الآية رقم (10) - وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ

﴿وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾: أي: أنفقوا بعضاً ممّا رزقناكم في سبيل الخير شكراً على النّعمة، ورحمة بالفقراء والأيتام، ورعاية لمصالح المجتمع العامّة، من قبل مجيء أسباب الموت، ومشاهدة علاماته، فسيقول الواحد منكم:

﴿رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾: يا ربّ لولا أمهلتني وأخّرت موتي إلى مدّة أخرى قصيرة، فأتصدّق بمالي وأكن من الصّالحين المستقيمين، وهذا يدلّ على أمرٍ مهمّ جدّاً، وهو أنّ كلّ فرد يندم عند الاحتضار، فأوّل كلمة يقولها الإنسان عند الاحتضار: ﴿رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ﴾، وهذا يدلّ كم للصّدقة من قيمة وأهمّـيّة كبيرة، فهو يسأل طول المدّة ولو شيئاً يسيراً ليستدرك ما فاته، لكن يكون قد فات الأوان، أخرج التّرمذيّ عن ابن عبّاس رضي الله عنهما: «مَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ يُبَلِّغُهُ حَجَّ بَيْتِ رَبِّهِ، أَوْ يَجِبُ عَلَيْهِ فِيهِ زَكَاةٌ، فَلَمْ يَفْعَلْ، يَسْأَلِ الرَّجْعَةَ عِنْدَ الْمَوْتِ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، اتَّقِ اللَّهَ، فَإِنَّمَا يَسْأَلُ الرَّجْعَةَ الكُفَّارُ؟ فَقَالَ: سَأَتْلُو عَلَيْكَ بِذَلِكَ قُرْآناً: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ﴾، إِلَى قَوْلِهِ: ﴿وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾([1]).

([1]) سنن التّرمذيّ: أبواب تفسير القرآن، باب: ومن سورة الـمنافقون، الحديث رقم (3316).

الآية رقم (11) - وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ

﴿وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا﴾: أي: لن يؤخِّر الله سبحانه وتعالى أيّ نفس إذا حضر الأجل، وانقضى العمر، والله سبحانه وتعالى لا يخفى عليه شيء من أعمالنا، فهو يجازينا عليها بالإحسان إحساناً، وبالإساءة سخطاً وعذاباً وبُعداً عن الرّحمة والرّضوان.

وخلاصة هذه السّورة فضح المنافقين، ووجوب الاشتغال بطاعة الله عز وجلَّ، كقراءة القرآن الكريم، وإدامة الذّكر، وأداء الصّلوات الخمس، وإيتاء الزّكاة، والقيام بالفرائض جميعها، وعدم الالتهاء بتدبير الأموال والاهتمام بشؤون الأولاد على حساب الآخرة، ومن يشتغل بالمال والولد عن طاعة ربّه عز وجلَّ فأولئك هم الخاسرون، وقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ يدلّ على وجوب تعجيل أداء الزّكاة، ولا يجوز تأخيرها، وكذلك سائر العبادات، إذا جاء وقتها يجب أداؤها فوراً، قال ابن عبّاس رضي الله عنهما في قوله سبحانه وتعالى: ﴿فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ﴾، هذه الآية أشدّ على أهل التّوحيد؛ لأنّه لا يتمنى الرّجوع في الدّنيا أو التّأخير فيها أحد له عند الله سبحانه وتعالى خير في الآخرة، إلّا الشّهيد فإنّه يتمنّى الرّجوع حتّى يُقتَل، لما يرى من الكرامة.

﴿وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾: خبير بعمل العباد من خير وشرّ، لا تخفى عليه خافية، ويُجازي كلّ امرئ بما عمل خيراً أو شرّاً، إمّا جنّة وإمّا نار.

الآية رقم (7) - هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ

﴿هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا﴾: أي: أنّ هؤلاء المنافقين يقولون للأنصار: لا تُطعِموا أصحاب محمّد من المهاجرين، حتّى يجوعوا ويتفرّقوا عنه، فردّ الله سبحانه وتعالى عليهم بقوله:

﴿وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ﴾: أي: أنّ الله سبحانه وتعالى هو الرّزّاق لهؤلاء المهاجرين، وهم مناولون فقط، وبيده مفاتيح أرزاق العباد، يُعطي من يشاء ويمنع من يشاء، ولكنّ المنافقين يجهلون أنّ خزائن الأرزاق بيد الله عز وجلَّ، فظنّوا أنّ الله سبحانه وتعالى لا يُوَسِّع على المؤمنين.

الآية رقم (8) - يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ

﴿يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ﴾: القائل هو عبد الله بن أبيّ بن سلول زعيم المنافقين، قال: لئن عدنا من هذه الغزوة -غزوة بني المصطلق- إلى المدينة ليُخرِجَنّ الأعزّ -ويقصد نفسه- منها الأذلّ -أراد بذلك النّبيّ ﷺ ومن معه من المهاجرين وغيرهم من المؤمنين الصادقين-، ولكنّ النّبيّ ﷺ ومن معه هم الأقوياء الأعزّاء، والمنافقون هم الأذلّاء الضّعفاء، وقد رجع ابن أبيّ إلى المدينة فلم يلبث إلّا أيّاماً يسيرة حتّى مات، فاستغفر له رسول الله ﷺ وألبسه قميصه، بناء على طلب ابنه عبد الله الّذي كان مؤمناً، فنزلت هذه الآية، فردّ الله عز وجلَّ عليهم قولهم، فقال جل جلاله:

﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾: أي: أنّ لله سبحانه وتعالى وحده القوّة والغلبة، ولمن منحها من رسله وصالحي عباده المؤمنين، لا لغيرهم، لكنّ المنافقين لا يدرون ذلك لفرط جهلهم، وعدم إيمانهم، وشدّة حيرتهم وقلقهم، فالله سبحانه وتعالى هو الّذي ينصر من يشاء من عباده، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي﴾ [المجادلة: من الآية 21]، والعزّة والمنعة والقوّة لله عز وجلَّ، خلافاً لما يتوهّمه بعض النّاس أنّ العزّة بكثرة الأموال والأتباع، والعزّة تختلف عن الكبر، فالعزّة شعور بالسّمو، مع معرفة الإنسان حقيقة نفسه، والكبر غمط النّاس حقوقهم، وجهل الإنسان بنفسه، قال عَبْدُ اللَّهِ بن عَبْد اللَّهِ بن أَبِيّ بن سَلُولٍ لِأَبِيهِ: “وَاللَّهِ لَا تَدْخُلِ الجَنَّةَ أَبَداً حَتَّى تَقُولَ: رَسُولُ اللَّهِ الأَعَزُّ وَأَنَا الأَذَلُّ”([1]).

وفي الآية السّابقة قال سبحانه وتعالى: ﴿وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ﴾، وهنا قال جلّ جلاله: ﴿وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾، في الموضع الأوّل: ﴿لَا يَفْقَهُونَ﴾؛ لقلّة كياستهم وفهمهم، وفي الثّاني: ﴿لَا يَعْلَمُونَ﴾؛ لكثرة حماقتهم وجهلهم.         

([1]) إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة: كتاب التّفسير، سورة المنافقون، الحديث رقم (5863).

الآية رقم (9) - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾: أي: أيّها المؤمنون المصدّقون بالله عز وجلَّ، يا من آمنتم بي إلهاً وخالقاً ورازقاً.

﴿لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾: لا تشغلكم الأموال وتنميتها، وتربية الأولاد والعناية بشؤونهم عن القيام بذكر الله عز وجلَّ وعن قراءة القرآن الكريم، وعن التّسبيح، والتّحميد والتّهليل، وأداء فرائض الإسلام، وحقوق الله سبحانه وتعالى، ثمّ حذّر من المخالفة، وتوعّد اللّاهين في الدّنيا، فقال:

﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾: أي: مَنْ يلتهي بالدّنيا ومتاعها وزخارفها وزينتها، وينصرف عن الدّين وطاعة ربّه وذكره، فإنّه من الخاسرين، الكاملين في الخسران، الّذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة؛ لأنّه باع خالداً باقياً بفانٍ زائل، ثمّ حثّ سبحانه وتعالى المؤمنين على الإنفاق في طاعته، فقال جل جلاله:

الآية رقم (0) - مقدمة تفسير سورة المنافقون

سورة المنافقون سورة مدنيّة، عدد آياتها: (11)، ترتيبها في المصحف الشّريف (63)، وهي السّورة الثّانية بعد المئة حسب نزول السّور، نزلت بعد سورة الحجّ وقبل سورة المجادلة، والصّحيح أنّها نزلت في غزوة بني المصطلق، وهذه السّورة تبدأ بالحديث عن المنافقين.

الآية رقم (1) - إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ

﴿إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ﴾: إذا حضروا مجلسك يا محمّد، والمنافق: مَنْ يُظهِر الإسلام ويُبطِن الكفر، وهذا هو النّفاق الاعتقاديّ، والنّفاق السّلوكيّ هو أن يُبدي غير ما يُخفي.

﴿قَالُوا نَشْهَدُ﴾: الشّهادة: إخبار عن علم من الشّهود.

﴿إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ﴾: هم يشهدون بألسنتهم فقط.

﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ﴾: جملة اعتراضيّة، مُخبرة أنّه رسول الله ﷺ، هي تصديق من الله عز وجلَّ لما تضمّنه هذا الكلام، من الشّهادة لسيّدنا رسول الله ﷺ بالرّسالة لئلّا يُتَوَهّم كون التّكذيب الآتي بعدئذ موجّهاً إلى ذلك، فهو يشهد أنّ المنافقين كاذبون فيما يُضمرون في صميم قلوبهم.

﴿وَاللَّهُ يَشْهَدُ﴾: والله سبحانه وتعالى يعلم.

﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ﴾: لأنّهم لم يعتقدوا بالرّسالة أصلاً، فهم كاذبون فيما أضمروه خلافاً لما قالوه.

فالله سبحانه وتعالى يُخبِر عن المنافقين أنّهم ينطقون بالإسلام إذا جاؤوا للنّبيّ ﷺ، وهم في الحقيقة على الضّدّ، فالله سبحانه وتعالى يشهد أنّ المنافقين كاذبون، ليس في شهادتهم أنّك رسول الله، وإنّما فيما يقولون، وهنا إذا جاؤوك، وقالوا بألسنتهم خلافاً لما في قلوبهم، كعبد الله بن أبيّ بن سلول وصحبه، وأظهروا لك الإسلام، وقالوا: نشهد أنّك رسول الله، فالله عز وجلَّ يشهد أنّهم كاذبون في قولهم، فهم يقولون غير الّذي يضمرونه في قلوبهم، وهذا هو النّفاق الاعتقاديّ، فالشّهادة الّتي تتطابق فيها القلوب مع الألسنة هي الشّهادة الصّحيحة، والله سبحانه وتعالى يعلم أنّ الأمر غير ذلك، فالله سبحانه وتعالى يعلم أنّك رسول الله إلى النّاس، وقولهم: نشهد إنّك لرسول الله، فيها تأكيد للإشعار بأنّها صادرة من صميم قلوبهم، مع صدق اعتقادهم، وقولهم: نشهد؛ أي: نعلم ونحلف.

الآية رقم (2) - اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ

﴿اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ﴾: الأيمان: جمع يمين، وهو الحلف.

﴿جُنَّةً﴾: أي: أنّهم جعلوا أيمانهم الكاذبة الّتي حلفوها جُنّة؛ أي: وقاية وستر، لصون دمائهم، ولصون وجودهم مع المسلمين، ولصون أنفسهم من الأسر، ولصون أموالهم، حتّى لا تُطبَّق عليهم الأحكام، فاعتقد النّاس أنّهم مسلمون.

﴿فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾: فهم اتّخذوا أيمانهم جُنّة، فصدّوا عن سبيل الله عز وجلَّ، فارتكبوا جُرمين، الحلف بالأيمان الكاذبة، والصّدّ عن الدّخول في الإسلام، ممّا استوجب وصف أفعالهم بالقبح، ثمّ أخبر الله سبحانه وتعالى عن أسباب موقفهم هذا، فقال جل جلاله:

الآية رقم (3) - ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ

﴿ذَلِكَ﴾: أي: ما ذُكر من الكذب والصّدّ وقبح الأعمال بسبب أنّهم آمنوا نفاقاً، ثمّ كفروا بالباطن، فختم الله عز وجلَّ على قلوبهم، فلا يدخلها الإيمان، ولا تهتدي إلى الحقّ، ولا ينفذ إليها خير، فأصبحوا لا يفهمون ما فيه رشدهم وصلاحهم، ولا يعون ولا يدركون الأدلّة الدّالّة على صدق رسول الله ﷺ والرّسالة، ثمّ أبان الله سبحانه وتعالى مدى الاغترار بمظاهرهم وصورهم الجسديّة، فقال جل جلاله:

الآية رقم (4) - وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ

﴿وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ﴾: أي: إذا نظرت إليهم تروق لك هيئاتهم ومناظرهم، لما فيها من النّضارة والرّونق وجمال الصّورة وعِظَم الخلقة، وقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ﴾؛ أي: عبد الله بن أبيّ بن سلول، وابن أبي وجد بن قيس ومعتب بن قشير، تعجبك أجسامهم لحسنها وجمالها.

﴿وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ﴾: وإن تكلّموا تسمع لكلامهم، وتظنّ أنّ قولهم حقّ وصدق لفصاحتهم وحلاوة منطقهم وذلاقة ألسنتهم.

﴿كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ﴾: كأنّهم أخشاب جوفاء منخورة، مستندة إلى الجدران، فهم مجرّد كتل بشريّة لا تفهم ولا تعلم، وقد كان عبد الله بن أبيّ بن سلول رأس المنافقين فصيحاً جسيماً جميلاً، ولكنّه -هو وصحبه- لا إدراك لديهم لخلّوهم عن الفهم النّافع والعلم الصّالح، فهم مجرّد صور.

﴿يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ﴾: هم جبناء، كلّما سمعوا صوتاً أو صيحة حسبوا أنّها واقعة عليهم، ونازلة بهم لفرط جبنهم، وفراغهم النّفسيّ، وإحساسهم بالهزيمة من الدّاخل، كما وصفهم الله سبحانه وتعالى بقوله: ﴿أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا﴾ [الأحزاب]، وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه: عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، قَالَ: «إِنَّ لِلْمُنَافِقِينَ عَلَامَاتٍ يُعْرَفُونَ بِهَا: تَحِيَّتُهُمْ لَعْنَةٌ، وَطَعَامُهُمْ نُـهْبَةٌ، وَغَنِيمَتُهُمْ غُلُولٌ، وَلَا يَقْرَبُونَ الْمَسَاجِدَ إِلَّا هَجْراً، وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا دَبْراً، مُسْتَكْبِرِينَ، لَا يَأْلَفُونَ وَلَا يُؤْلَفُونَ، خُشُبٌ بِاللَّيْلِ، صُخُبٌ بِالنَّهَارِ»([1]).

﴿هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ﴾: فهم الأعداء الألدّاء، فاحذر من مؤامراتهم، ولا تطلعهم على شيء من أسرارك؛ لأنّ المنافقين عيون لأعدائك من الكفّار.

﴿قَاتَلَهُمُ اللَّهُ﴾: لعنهم الله عز وجلَّ وطردهم من رحمته وأهلكهم.

﴿أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾: كيف يُصرَفون عن الحقّ، ويميلون عنه إلى الكفر، ويتركون الهدى إلى الضّلال؟

([1]) مسند الإمام أحمد بن حنبل: مسند الـمُكثرين من الصّحابة، مسند أبي هريرة t، الحديث رقم (7926).

الآية رقم (5) - وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ

ذكر الله سبحانه وتعالى أدلّة كذب المنافقين، وأسباب غضب الله عز وجلَّ عليهم:

﴿لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ﴾: عطفوها وأمالوها إعراضاً.

والمعنى: إذا قيل للمنافقين بقيادة عبد الله بن أبيّ بن سلول: أقبلوا إلى رسول الله ﷺ ليطلب لكم المغفرة من الله عز وجلَّ، أعرضوا استكباراً واستهزاءً بذلك، ورغبةً عن الاستغفار، ورأيتهم يُعرضون عن رسول الله ﷺ وهم مستكبرون عن الإتيان إليه، وطلب الاستغفار منه، فهم أكبر من ذلك في زعمهم، والمشهور في السّيرة أنّ ذلك كان في غزوة بني المصطلق، فلمّا نزل القرآن الكريم على الرّسول ﷺ بصفة المنافقين مشى إليهم عشائرهم من المؤمنين، وقالوا لهم: افتضحتم بالنّفاق، وأهلكتم أنفسكم، فأتوا رسول الله ﷺ وتوبوا بين يديه من النّفاق، وسلوه أن يستغفر لكم، فأبوا ذلك وزهدوا في الاستغفار، فنزلت الآية، وقال ابن عبّاس رضي الله عنهما: لـمّا رجع عبد الله بن أبيّ بن سلول من أُحُد بكثير من النّاس، نقده المسلمون وعنّفوه، وأسمعوه مكروهاً، فقال له بنو أبيه: لو أتيت رسول الله ﷺ حتّى يستغفر لك ويرضى عنك، فقال: لا، لن أذهب إليه، ولا أريد أن يستغفر لي، وجعل يلوي رأسه، وهو الّذي قال: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ، وقال: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتّى ينفضّوا.

الآية رقم (6) - سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ

جازاهم الله سبحانه وتعالى على استكبارهم وإعراضهم، فأوضح أنّ الاستغفار لن ينفعهم، لإصرارهم على النّفاق، واستمرارهم على الكفر، فسواء حدث الاستغفار لهم أم لم يحدث لا يجديهم نفعاً، ولن يغفر الله سبحانه وتعالى لهم، وما داموا على النّفاق فإنّ الله سبحانه وتعالى لا يوفّق الخارجين عن الطّاعة، المنهمكين في المعاصي، والمنافقون هم أولى النّاس بذلك، قال قتادة: نزلت هذه الآية بعد قوله سبحانه وتعالى: ﴿اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ﴾ [التّوبة: من الآية 80]، ذلك لأنّها لما نزلت قال رسول الله ﷺ: «قَدْ خَيَّرَنِي رَبِّي، فَوَاللَّهِ لَأَزِيدَنَّ عَلَى السَّبْعِينَ»([1])، فأنزل الله سبحانه وتعالى: ﴿لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾.

([1]) فتح الباري لابن حجر: ج 8، باب قوله: ﴿اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ﴾ [التّوبة: من الآية 80].