعالى بالعفو والصّفح عنهم، فقال:

﴿وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾: أي: وإن تعفوا عن ذنوب أزواجكم وأولادكم الّتي ارتكبوها بترك المعاقبة عليها، وتصفحوا بترك اللّوم والتّثريب عليها، وتستروا الأخطاء تمهيداً لمعذرتهم فيها، فالله سبحانه وتعالى غفور لذنوب عباده، رحيم بهم، يعامل النّاس بأحسن ممّا عملوا، فالعفو والصّفح والمغفرة هي ثلاثة أمور لأشياء متعدّدة، وليست لشيء واحد، كما يعتقد بعضهم، فإن كانت تتعلّق بالزّوجات والأولاد الّذين كانوا في مكّة، وكانوا ضدّ المؤمنين، وإن كانت عامّة، فعلينا أن ننتبه أنّ الإنسان إذا حاول أن يرضي زوجته وأولاده على حساب قيمه وأخلاقه وأوامر ربّه جل جلاله، فسيصبحون كالعدوّ، ويجب الحذر من فتنتهم؛ لأنّ الأموال والأولاد فتنة بالنّسبة إلى الإنسان.

﴿وَإِنْ تَعْفُوا﴾: العفو هو أن تمسح الشّيء.

﴿وَتَصْفَحُوا﴾: الصّفح يعني وكأنّ الشّيء لم يكن.

﴿وَتَغْفِرُوا﴾: المغفرة هو على ما ارتكبوه من ذنوب.

﴿فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾: فالله سبحانه وتعالى غفور رحيم، ويطلب منّا العفو والصّفح دائماً، وأن نغفر لمن ارتكب معنا ذنوباً وآثاماً، وأن نعفو ونصفح عنهم، قال سبحانه وتعالى: ﴿أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ﴾[النّور: من الآية 22].

الآية رقم (15) - إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ

﴿إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ﴾: أي: الأموال والأولاد بلاء واختبار ومحنة، وكما قلنا: السّبب الأساسيّ في حمل الإنسان على الكسب الحرام، ومنع حقّ الله عز وجلَّ، وارتكاب المعاصي والآثام، يكون إمّا من الأولاد وإمّا من وجود المال، والله سبحانه وتعالى ينبّهنا دائماً لكسب الحلال، قال سبحانه وتعالى: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا﴾[الكهف]، فهناك فارق، لكن عندما يكون المال والزّوجات والأولاد سبباً في المعاصي، فهذا يؤدّي إلى خطر شديد على الإنسان في حياته، فإن كان للإنسان مال كثير ومات، فسيكون هذا المال وبالاً على ورثته بعد وفاته إن جُمِع هذا المال من حرام، أخرج أحمد والتّرمذيّ والحاكم والطّبرانيّ عَنْ كَعْبِ بْنِ عِيَاضٍ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: «إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةً وَفِتْنَةُ أُمَّتِي الْمَالُ»([1])، وأخرج الطّبرانيّ عن أبي مالك الأشعريّ أنّ رسول الله ﷺ قال: «لَيْسَ عَدُوَّكَ الَّذِي إِنْ قَتَلْتَهُ كَانَ لَكَ نُوراً، وَإِنْ قَتَلَكَ دَخَلْتَ الْجَنَّةَ، وَلَكِنَّ أَعْدَى عَدُوِّكَ وَلَدُكَ الَّذِي خَرَجَ مِنْ صُلْبِكَ، ثُمَّ أَعْدَى عَدُوٍّ لَكَ مَالُكَ الَّذِي مَلَكَتْ يَمِينُكَ»([2]). ثمّ أمر الله سبحانه وتعالى بالتّقوى والطّاعة والنّفقة، فقال:

([1]) سنن التّرمذيّ: أبواب الزّهد، باب ما جاء أنّ فتنة هذه الأمّة في المال، الحديث رقم (2336).

([2]) المعجم الكبير للطّبرانيّ: باب الحاء، شُرَيح بن عبيد الحضرميّ عن أبي مالك، الحديث رقم (3445).

الآية رقم (16) - فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِّأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ

بعدما بيّن سبحانه وتعالى فتنة المال وفتنة الأولاد، وبيّن ضرورة أن يكون الإنسان على حذر من ارتكاب المعاصي من أجل زينة الحياة الّتي هي المال والبنون، جاء الأمر بتقوى الله عز وجلَّ الّذي هو مناط الدّين كلّه، فالتّقوى هي العمل بالتّنزيل والرّضى بالقليل والاستعداد ليوم الرّحيل.

﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾: أي: فالزموا أوامر الله سبحانه وتعالى، واجتنبوا نواهيه قدر جهدكم وطاقتكم، كما ثبت في الصّحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ»([1]).

﴿وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ﴾: واسمعوا ما تؤمرون به، وأطيعوا أوامر الله سبحانه وتعالى والرّسول ﷺ، وأنفقوا من أموالكم الّتي رزقكم الله جل جلاله إيّاها في وجوه الخير، ولا تبخلوا بها، فإنّ الإنفاق في مصالح المجتمع والدّين خير لأنفسكم من الأموال والأولاد، وهو خير لكم في الدّنيا والآخرة، وإن لم تفعلوا يكن وبالاً عليكم في الدّنيا والآخرة.

﴿وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ﴾: هنا نعلم مدى أهمّــيّة الإنفاق، وسياسة الإنفاق في الإسلام، وفي السّور كلّها تقريباً آيات تحضّ على الزكاة والصّدقة والإنفاق، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة]، فالله سبحانه وتعالى حثّك دائماً على الإنفاق، وبأنّك يد الله سبحانه وتعالى المناوِلة، فأنت مناول ولست مالكاً، فأعط ممّا أعطاك الله سبحانه وتعالى، فعليكم دائماً كما قال ﷺ: «حَصِّنُوا أَمْوَالَكُمْ بالزَّكاةِ، وَدَاوُوا مَرْضَاكُمْ بِالصَّدَقَةِ، وَاسْتَقْبِلُوا أَمْوَاجَ الْبَلَاءِ بِالدُّعَاءِ»([2])، فدائماً الزكاة والصّدقات والإنفاق في سبيل الله سبحانه وتعالى هي الضّمانة، والسّياج، والحامي للإنسان بصحّته وماله وولده، قال جلّ جلاله: ﴿وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [المنافقون]، فأوّل ما ينطق به الإنسان عند الموت أنّه يتمنّى العودة إلى الدّنيا حتّى يتصدّق، لذلك: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ﴾، كقوله سبحانه وتعالى﴿وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [المزّمّل: من الآية 20].

﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾: أي: من وقاه الله سبحانه وتعالى وحفظه من داء الشّحّ والبخل، فأنفق في سبيل الله عز وجلَّ ووجوه الخير، لليتامى والمساكين والأرامل والفقراء وذوي الحاجات فهنا يكون الفوز الحقيقيّ، قال سبحانه وتعالى: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ﴾[الماعون]، المعونة والعطاء والإنفاق والبذل، قال سبحانه وتعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [الحديد]، فأولئك هم المفلحون الّذين يحقّقون الفلاح والنّجاح والفوز في الآخرة.

ثمّ أكّد الله سبحانه وتعالى الحثّ على الإنفاق قائلاً:

([1]) صحيح مسلم: كتاب الحجّ، باب فرض الحجّ مرّة في العمر، الحديث رقم (1337).

([2]) شعب الإيمان: الزكاة، فصل فيمن آتاه الله مالاً من غير مسألة، الحديث رقم (3279).

الآية رقم (17) - إِن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ

﴿إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ﴾: فأنت تتعامل مع الله عز وجلَّ، لذلك السّيّدة فاطمة رضي الله عنها كانت تقول: إنّ درهم الصّدقة يقع في يد الله سبحانه وتعالى قبل أن يقع في يد الفقير، فأنت عندما تعطي الفقير، أنت تقرض الله عز وجلَّ، فإذا صرفت بعضاً من أموالك في وجوه الخير بإخلاص نيّة وطيب نفس، فهو قرض لله عز وجلَّ وسيضاعف لك الثّواب، وستكون لك الحسنة بعشر أمثالها إلى سبع مئة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، إضافة إلى أنّه ستُحصَّن أموالكم، وتُداوى مرضاكم، فإنّ الله سبحانه وتعالى يقول نتيجة هذا القرض: إنّه سيُضاعف لكم، فكلّ شيء تأخذ منه ينقص إلّا الزكاة والصّدقات عندما تدفعها فإنّ المال يزيد؛ لأنّ الزكاة هي نماء.

﴿وَيَغْفِرْ لَكُمْ﴾: إضافة إلى ذلك فإنّ هناك مغفرة، يصفح ويغفر ويستر الذّنوب والزّلّات والخطايا، نتيجة الإنفاق، ولا يعاجل من عصاه بالعقوبة، وفي الآية إيماء إلى أنّ الشّقيّ من لا يقدّم لنفسه شيئاً يستقرضه منه رازقه، مع شدّة حاجته إليه بعد مماته، ونظير الآية قوله جل جلاله: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً﴾ [البقرة: من الآية 245]، وأخرج الحاكم وصحّحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «يَقُولُ اللَّهُ عز وجلَّ اسْتَقْرَضْتُ عَبْدِي، فَأَبَى أَنْ يُقْرِضَنِي وَسَبَّنِي عَبْدِي، وَلَا يَدْرِي يَقُولُ: وَادَهْرَاهُ وَادَهْرَاهُ، وَأَنَا الدَّهْرُ»، ثُمَّ تَلَا أَبُو هُرَيْرَةَ قَوْلَ اللَّهِ عز وجلَّ: ﴿إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ﴾[التّغابن: من الآية 17]([1]).

﴿وَاللَّهُ شَكُورٌ﴾: شكور على وزن فعول، فالله سبحانه وتعالى يشكرني؛ أي: يزيد من ثوابي ومن عطائه لي، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾[إبراهيم: من الآية 7]، والله سبحانه وتعالى يشكر من يشكره، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ﴾[البقرة].

﴿حَلِيمٌ﴾: الله سبحانه وتعالى حليم بعباده، ويبيّن سبحانه وتعالى فائدة الإنسان لأخيه الإنسان من خلال الإنفاق والصّدقات والعطاء، والشّعور بالآخرين والمحتاجين، وحفظ مال اليتيم، ورعاية الفقراء والمساكين، هذه الأمور كلّها ستؤدّي بأنّ الله سبحانه وتعالى شكور حليم؛ أي: أموالك ستزداد، وعطاؤك سيزداد، وسيغفر الله سبحانه وتعالى لك من ذنوبك. ثمّ رغّب الله سبحانه وتعالى في النّفقة ترغيباً زائداً، فقال:   

([1]) المستدرك على الصّحيحين للحاكم: كتاب التّفسير، تفسير سورة التّغابن، الحديث رقم (3816).

الآية رقم (18) - عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ

﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾: أي: الله سبحانه وتعالى بالغ العلم بما غاب عنكم وما حضر، الغالب القاهر، ذو الحكمة الباهرة، يضع الأمور في مواضعها الصّحيحة.

الآية رقم (10) - وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ

أي: والّذين جحدوا وكفروا بوحدانيّة الله سبحانه وتعالى وقدرته، وكذّبوا بآياته المنزلة على رسوله محمّد ﷺ، ومنها الآيات الدّالّة على البعث، أولئك أصحاب النّار، خالدين فيها على الدّوام، وبئس المرجع مرجعهم، وبئست النّار مثوى لهم.

والآيتان دليلٌ على حال السّعداء وحال الأشقياء، لبيان ما تقدّم من التّغابن، وقد عبّر الله سبحانه وتعالى عن أهل الإيمان بقوله: ﴿وَمَنْ يُؤْمِنْ بالله﴾ بلفظ المستقبل، وفي الكفر بقوله: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بلفظ الماضي؛ لأنّ تقدير الكلام: ومن يؤمن بالله سبحانه وتعالى من الّذين كفروا وكذّبوا بآياتنا، يدخله جنّات، ومن لم يؤمن منهم أولئك أصحاب النّار، فلننظر إلى دقّة اللّغة العربيّة، ومعنى الآيات القرآنيّة، وكيف أنّه لا يمكن الاستغناء عن فهم وفقه اللّغة العربيّة في تفسير كتاب الله سبحانه وتعالى.

الآية رقم (11) - مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ

﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾: إنّ كلّ ما يصيب الإنسان من خير أو شرّ، هو بقضاء الله سبحانه وتعالى وقدره، قال العلماء: إنّ سبب نزول هذه الآية أنّ الكفّار قالوا: لو كان ما عليه المسلمون حقّاً، لصانهم الله سبحانه وتعالى عن المصائب في الدّنيا.

وفي ديننا ما على الإنسان إلّا السّعي والعمل لجلب الخير ودفع الضّرّ عن نفسه، ثمّ التّوكّل على الله سبحانه وتعالى، فإنّ تحقيق النّتائج يكون بقضاء الله عز وجلَّ وقدره، ونظير الآية قوله سبحانه وتعالى: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾[الحديد]، وهنا يجب أن نقف؛ لأنّ بعضهم يعتقد أنّه طالما الأمور بقضاء الله سبحانه وتعالى وقدره، فما هي العلّة والحكمة في أن يُحاسَب الإنسان على فعله مع أنّ كلّ شيء مكتوب ومُقَدَّر؟ الجواب: إنّ قضاء الله سبحانه وتعالى وقدره يتعلّق بعلم الله سبحانه وتعالى، ولا يتعلّق بعمل الإنسان ولا بعلمه، فنحن مُكلَّفون، وأُمِرْنا أن نعمل، فإذا وافق هذا العمل مُرَاد الإيمان منّا فإنّ النّتيجة ستكون خيراً، وإن وافق الكفر فستكون النّتيجة شرّاً، فالإنسان مُخيّر في هذا، وليس عليه أن يُلقي اللّوم على القضاء والقدر، وأنّ الله سبحانه وتعالى هو الّذي أراد أن يهديه، أو لم يرد له الهداية، فالله سبحانه وتعالى يهدي الجميع، ولكنّ الإنسان يختار الهداية حتّى يلقى هداية المعونة، فهو جل جلاله كما قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾[المائدة: من الآية 51]، ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾[المائدة: من الآية 67]، ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾[المنافقون: من الآية 6]؛ لأنّهم كفروا وظلموا وفسقوا لم يهدهم الله عز وجلَّ.

﴿وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ﴾: أي: ومن يصدِّق بالله سبحانه وتعالى، ويعلم أنّ ما أصابه من مصيبة فبقضاء الله سبحانه وتعالى وقدره، فصبر، واحتسب، واستسلم لقضاء الله عز وجلَّ، يهد الله سبحانه وتعالى قلبه، ويشرح صدره عند المصيبة، والله سبحانه وتعالى واسع العلم لا تخفى عليه من ذلك خافية، فهو عليمٌ بالقلوب وأحوالها، قال ابن عبّاس رضي الله عنهما: ﴿وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ﴾، يعني: يهدي قلبه لليقين، فيعلم أنّ ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وفي الحديث، قال ﷺ: «عَجَباً لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْراً لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ»([1])، وقال ﷺ لابن عبّاس رضي الله عنهما: «يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ، احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَـمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَـمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلاَمُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ»([2]).

([1]) صحيح مسلم: كتاب الزّهد والرّقائق، باب المؤمن أمره كلّه خير، الحديث رقم (2999).

([2]) سنن التّرمذيّ: أبواب صفة القيامة والرّقائق والورع، باب 59، الحديث رقم (2516).

الآية رقم (1) - يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ

﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾: هذه السّورة هي آخر سور المسبّحات، وقد مرّ تفسير التّسبيح في السّور السّابقة، وهو تنزيه الله سبحانه وتعالى عن كلّ نقص وعيب، وتمجيد له، ويدلّ عليه جميع مخلوقاته الّتي في سمواته وأرضه، فهو بارئها ومالكها، له الملك وحده دون غيره؛ لأنّه الخالق المصوّر المتصرّف في الكائنات جميعها، وله الحمد والشّكر وحده؛ لأنّه المستحقّ لذلك، وهو المحمود على جميع ما يخلقه ويقدّره، فالملك والحمد يختصّان به، ليس لغيره منهما شيء، وما كان لعباده منهما فهو من فيضه وراجع إليه، وهو قادر على كلّ شيء، لا يعجزه شيء في السّموات والأرض، فما أراد كان، قال سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾[يس]، وما لم يشأ لم يكن، والتّسبيح يكون إمّا باللّسان والنّطق كما يفعل الإنسان، وإمّا بنطقٍ وحال لا نفقهه، فنحن لا نفهم التّسبيح عن بقيّة الكائنات، كما قال جلَّ جلاله: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ [الإسراء: من الآية ٤٤].

الآية رقم (12) - وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ

هذه آية عامّة، ﴿وَأَطِيعُوا﴾: أمر؛ أي: واشتغلوا بطاعة الله سبحانه وتعالى فيما شرع، وفيما أمر ونهى، وطاعة رسوله ﷺ فيما بلّغ عن ربّه، وأن نفعل ما أمرنا به رسولنا ﷺ، وأن نترك ما نهى عنه وزجر، فإن أعرضنا عن الطّاعة ونكلنا عن العمل، فإثمنا على أنفسنا، ولا يعود على الرّسول ﷺ؛ لأنّ الرّسول ﷺ عليه البلاغ، وظيفته التّبليغ البيّن الواضح، وعلينا ما حمّلنا من السّمع والطّاعة، قال الزّهريّ: من الله سبحانه وتعالى الرّسالة، وعلى الرّسول البلاغة، وعلينا التّسليم، وهنا يجب أن نتوقّف قليلاً، فهنا جاءت: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾، وهناك آية تقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ﴾ [الأنفال]، وآية أخرى تقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾[النّساء: من الآية 59]، فطاعة الرّسول من باطن طاعة الله عز وجلَّ، ومن يقول: نكتفي بالقرآن الكريم فقد ناقض القرآن الكريم، وقد قال المولى سبحانه وتعالى: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ﴾، وكرّر الأمر بالطّاعة: ﴿وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾، فأطيعوا الله سبحانه وتعالى فيما شرع، وأطيعوا الرّسول ﷺ فيما شرع، أمّا عندما يقول: ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾  [الأنفال: من الآية 20]، فذكر طاعة واحدة؛ أي: طاعة الرّسول ﷺ من طاعة الله عز وجلَّ، وطاعة الله سبحانه وتعالى تستوجب منّا أن نفهم، وأن نأخذ من سنّة رسول الله ﷺ، وعندما يقول: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾؛ أي: هناك تشريع يأتي من الرّسول، فهو مُكلّف بالتّشريع ﷺ، وهناك أوامر ونواه، إضافة إلى البيان، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾[النّحل: من الآية 44]، فالرّسول ﷺ يبيّن لنا ما نزل من الله عز وجلَّ، ويُبيّن لنا أحكام القرآن الكريم، لكن أيضاً رسول الله ﷺ مأمور بالتّشريع، فهو يُشرّع، فالنّبيّ ﷺ هو الّذي بيّن لنا الأحكام المجملة كلّها الّتي وردت في القرآن الكريم، فما كان لمسلم أن يعلم صلاة الظّهر كم ركعة، وكذلك صلاة العصر والمغرب والعشاء والفجر، وما هو مقدار الزّكاة، وكيف نؤدّي الحجّ، فقد قال ﷺ: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ»([1])، وكيف نصوم رمضان، وما الّذي يجعلنا نفطر؟ وكيف تُقسَّم المواريث، وكيف هي الحدود؟ وكيف هي الأحكام، قال سبحانه وتعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾[الأحزاب]، فكلّ دعوة لإبعاد السّنّة النّبويّة الشّريفة المطهّرة عن كتاب الله سبحانه وتعالى هي دعوة عداء لكتاب الله عز وجلَّ، وهي دعوة لنقض ما جاء في كتاب الله سبحانه وتعالى، والدّليل تكرار الآيات بالأمر من الله سبحانه وتعالى بطاعة الرّسول ﷺ، والجمع ما بين طاعة الله عز وجلَّ وطاعة الرّسول ﷺ.

﴿فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾: وقد قال سبحانه وتعالى في آية أخرى: ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ﴾ [الغاشية].

([1]) السّنن الكبرى للبيهقيّ: جماع أبواب دخول مكّة، باب الإيضاع في وادي مُحسِّر، الحديث رقم (9524).

الآية رقم (2) - هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ

الله سبحانه وتعالى هو الّذي أوجدكم على هذه الصّفة، وآل أمركم أن يكون بعضكم كافراً باختياره وكسبه على خلاف مقتضى ما فطر الله سبحانه وتعالى النّاس عليه؛ لأنّه جعل الإيمان بالفطرة، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا﴾ [الأعراف: من الآية 172]، ويكون بعضكم مؤمناً مختاراً للإيمان على وفق الفطرة السّويّة القائمة على التّوحيد والإيمان بالله عز وجلَّ، والله سبحانه وتعالى العالم البصير قبل الخلق بما يؤول إليه أمر كلّ واحد منكم، الشّهيد على أعمال عباده، وسيجزيهم بها أتمّ الجزاء في اليوم الآخر، ونظير هذه الآية قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ [الحديد: من الآية ٢٦]، وعن النّبيّ ﷺ قال: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ»([1]).

([1]) صحيح البخاريّ: كتاب الجنائز، باب إذا أسلم الصّبيّ فمات هل يُصَلَّى عليه، وهل يُعرَض على الصّبيّ الإسلام؟، الحديث رقم (1358).

الآية رقم (13) - اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ

﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾: الله سبحانه وتعالى واجب الوجود، وهو الإله الواحد الأحد الفرد الصّمد الّذي لا إله غيره ولا ربّ سواه، وهو المستحقّ للعبوديّة دون غيره، فوحِّدوا الله سبحانه وتعالى وأخلصوا العمل له، ولا تشركوا به شيئاً، وفوِّضوا أموركم إليه، واعتمدوا عليه، لا على غيره، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا﴾[المزّمّل]، وكلمة لا إله إلّا الله هي الميزان الّذي قامت عليه السّموات والأرض، ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ [آل عمران: من الآية 18]، فهذه شهادة الذّات للذّات، والملائكة شهدت بعد ذلك شهادة المخلوقات، وعندما نضع نصب أعيننا شهادة أن لا إله إلّا الله؛ أي: أنّه لا نافع ولا ضارّ ولا معطي ولا مانع ولا محيي ولا مميت ولا معزّ ولا مذلّ ولا خافض ولا رافع إلّا الله سبحانه وتعالى، تتغيّر موازين الكون من خلال ميزان لا إله إلّا الله، وهنا عندما يقول: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾، بعدها يأتي قوله: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾؛ أي: أيّها الإنسان عليك أن تطيع مَن بيده كلّ شيء، والنّفع والضّرّ بين يديه، والحياة والممات إليه، والرّجوع والمآل إليه، والثّواب والعقاب عليه.

﴿وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾: عندما تضع ميزان لا إله إلّا الله، فالأمر الطّبيعيّ أن تتوكّل على الله عز وجلَّ، وأن ترمي حملك على الله عز وجلَّ، ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾، أنت تجعل الله سبحانه وتعالى وكيلاً لك، قال سبحانه وتعالى: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ﴾[آل عمران: من الآية 173]؛ أي: لا نضع في حسابنا إلّا الله عز وجلَّ، فكلّ موازين الدّنيا لا تعنينا؛ لأنّه في حسابنا لا يوجد إلّا الله عز وجلَّ، والتّوكّل على الله عز وجلَّ هو عمل القلب، وليس عمل الجوارح، والنّبيّ ﷺ قال: «اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ»([1])، فعلينا الفعل والأخذ بالأسباب والتّوكّل على الله سبحانه وتعالى.

([1]) سنن التّرمذيّ: أبواب صفة القيامة والرّقائق والورع، باب 60، الحديث رقم (2517).

الآية رقم (3) - خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ

﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ﴾: أي: أوجد السّموات والأرض بالعدل والحكمة البالغة المحقّقة لنفع النّاس في الدّين والدّنيا.

﴿وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ﴾: وخلقكم أيّها البشر في أكمل صورة، وأحسن تقويم، وأجمل شكل، قال سبحانه وتعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ [التّين]، وقال جلّ جلاله: ﴿أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ﴾[الانفطار]، وقال عز وجلَّ: ﴿اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ﴾[غافر: من الآية 64].

﴿وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾: وإليه في عالم الآخرة المرجع والمآب، فيجازي كلّ نفس بما كسبت.

الآية رقم (4) - يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ

﴿يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ﴾: الله سبحانه وتعالى يعلم ما في السّموات والأرض، فلا تخفى عليه خافية، يعلم السّرّ وأخفى، ويعلم ما تخفونه وما تظهرونه، والله سبحانه وتعالى محيط علمه بما يضمره كلّ إنسان في نفسه من الأسرار والمعتقدات، ونلاحظ أنّه سبحانه وتعالى عطف الخاصّ على العامّ في قوله: ﴿وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ﴾، ثمّ عطف ما هو أخصّ من الخاصّ، وهو حديث النّفس الّذي لا يعبّر عنه الإنسان بكلام أو إشارة أو بيان ما:

﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾: أي: بما يجول داخل الصّدور، وهذا هو الأخفى من السّرّ؛ لأنّ السّرّ يكون بين اثنين، أمّا ما هو أخفى من السّرّ فهو ما تُكنّه الصّدور، ويعلمه الله سبحانه وتعالى.

الآية رقم (5) - أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ

نجد أنّ الآيات السّابقة من السّورة تحدّثت عن تسبيح الله سبحانه وتعالى، وعن الخلق، وعن اختيارهم إمّا للكفر وإمّا للإيمان، وعن نِعَم الله عز وجلَّ في خلق السّموات والأرض، وخلق النّاس، وإحسان صورهم، ومصيرهم، وعلم الله سبحانه وتعالى في السّموات والأرض، وبما تُكنّه الصّدور، بعد ذلك يقول:

﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ﴾: أي: ألم يبلغكم يا كفّار مكّة -والخطاب للنّاس كلّهم- خبر كفّار الأمم الماضية، كقوم نوح وعاد وثمود، وما حلّ بهم من العذاب والنّكال بسبب مخالفة الرّسل والتّكذيب بالحقّ، فقد دعتهم رسلهم إلى توحيد الله سبحانه وتعالى وعبادته، وترك الأوثان الّتي اتّخذوها أرباباً من دون الله عز وجلَّ، فأصابهم عاقبة كفرهم وتكذيبهم ورديء أفعالهم من عذاب الدّنيا، ولهم في الآخرة عذاب مؤلم جدّاً وهو عذاب النّار، وهذا تعجيب من حالهم الغريبة. ثمّ بيّن الله سبحانه وتعالى أسباب عقابهم الدّنيويّ والأخرويّ، فقال:

الآية رقم (6) - ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوا وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ

﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا﴾: أي: ذلك العذاب في الدّارين؛ لأنّهم كانت تأتيهم الرّسل المرسلة إليهم بالمعجزات الظّاهرة، والأدلّة والبراهين الواضحة، فقال كلّ قوم لرسولهم: كيف يُتصوّر أن يهدينا البشر، أو من كان من جنس البشر؟ أي: استبعدوا أن تكون الرّسالة في البشر، وأن يكون هداهم على يدي البشر مثلهم، فكفروا بالرّسل وما جاؤوا به، وأعرضوا عنهم وعن الحقّ والعمل به، ولم يتدبّروا فيما جاؤوا به، واستغنى الله سبحانه وتعالى عن إيمانهم وعبادتهم، إذ أهلكهم، والله سبحانه وتعالى غير محتاج إلى النّاس ولا إلى عبادتهم له، محمود من مخلوقاته كلّها بلسان المقال أو بلسان الحال.

﴿فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا﴾: وتولّوا عن الإيمان.

﴿وَاسْتَغْنَى اللَّهُ﴾: واستغنى الله عز وجلَّ عن عبادتهم.

﴿وَاللَّهُ غَنِيٌّ﴾: مستغن عن خلقه، وعن عبادتهم.

﴿حَمِيدٌ﴾: يقع عليه الحمد من خلقه كلّهم، فالله سبحانه وتعالى يهدي البشر لمصلحة البشر.

الآية رقم (7) - زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ

﴿زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا﴾: أي: ادّعى المشركون أنّه لا بعث ولا حساب ولا جزاء، كما قال سبحانه وتعالى في آيةٍ أخرى: ﴿قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ﴾[المؤمنون]، وفي هذا تقريع لكفّار مكّة.

﴿زَعَمَ﴾: الزّعم ادّعاء العلم مع ظهور أمارات خلافه.

فردّ الله سبحانه وتعالى عليهم بقوله:

﴿قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ﴾: أي: قل أيّها الرّسول لهم: إنّكم ستبعثون، وتخرجون من قبوركم أحياء، ولتخبرنّ بأعمالكم جميعها جليلها وحقيرها، صغيرها وكبيرها، إقامة للحجّة عليكم، ثمّ تجزون بما عملتم، قال سبحانه وتعالى: ﴿هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾[الجاثية].

﴿وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾: وذلك البعث والجزاء هيّن سهل على الله سبحانه وتعالى، لا يصرفه صارف.

وهذه هي الآية الثّالثة الّتي أمر الله سبحانه وتعالى رسوله ﷺ أن يقسم بربّه عز وجلَّ على وقوع المعاد ووجوده، الأولى منها قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾[يونس]، والثّانية منها قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ﴾ [سبأ: من الآية ٣]، والثّالثة هذه الآية، ونظير هذه الآية قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ﴾[يس].

وبعد بيان أدلّة التّوحيد والألوهيّة والنّبوّة، والرّدّ على منكري البعث، وإيضاح ما نزل من العقوبة بالأمم الماضية، لكفرهم بالله سبحانه وتعالى وتكذيب الرّسل، طالب الله سبحانه وتعالى بالإيمان به جل جلاله ورسوله ﷺ وبآي القرآن الكريم والبعث.

الآية رقم (8) - فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ

عندما بيّن الله سبحانه وتعالى خصائص الكفّار، وما يتعلّق بهم، وإنكارهم للبعث، وما سيتعرّضون له، طالب الخلق جميعاً بالإيمان بالله عز وجلَّ وبرسوله ﷺ.

﴿فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾: أي: إذا كان أمر البعث هيّناً يسيراً على الله عز وجلَّ لا يصرفه صارف، فصدّقوا بالله سبحانه وتعالى ورسوله محمّد ﷺ.

﴿وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا﴾: وهو القرآن الكريم، الكتاب المنير الهادي إلى السّعادة، والمنقذ من ظلمة الضّلالة، فهو نور يُهتدى به، ووصف الله سبحانه وتعالى القرآن الكريم بأنّه نور؛ لأنّه يُهتدى به في الشّبهات، كما يُهتدى بالنّور في الظّلمات.

﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾: والله سبحانه وتعالى عالم بكلّ شيء، لا يخفى عليه شيء من أقوالكم وأفعالكم، فهو مجازيكم على ذلك خيراً أو شرّاً، وفي هذا وعيد على كلّ ما يؤتى من المعاصي، أو يترك من الفرائض والواجبات.

الآية رقم (9) - يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ

﴿يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ﴾: أي: واذكروا يوم القيامة الّذي يجمع الله سبحانه وتعالى فيه أهل المحشر من الأوّلين والآخرين في صعيد واحد للجزاء، ويجمع فيه بين كلّ عامل وعمله، وبين كلّ نبيّ وأمّته، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ﴾[هود: من الآية ١٠٣]، وقال سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ﴾ [الواقعة]، ذلك اليوم وهو يوم القيامة يوم التّغابن الّذي يظهر فيه غبن الكافر بتركه الإيمان، وغبن المؤمن بتقصيره في الإحسان، فكلّ من الفريقين تظهر له الخسارة الفادحة، فكأنّ أهل النّار استبدلوا بالخير الشّرّ، وبالجيّد الرّديء وبالنّعيم العذاب، وأهل الجنّة على العكس ممّا ذكر، ومع ذلك يشعرون بالنّقص والخسارة؛ لأنّهم لم يقدّموا عملاً صالحاً أكثر ممّا قدّموه، وجاء في الحديث الصّحيح: «لَا يَدْخُلُ أَحَدٌ الجَنَّةَ إِلَّا أُرِيَ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ لَوْ أَسَاءَ، لِيَزْدَادَ شُكْراً، وَلَا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ إِلَّا أُرِيَ مَقْعَدَهُ مِنَ الجَنَّةِ لَوْ أَحْسَنَ، لِيَكُونَ عَلَيْهِ حَسْرَةً»([1]).

وأصل التّغابن: مأخوذٌ من الغبن: وهو أخذ الشّيء من صاحبه بأقلّ من قيمته في عقود التّجارة والمعاوضات، وبما أنّه لا معاوضة في الآخرة، فيكون إطلاق التّغابن على العمل المقدّم في الدّنيا وجزائه في الآخرة من قبيل الاستعارة، للدّلالة على النّقص على البائع.

والخلاصة: أنّ يوم القيامة يوم التّغابن الجائز، فيه يغبن بعض أهل المحشر بعضاً، فيغبن فيه أهل الحقّ أهل الباطل، وأهل الجنّة يغبنون أهل النّار.

ثمّ فصّل الله سبحانه وتعالى التّغابن وبيّنه، فقال:

﴿وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾: أي: ومن يصدّق بالله سبحانه وتعالى تصديقاً صحيحاً، ويصدّق بما جاءت به الرّسل من الحشر والنّشر والجنّة والنّار وغير ذلك، ويعمل العمل الصّالح بأداء الفرائض والطّاعات، واجتناب المنهيات، يمحُ الله سبحانه وتعالى سيّئاته وذنوبه، ويُدخله الجنّات الّتي تجري من تحت قصورها وأشجارها الأنهار، ماكثين فيها على الدّوام، وذلك التّكفير للسّيّئات، وإدخال الجنّات هو الظّفر الّذي لا يساويه ظفر، ولا ظفر قبله ولا بعده، وإنّما قال: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ بلفظ الجمع بعد قوله: ﴿وَمَنْ يُؤْمِنْ﴾ بلفظ الواحد؛ لأنّ ذلك بحسب اللّفظ، وهذا بحسب المعنى.

﴿ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾: هذا هو الفوز العظيم، وعظمه يأتي من عظمة الله سبحانه وتعالى.

([1]) صحيح البخاريّ: كتاب الرّقاق، باب صفة الجنّة والنّار، الحديث رقم (6569).

الآية رقم (0) - مقدمة تفسير سورة التغابن

سورة التّغابن سورة مدنيّة على أغلب الأقوال، عدد آياتها: (18) آية، ترتيبها في المصحف الشّريف (63)، وقد ضمّت عدّة موضوعات، أهمّها: مظاهر قدرة الله سبحانه وتعالى وعلمه، وإنكار المشركين للبعث وعقابهم، وثواب المؤمنين، وفتنة الأهل والمال وطرق الوقاية منهما، واسمها التّغابن، وهو اسمٌ من أسماء يوم القيامة، والتّغابن من الغبن، فالكفّار اختاروا طريق الشّرّ والسّوء فغُبِنوا بأنّهم خسروا الجنّة، فغبن المؤمنون الكافرين بأنّهم حصلوا على الجنّة نتيجة العمل الصّالح، وهؤلاء حصلوا على النّار.