الآية رقم (10) - فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ

فالحقّ تبارك وتعالى حينما يحدّثنا عن الصّلاة من يوم الجمعة، يقول: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَوٰةِ مِن يَوۡمِ ٱلۡجُمُعَةِ فَٱسۡعَوۡاْ إِلَىٰ ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَذَرُواْ ٱلۡبَيۡعَۚ ذَٰلِكُمۡ خَيۡر لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ﴾، ثمّ يقول: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ ٱلصَّلَوٰةُ فَٱنتَشِرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَٱبۡتَغُواْ مِن فَضۡلِ ٱللَّهِ﴾، وهكذا أخرجنا الحقّ سبحانه وتعالى إلى الصّلاة من عمل، وبعد الصّلاة أمرنا بالعمل والسّعي والانتشار في الأرض والابتغاء من فضله عز وجلَّ، فمخالفة الأمر في: ﴿فَٱسۡعَوۡاْ إِلَىٰ ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَذَرُواْ ٱلۡبَيۡعَۚ﴾ كمخالفة الأمر في: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ ٱلصَّلَوٰةُ فَٱنتَشِرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَٱبۡتَغُواْ مِن فَضۡلِ ٱللَّهِ﴾، فنحن مأمورون أن ننتشر في الأرض وألّا نتكاسل، وأن نعمل ونسعى، حتّى تنتفع الدّنيا بحركتنا، وسيّدنا عمر رضي الله عنه حينما رأى رجلاً يقيم بالمسجد لا يفارقه سأل: ومن ينفق عليه؟ قالوا: أخوه قال: أخوه أعبد منه، لماذا؟ لأنّه يُسهم في حركة الحياة، ويوسّع المنفعة على النّاس، فكلّ عمل نافع عبادة، إذا كانت النّيّة خالصة لله جل جلاله، وليست الصّلاة فقط هي العبادة، لذلك قال سبحانه وتعالى: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ ٱلصَّلَوٰةُ فَٱنتَشِرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَٱبۡتَغُواْ مِن فَضۡلِ ٱللَّهِ﴾، فكلّ حركة في الحياة عبادة.

﴿وَٱبۡتَغُواْ مِن فَضۡلِ ٱللَّهِ﴾: الابتغاء من فضل الله سبحانه وتعالى؛ كلّ ما في هذه الحياة هو من فضل الله عز وجلَّ علينا، ومن عطائه ونعمه جل جلاله.

﴿وَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيرا﴾: فالحقّ سبحانه وتعالى حين يخاطب المسلمين لا يقول كما يقول لبني إسرائيل: ﴿اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ﴾[المائدة: من الآية 20]، وإنّما يقول: ﴿اذْكُرُوا اللَّهَ﴾[الأحزاب: من الآية 41]؛ لأنّ بني إسرائيل مادّيّون ودنيويّون، فكأنّ الحقّ سبحانه وتعالى يقول لهم: بما أنّكم مادّيّون ودنيويّون فاذكروا نعمة الله سبحانه وتعالى المادّيّة عليكم، وأمّا المسلمون فأمّة غير مادّيّة، وهناك فرق بين أن يكون الإنسان مع النّعمة وأن يكون مع المنعم، فالمادّيّون يحبّون النّعمة، وغير المادّيّين يحبّون المنعم، ويعيشون في معيّته سبحانه وتعالى.

﴿لَّعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ﴾: فمناط الفلاح هو بذكر الله سبحانه وتعالى وتسبيحه وتهليله، والذّكر هو العبادة الوحيدة الّتي لا تكلّفنا شيئاً، ولا تعطّل جارحة من جوارحنا، ولا تحتاج منّا إلى وقت ولا إلى مجهود، وليس لها وقت مخصوص، وقد كان رسول الله ﷺ لا يجلس ولا يقوم إلّا على ذكر الله عز وجلَّ، وقد ورد أنّه ﷺ كان يُكثر الذّكر، وربّ العزّة سبحانه وتعالى يقول في الحديث القدسيّ: «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعاً، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعاً تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعاً، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً»([1])، والذّكر هو الحفظ من النّسيان؛ لأنّ روتين الحياة يجعلنا ننسى المسبّب للنّعم، والذّكر يكون باللّسان والقلب، والله سبحانه وتعالى غيب مستور، وعظمته أنّه مستور، ولكنّ نعمه سبحانه وتعالى تدلّنا عليه، فبالذّكر يكون الله سبحانه وتعالى في بالنا دائماً، وبنعمه يكون ذكره وشكره دائماً، قال جلَّ جلاله: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾[إبراهيم: من الآية 7]، وبالشّكر تدوم النّعم، ويقول سبحانه وتعالى: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ﴾ [البقرة]؛ أي: اذكروا الله سبحانه وتعالى في كلّ شيء، في نِعَمه وعطائه، وفي ستره ورحمته وتوبته.

([1]) صحيح البخاريّ: كتاب التّوحيد، باب قول اللّه تعالى: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ﴾[آل عمران: 28]، الحديث رقم (7405).

الآية رقم (11) - وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ

سبب النّزول: بقي اثنا عشر رجلاً مع رسول الله ﷺ فيهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما لم يتركوه قائماً يخطب كما تركه آخرون، بل بقوا معه ﷺ فثبتوا مع رسول الله حينما نظر آخرون إلى الدّنيا ومتاعها الزّائل فانفضوا عنه ﷺ، وخرجوا يستقبلون قافلة جاءت من الشّام مصحوبة بلهو وطبل.

وللقرآن الكريم دقّة في الأداء الأسلوبيّ واللّغويّ، ومن هذا أنّ القرآن الكريم يقول هنا: ﴿وَإِذَا رَأَوۡاْ﴾، فكلمة: (رأى) تُطلق ويراد بها العلم، مثل قوله تعالى: ﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ﴾ [الفرقان: من الآية 43]؛ أي: أعلمت، فهؤلاء الّذين كانوا في مسجد رسول الله ﷺ يستمعون لخطبته في يوم الجمعة، لم يروا العير والقافلة الّتي جاءت رؤية العين، إنّما علموا بها أو سمعوا جلبة وضوضاء للقافلة الآتية، فإذا بهم يخرجون ويتركون رسول الله ﷺ قائماً يخطب في المسجد -إلّا اثني عشر رجلاً- والتفتوا إلى اللّهو وإلى النّشاط الاقتصاديّ.

﴿تِجَٰرَةً أَوۡ لَهۡوًا﴾: واللّهو هو قتل الوقت في عملٍ قد ينقضي ويشغل الإنسان عن الواجب، فمعنى اللّهو أن ننصرف إلى عمل لا هدف له ولا فائدة منه، وإن نظرنا إلى الحياة مجرّدة من منهج الله سبحانه وتعالى فهي لعب ولهو، واللّعب قد يكون لهواً وقد لا يكون، فإذا شغلك اللّعب عن شيء مطلوب منك فهو لهو، وقد قال سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذَا رَأَوۡاْ تِجَٰرَةً أَوۡ لَهۡوًا﴾ هذان أمران؛ تجارة ولهو، فلماذا قال بعدها: ﴿ٱنفَضُّوٓاْ إِلَيۡهَا﴾، ولم يقل: انفضّوا إليهما؟ الحقّ سبحانه وتعالى استخدم المفرد معهما؛ لأنّ التّجارة واللّهو لهما عمل واحد هو شغل المؤمنين عن العبادة والذّكر واستماع الخير، والانفضاض هو الانصراف عن شيء كانوا مجتمعين عليه أو مجتمعين له.

﴿وَتَرَكُوكَ قَآئِما﴾: وهذا القيام كان في الخطبة، يروي جَابِرُ بْنُ سَـمُرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ كَانَ يَخْطُبُ قَائِماً([1]).

﴿قُلۡ مَا عِندَ ٱللَّهِ خَيۡر مِّنَ ٱللَّهۡوِ وَمِنَ ٱلتِّجَٰرَةِۚ وَٱللَّهُ خَيۡرُ ٱلرَّٰزِقِينَ﴾: فما عند الله سبحانه وتعالى لا خوف عليه، بل هو مُضاعف ومزداد، وما عند الله سبحانه وتعالى لا حزن عليه؛ لأنّ الإنسان يحزن إذا فاته خير، ولكنّ ما عند الله عز وجلَّ باقٍ لا يفوتك ولا تفوته، يقول سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ [النّحل: من الآية 95]، وإذا كنتم تبتغون الرّزق في ذهابكم للتّجارة فأين ستبتغون الرّزق، أليس عند الله سبحانه وتعالى؟ أليس الله سبحانه وتعالى هو خير الرّازقين؟ والرّزق ليس مالاً فقط، بل الملبس رزق، والعلم رزق، والحلم رزق، والصّحّة رزق، وكلّ شيء تنتفع به هو رزق من عند الله عز وجلَّ، والعبد سبب في الرّزق؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى هو خالق الرّزق، والعبادة هي أساس الرّزق، فالرّزق منك مناولة عن الرّزّاق الأوّل سبحانه وتعالى.

وقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَٱللَّهُ خَيۡرُ ٱلرَّٰزِقِينَ﴾، مثل قوله عز وجلَّ: ﴿أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ [يوسف: من الآية 64]، أو: ﴿خَيْرُ الْوَارِثِينَ﴾[الأنبياء: من الآية 89]، فإذا كان هناك راحم فالله سبحانه وتعالى خير الرّاحمين، وإذا كان هناك رازق فالله عز وجلَّ خير الرّازقين، وعندما يعطي سبحانه وتعالى بعض الصّفات لخلقه، فإنّه سبحانه وتعالى لا شريك له في صفاته وفي أفعاله وفي أعماله.

([1]) صحيح مسلم: كتاب الجمعة، باب ذكر الخطبتين قبل الصّلاة وما فيهما من الجلسة، الحديث رقم (862).

الآية رقم (6) - قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ

﴿قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ هَادُوٓاْ﴾: النّداء لونٌ من ألوان الأساليب الكلاميّة، وعلماء البلاغة يقسّمون الكلام إلى:

– خبر: وهو أن تُخبِر عن شيء بكلام يحتمل الصّدق والكذب.

– وإنشاء: وهو أن تطلب بكلامك شيئاً، والإنشاء قول لا يحتمل الصّدق والكذب.

والنّداء من الإنشاء؛ لأنّك تريد أن تُنشِئ شيئاً من عندك، فلو قلت: يا محمّد، فأنت تريد أن تُنشِئ إقبالاً عليك، فالنّداء طلب الإقبال عليك.

وقد تنوّع النّداء في القرآن الكريم تنوّعاً كبيراً، منه ما هو نداء من الله عز وجلَّ إلى خمسة عشر صنفاً من النّاس والجمادات وغيرها، ومنه ما هو نداء من الرّسل لأقوامهم، ومنه ما هو نداء من الأمم والأقوام لرسلها، ومنه ما هو نداء من وإلى الملائكة، وأنواع أخرى كثيرة، وأكثر نداء ورد في القرآن الكريم كان من الله عز وجلَّ للمؤمنين، فجاء نداء: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ في آيات كثيرة تزيد على الثّمانين آية تخاطب الّذين آمنوا بالله جل جلاله وبرسوله ﷺ، وكانت كلّها تأتي وتطلب تكاليف يُطَالب بها كلّ من آمن بالمنهج، فهو نداء مباشر من الله سبحانه وتعالى للمؤمنين، أمّا عندما خاطب الحقّ سبحانه وتعالى الّذين هادوا، قال: ﴿قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ هَادُوٓاْ إِن زَعَمۡتُمۡ أَنَّكُمۡ أَوۡلِيَآءُ لِلَّهِ مِن دُونِ ٱلنَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ ٱلۡمَوۡتَ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ﴾، وهو النّداء الوحيد الّذي جاء بهذه الصّيغة للّذين هادوا، ومع هذا جاء مصدّراً بقوله: ﴿قُلۡ﴾؛ أي: قل يا محمّد، وهذا يعطي لفتة أنّ الله سبحانه وتعالى قد غضب عليهم، وهذا إبعاد لهم عن أن يكونوا أولياء لله عز وجلَّ، فضلاً عن أن يكونوا أبناء له وأحبّاء.

﴿ٱلَّذِينَ هَادُوٓاْ﴾: يقصد أتباع موسى عليه السلام، وجاء الاسم من قولهم: ﴿إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ ﴾[الأعراف: من الآية 156]؛ أي: عدنا إليك، فالّذين هادوا هم اليهود، وهاد؛ أي: رجع، و﴿هُدْنَا إِلَيْكَ﴾؛ أي: رجعنا إليك، وهذا كلام موسى عليه السّلام عن نفسه وعن أخيه وعن القوم الّذين عبدوا العجل ثمّ تابوا، وتوبتهم كانت حدثاً قاسياً على بني إسرائيل، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾[البقرة]، لقد عبدوا غير الله عز وجلَّ، والأنكى من هذا أنّهم عبدوا عجلاً صنعه لهم السّامريّ من الذّهب الّذي أخذوه معهم من مصر بعد أن ائتمنهم أهل مصر عليه؛ لذلك يقول لهم الحقّ سبحانه وتعالى هنا: ﴿قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ هَادُوٓاْ﴾، وكأنّه سبحانه وتعالى يذكّرهم بما تابوا منه سابقاً، فلا تتمادوا في ادّعاءاتكم ومزاعمكم الباطلة، فسبق أن أخطأتم، ثمّ هدتم إلينا وعدتم وتبتم، فلماذا استمرأتم الافتراء؟! وهاهم يزعمون زعماً آخر، فيقول لهم الحقّ سبحانه وتعالى:

﴿إِن زَعَمۡتُمۡ أَنَّكُمۡ أَوۡلِيَآءُ لِلَّهِ مِن دُونِ ٱلنَّاسِ﴾: أولياء الله سبحانه وتعالى تأتي أحياناً بمعنى المعين للعباد المؤمنين، فيكون الله جل جلاله وليّ الّذين آمنوا؛ أي: مُعينهم ومُقوّيهم، وأولياء الله سبحانه وتعالى أيضاً هم الّذين ينصرون الله عز وجلَّ فينصرهم الله جل جلاله، فمرّة تُطلَق كلمة (الوليّ) ويُراد بها: (المعين)، ومرّة أخرى تُطلق ويُراد بها: الـمُعَان؛ لأنّك إن كنت أنت وليّ لله عز وجلَّ، والله جل جلاله وليّك فإنّ الحقّ سبحانه وتعالى مُعينٌ لك وأنت مُعان.

﴿فَتَمَنَّوُاْ ٱلۡمَوۡتَ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ﴾: الله سبحانه وتعالى يعلم تمام العلم أنّهم لن يتمنّوا الموت أبداً؛ لأنّهم كما قال عنهم في آية أخرى: ﱡقُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَﱠ [البقرة]، وقد قال لهم رسول الله ﷺ: «إِنْ كُنْتُمْ فِي مَقَالَتِكُمْ صَادِقِينَ فَقُولُوا: اللّهُمَّ أَمِتْنَا، فَوَالَّذِي نَفْسِي فِي يَدِهِ لَا يَقُولُهَا رَجُلٌ مِنْكُمْ إِلَّا غُصَّ بَرِيقِهِ فَمَاتَ مَكَانَهُ»، فَأَبَوْا أَنْ يَفْعَلُوا وَكَرِهُوا مَا قَالَ لَهُمْ فَنَزَلَ: ﱡوَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْﱠ [البقرة: من الآية 95]، يَعْنِي عملته أَيْديهم([1])، إنّهم لن يتمنّوه؛ ولأنّ زعمهم أنّهم أولياء لله عز وجلَّ من دون النّاس زعمٌ كاذب، فهم ليسوا على يقين من دخولهم الجنّة فعلاً، بل قد يكون مصيرهم النّار، وقد قال لهم رسول الله ﷺ: «وَإِنَّ اليَهُودَ لَوْ تَـمَــنَّوَا الـمَوْتَ لَمَاتُوا وَرَأَوْا مَقَاعِدَهُمْ مِنَ النَّارِ»([2])، وهم غير صادقين، ولن يتمنّوا الموت أبداً بما قدّمت أيديهم من الذّنوب والمعاصي والاجتراء على الله عز وجلَّ، ويعلمون جيّداً بأنّ الله سبحانه وتعالى سيحاسبهم عليها، لذلك قال سبحانه وتعالى:﴿وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾ [البقرة]، فهم يحرصون على الحياة؛ لأنّهم مادّيّون وهذه غايتهم، واليهود أشدّ النّاس حرصاً على الحياة، ويخافون من الموت لسوء أعمالهم، حتّى أنّ الحقّ سبحانه وتعالى يصفهم، فيقول: ﴿يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ﴾[البقرة: من الآية 96]، فهم يحبّون أن يعيشوا ألف سنة أو أكثر وهذا لن يكون، فيقول سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ﴾ [البقرة: من الآية 96].

([1]) دلائل النّبوّة للبيهقيّ: ج6، الشّمائل ونحوها، بَابُ مَا جَاءَ فِي قَوْلِ اللهِ عزَّ وجلَّ: ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾[البقرة].

([2]) السّنن الكبرى للنّسائيّ: سورة آل عمران، قَوْلُهُ سبحانه وتعالى: ﴿ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾[آل عمران: من الآية 61]، الحديث رقم (10995).

الآية رقم (7) - وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ

﴿وَلَا يَتَمَنَّوۡنَهُۥٓ أَبَدَۢا بِمَا قَدَّمَتۡ أَيۡدِيهِمۡۚ﴾: القرآن الكريم تحدّاهم أن يتمنّوا الموت، ولم ولن يتمنّوه أبداً، والله سبحانه وتعالى تحدّاهم؛ لأنّه يعلم بأنّهم لن ينظروا إلى الآخرة أبداً، وأنّهم لا ينظرون إلّا إلى هذه الحياة الدّنيا؛ لأنّهم من الدّنو، ولا يحبّون إلّا المادّة، ولا يتعلّقون إلّا بالمادّيّات، ويوضِّح الحقّ سبحانه وتعالى الأمر، فيقول: ﴿بِمَا قَدَّمَتۡ أَيۡدِيهِمۡ﴾؛ أي: أنّ أعمالهم السّيّئة تجعلهم يخافون الموت، أمّا صاحب الأعمال الصّالحة فهو يسعد بالموت، فساعة الموت يعرف فيها الإنسان يقيناً أنّه ميّت، وقد قال رسول الله ﷺ: «مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ»، قَالَتْ عَائِشَةُ أَوْ بَعْضُ أَزْوَاجِهِ: إِنَّا لَنَكْرَهُ الـمَوْتَ، قَالَ: «لَيْسَ ذَاكِ، وَلَكِنَّ الـمُؤْمِنَ إِذَا حَضَرَهُ الـمَوْتُ بُشِّرَ بِرِضْوَانِ اللَّهِ وَكَرَامَتِهِ، فَلَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ، فَأَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ وَأَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَإِنَّ الكَافِرَ إِذَا حُضِرَ بُشِّرَ بِعَذَابِ اللَّهِ وَعُقُوبَتِهِ، فَلَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَهَ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ، كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ وَكَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ»([1])، وقد ورد الحديث الشّريف الّذي يُرشِدنا إذا ضاقت بنا الحياة ألّا نتمنّى الموت، قال ﷺ: «لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمُ الـمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ، فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ مُتَمَنِّياً لِلْمَوْتِ فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ الحَيَاةُ خَيْراً لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الوَفَاةُ خَيْراً لِي»([2])، وإنّ تمنّي الموت المنهي عنه ما كان فيه اعتراض على قدر الله عز وجلَّ، وتمرّد على إرادته سبحانه وتعالى، كأن تكره الحياة والعيش إذا ضاق بك فتتمنّى الموت، أمّا أن تتمنّى الموت لعلمك أنّك ستصير إلى خير ممّا تركت فهذا أمر آخر.

﴿بِمَا قَدَّمَتۡ أَيۡدِيهِمۡۚ﴾: قال الحقّ ذلك؛ لأنّ الأعمال الظّاهرة تُـمَارس عادة باليد، فاليد هي الجارحة الّتي نفعل بها أكثر أمورنا، وعلى ذلك يكون قول الحقّ: ﴿بِمَا قَدَّمَتۡ أَيۡدِيهِمۡۚ﴾ مقصود به: بما قدّموا من أعمال بأيّ جارحة من الجوارح، فالذّنوب إمّا أقوال وإمّا أفعال وإمّا عمل من أعمال القلب كالحقد مثلاً أو النّفاق، واليهود لن يتمنّوا الموت؛ لأنّهم يخافون من عقاب الله سبحانه وتعالى على ما قدّموه عندما عبدوا العجل، وعندما خالفوا سيّدنا موسى عليه السلام، وعندما طلبوا أن يروا الله سبحانه وتعالى جهرة، وقد قدّمت أيديهم أربع جرائم أخرى ارتكبوها ويرتكبونها، يقول الحقّ سبحانه وتعالى: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [النّساء]، هذه أربع جرائم ما زالوا يرتكبونها حتّى اليوم، وهم قائمون عليها، لذلك عبّر الله تعالى بذكر الاسم لا الفعل فقال: ﴿نَقْضِهِمْ﴾، ﴿وَكُفْرِهِمْ﴾، ﴿وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ﴾، ﴿وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾.

﴿وَٱللَّهُ عَلِيمُۢ بِٱلظَّٰلِمِينَ﴾: فالله سبحانه وتعالى عليمٌ بظلمهم.

([1]) صحيح البخاريّ: كتاب الرّقاق، والسُّنّة فيها، باب: من أحبّ لقاء اللّه أحبّ اللّه لقاءه، الحديث رقم (6507).

([2]) صحيح البخاريّ: كتاب الدّعوات، باب الدّعاء بالموت والحياة، الحديث رقم (6351).

الآية رقم (8) - قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ

الله سبحانه وتعالى يخاطب نبيّه ﷺ أن يقول لهؤلاء اليهود الّذين يظنّون أنّهم لن يموتوا، أو أنّهم مخلّدون في الأرض، أو أنّهم يستطيعون أن يفرّوا من الموت:

﴿قُلۡ﴾: فالله سبحانه وتعالى لم يرد أن يخاطبهم مباشرة لعظم ما افتروا عليه جل جلاله، ولعظيم ما منّ سبحانه وتعالى عليهم به طوال تاريخهم، فلغضبه عز وجلَّ من أفعالهم وصنيعهم وجّه نبيّه ﷺ أن يخاطبهم، إنّهم يريدون أن يفرّوا من الموت؛ لأنّهم لم يفعلوا شيئاً حسناً يكون لهم ذخراً يوم يقابلون الله جل جلاله في يوم لا بد أنّه آت، لقد نسوا أنّ الموت مقدّر على النّاس جميعاً، وأنّ الحياة هي مرحلة بين قوسين: القوس الأوّل: هو أنّ الله سبحانه وتعالى يخلقنا ويوجدنا وتمضي رحلة الحياة إلى القوس الثّاني الّذي تخمد فيه بشريّتنا وتتوقّف حياتنا وهو الموت؛ أي: أنّنا في رحلة الحياة من الله وإليه سبحانه وتعالى، فحركة الحياة الدّنيا هي بدايةً من الله عز وجلَّ بالحياة ونهايةً بالموت، ولا أحد يملك الحياة أو الموت، فإن كان أحد يملك هذا فليمنع إنساناً واحداً أن يموت، والموت نقض للحياة، وقد أخفى الله سبحانه وتعالى عنّا الموت زماناً ومكاناً وسبباً وعمراً، لم يُخفه ليحجبه، وإنّما أخفاه حتّى نتوقّعه في كلّ لحظة، وهذا إعلامٌ واسع بالموت حتّى يُسرع النّاس إلى العمل الصّالح وإلى المثوبة؛ لأنّه لا يوجد عمر متيقّن في الدّنيا، فلا الصّغير آمن على عمره ولا الشّابّ آمن على عمره ولا الكهل آمن على عمره، ولذلك يجب أن يُسارع كلّ منّا في الخيرات حتّى لا يفاجئه الموت فيموت وهو عاص، والحقّ سبحانه وتعالى يؤكّد أمر ملاقاة الموت هنا باستخدام لفظ: ﴿إِنَّ﴾، ويستخدمه مرّتين في الآية نفسها، فيقول:

﴿قُلۡ إِنَّ ٱلۡمَوۡتَ ٱلَّذِي تَفِرُّونَ مِنۡهُ فَإِنَّهُۥ مُلَٰقِيكُمۡۖ﴾: فلا يحسب أحدٌ أنّه سيفلت من الموت وملاقاة الله عز وجلَّ؛ لأنّه كما يقول جلّ جلاله: ﴿أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ﴾ [البقرة: من الآية 148]؛ أي: أنّه ليس هناك مكان تستطيعون أن تختفوا فيه عن علم الله عز وجلَّ، فالحقّ جل جلاله يريدنا أن نعرف يقيناً أنّنا لا نستطيع أن نفرّ من علمه ولا من قدره ولا من عذابه، وأنّ الطّريق الوحيد المفتوح أمامنا هو أن نفرّ إلى الله سبحانه وتعالى، وأنّه لا منجاة من الله عز وجلَّ إلّا إليه، ولذلك لا يظنّ كافر أو عاص أنّه سيفلت من الله سبحانه وتعالى، والإنسان قد يستقبل الموت في أيّ لحظة، فلا أحد قادر على الاحتياط من الموت لا زماناً ولا مكاناً، وها هو ذا الحقّ سبحانه وتعالى يقول: ﴿أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ﴾ [النّساء: من الآية 78]، فالموت مخلوق بسرّ دقيق يُناسب دقّة الصّانع، وهو لطيف يأتي الإنسان ويدهمه في لحظة ومكان غير معلومين له، والحقّ سبحانه وتعالى يقول: ﴿أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ﴾  [النّساء: من الآية 78]، وكلمة: ﴿يُدْرِكْكُمُ﴾ دليل على أنّ الإنسان عندما تدبّ فيه الرّوح ينطلق الموت مع الرّوح إلى أن يدركها في الزّمن الّذي قدّره الله سبحانه وتعالى، وكلمة: (يدرك) توضِّح لنا أنّ الموت يلاحق الرّوح حتّى إذا أدركها سلبها، وكما قال الأثر الصّالح عن ملاحقة الموت للحياة: “حتّى إذا أدركها جرت، لا أحد منكم إلّا هو مُدرَك”، ولذلك يقول أهل المعرفة والاستشراق: “الموت سهم أرسل إليك، وإنّما عمرك هو بقدر سفره إليك”، فالموت يلاحق حياة الإنسان ويجري وراء روحه حتّى يدركها، فالموت سهم أرسل، وعمر الإنسان بقدر سفره إليه، فالموت واقع لا محالة، قال سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾ [الزّمر]، والدّليل على هذا هو استخدام الحقّ سبحانه وتعالى للفظة: ﴿تَفِرُّونَ﴾، فهم يفرّون من الموت، هم يجرون والموت يجري وراءهم، إنّهم يفرّون هرباً لعدم ملاقاة الموت وخشية أن يدركهم، ولكنّ الحقّ سبحانه وتعالى يقطع أملهم في هذا ويُحبِط آمالهم وتمنّياتهم بأنّهم لا يستطيعون الفرار من الموت والهرب منه، فيقول سبحانه وتعالى: ﴿فَإِنَّهُۥ مُلَٰقِيكُمۡۖ﴾، والقرآن الكريم يتميّز بأسلوبه البديع في التّعبير عن الحدث، وتصويره في صورة حسّيّة مشاهَدة بالأبصار، أناس يفرّون من شيء، وهذا الشّيء يطاردهم حتّى يدركهم، فقال: ﴿يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ﴾  [النّساء: من الآية 78]، ولكنّه هنا يقول لمحة أخرى:

﴿فَإِنَّهُۥ مُلَٰقِيكُمۡ﴾: والملاقاة فيها معنى المقابلة وجهاً، وهذا تعبير: ﴿يُدْرِكْكُمُ﴾ الّذي يعني الملاحقة والإدراك، ومعنى الإدراك يتّضح في قوله سبحانه وتعالى: ﴿فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ﴾ [الشّعراء]، يعني: أدركنا، فإذا كان الموت يدرك الإنسان فيصيبه وينال منه، فإنّه في الوقت نفسه يلاقيه ويصبح الإنسان وجهاً لوجه مع ما كان يفرّ منه، فالموت مصير الإنسان وهو سابقه، إنّه سيسبقنا وينتظرنا عند اللّحظة الّتي قدّرها الله عز وجلَّ، وفي المكان الّذي يشاؤه الحقّ سبحانه وتعالى.

﴿ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ﴾: نردّ إلى من يعلم السّرّ وأخفى، الّذي يعلم الغيب ويعلم المشهود، إلى الله سبحانه وتعالى، عندها لن تمرّ الأمور هكذا، وإنّما كما قال سبحانه وتعالى: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾ [الأنبياء]، ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى﴾ [النّجم].

﴿فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ﴾: وذلك في يوم الحساب.

الآية رقم (9) - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ

﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَوٰةِ مِن يَوۡمِ ٱلۡجُمُعَةِ﴾: الحقّ سبحانه وتعالى يريد من عباده أن يجتمعوا كلّ أسبوع مرّة؛ لأنّنا قد نصلّي فرضاً في مصنعنا أو في مزرعتنا أو في أيّ مكان، إنّما يوم الجمعة لا بدّ أن نجتمع مع غيرنا، لماذا؟ لأنّه من الجائز أنّنا نذلّ لله عز وجلَّ بيننا وبينه، ونخضع ونسجد ونبكي بيننا وبين الله سبحانه وتعالى، لكنّه سبحانه وتعالى يريد هذا الأمر أمام النّاس لنرى كلّ من له سيادة وجاه وعزّ وكبرياء يسجد ويخشع معنا لله عز وجلَّ، فأنت تخلع قدرك مع نعلك خارج المسجد، فكلّنا عبيد لله عز وجلَّ، نخضع له وحده، وهناك يومان في الأسبوع ذُكِرَا في القرآن الكريم بالاسم، وهما يوم الجمعة ويوم السّبت، بينما أيّام الأسبوع سبعة، خمسة أيّام منها لم تُذكَر في القرآن الكريم بالاسم وهي: الأحد والإثنين والثّلاثاء والأربعاء والخميس، الجمعة هو عيد المسلمين الّذي شرع فيه اجتماعهم في المساجد وأداء صلاة الجمعة، ونلاحظ أنّ يوم الجمعة لم يأخذ اشتقاقه من العدد، فأيّام الأسبوع نُسِبَت إلى الأعداد فيما عدا الجمعة والسّبت؛ لذلك نجد الأحد منسوباً إلى واحد، والإثنين منسوب إلى اثنين، والثّلاثاء منسوب إلى ثلاثة، والأربعاء منسوب إلى أربعة، والخميس منسوب إلى خمسة، وكان المفروض أن يُنسب يوم الجمعة إلى ستّة ولكنّه لم ينسب، لماذا؟ لأنّه اليوم الّذي اجتمع فيه للكون نظام وجوده، فسمّاه الله سبحانه وتعالى الجمعة وجعله عيداً، ورسول الله ﷺ يحدّثنا عن يوم الجمعة، فيقول: «إِنَّ يَوْمَ الجُمُعَةِ سَيِّدُ الأَيَّامِ، وَأَعْظَمُهَا عِنْدَ اللَّهِ، وَهُوَ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ يَوْمِ الأَضْحَى وَيَوْمِ الْفِطْرِ، فِيهِ خَمْسُ خِلَالٍ، خَلَقَ اللَّهُ فِيهِ آدَمَ، وَأَهْبَطَ اللَّهُ فِيهِ آدَمَ إِلَى الأَرْضِ، وَفِيهِ تَوَفَّى اللَّهُ آدَمَ، وَفِيهِ سَاعَةٌ لَا يَسْأَلُ اللَّهَ فِيهَا الْعَبْدُ شَيْئاً إِلَّا أَعْطَاهُ، مَا لَـمْ يَسْأَلْ حَرَاماً، وَفِيهِ تَقُومُ السَّاعَةُ، مَا مِنْ مَلَكٍ مُقَرَّبٍ، وَلَا سَمَاءٍ، وَلَا أَرْضٍ، وَلَا رِيَاحٍ، وَلَا جِبَالٍ، وَلَا بَحْرٍ، إِلَّا وَهُنَّ يُشْفِقْنَ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ»([1])، وقد شرع الله سبحانه وتعالى اجتماع الجمعة لأمرٍ اجتماعيّ، وهو أن يتفقّد الإنسان كلّ أخ من إخوانه ما الّذي أقعده؟ أحاجة أم مرض أم مصيبة؟ حتّى يساعده، ويفطن له ويكون معه، أمّا بالنّسبة إلى بني إسرائيل فقد طلبوا يوماً يرتاحون فيه من العمل ويتفرّغون فيه لعبادة الله عز وجلَّ، وقد اقترح عليهم نبيّهم موسى عليه السلام أن يكون يوم الجمعة فهو اليوم الّذي أتمّ الله سبحانه وتعالى فيه خلق الكون في ستّة أيّام، وهو اليوم الّذي اختاره الخليل إبراهيم عليه السلام، ولكنّهم رفضوا الجمعة واختاروا يوم السّبت، وقالوا: “إنّ الله خلق الدّنيا في ستّة أيّام بدأها بيوم الأحد وانتهى منها يوم الجمعة وارتاح يوم السّبت”، سبحانه وتعالى عمّا يقولون، وهذا ما ينسبونه إلى الله سبحانه وتعالى، تنزّه الله وتعالى عن قولهم علوّاً كبيراً، ويقولون: “وكذلك نحن نريد أن نرتاح ونتفرّغ لعبادة الله يوم السّبت”، ففي كلّ شأن من شؤونهم كيفما ذُكروا ذُكرت المخازي معهم.

والذّهاب إلى المسجد لأداء صلاة الجمعة فرض.

﴿إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَوٰةِ﴾: كيف يتمّ النّداء للصّلاة؟ عندما يرفع صوت المؤذِّن: الله أكبر، فهذه دعوة للإقبال على الله عز وجلَّ، إقبال في ساعة معلومة، لتقفوا أمامه سبحانه وتعالى، وتكونوا في حضرته، يعطيكم الله جل جلاله المدد، وعندما يحضر الإنسان لحضرة ربّه بالصّلاة ويكبّر: “الله أكبر” فهو منذ تلك اللّحظة في حضرة الله عز وجلَّ، وساعة يقول المؤذِّن: (الله أكبر) يكون الكلّ قد جاء، الغنيّ قبل الفقير، والخفير مع الأمير، ويخلع الجميع أقدارهم خارج المسجد مع نعالهم ليتساووا في الصّلاة، فيرتاح الجميع لحظة استطراق العبوديّة، وعندما يؤذَّن لصلاة الجمعة أمرنا الله سبحانه وتعالى أن نذر ونترك كلّ شيء، لنؤدّي صلاة الجمعة معاً في المسجد، ويرى الضّعيف عظيماً يتضرّع مثله إلى الله سبحانه وتعالى، ويرى القويّ نفسه بجانب الضّعيف، وحين يعود كلٌّ منّا إلى عمله تسقط أقنعة القوّة والزّهوّ والمال؛ لأنّنا جميعاً وقفنا أمام خالق واحد وكلّنا سواء، ويقول الحقّ سبحانه وتعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾ [طه: من الآية 14]؛ أي: لتذكّري؛ لأنّ دوام ورتابة النّعمة قد تُنسيك الـمُنعِم، فحين تسمع نداء: (الله أكبر) وترى النّاس يهرعون إلى بيوت الله سبحانه وتعالى لا يشغلهم شاغل عنها، تتذكّر إن كنت ناسياً، وينتبه قلبك إن كنت غافلاً.

﴿فَٱسۡعَوۡاْ إِلَىٰ ذِكۡرِ ٱللَّهِ﴾: الذّكر مصدر، والمصدر يضاف إلى الفاعل، أو يضاف إلى المفعول، فحين تقول: ﴿ذِكۡرِ ٱللَّهِ﴾: يصحّ أن يكون المعنى: ذكر صادر من الله سبحانه وتعالى، أو ذكر صادر من العبد لله عز وجلَّ، ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ [البقرة: من الآية 152]، اذكروني بالشّكر أذكركم بالنّعم، ولا شكّ أنّ ذكر الله عز وجلَّ لنا أكبر وأعظم من ذكرنا له سبحانه وتعالى؛ لأنّه إذا ذكرنا الله جل جلاله فسيعطينا بذكرنا له المنازل العالية ولن تنقطع عنّا نعمه وآلاؤه، وذكر الله سبحانه وتعالى لنا بالثّواب والرّحمة أكبر من ذكرنا له بالطّاعة، هذا على معنى أنّ الذّكر صادر من الله سبحانه وتعالى للعبد، أمّا المعنى الآخر أن يكون الذّكر صادراً من العبد لله عز وجلَّ، وهو ذكر الله سبحانه وتعالى خارج الصّلاة وهذا أكبر من ذكر الله سبحانه وتعالى في الصّلاة، كيف؟ قالوا: لأنّنا في الصّلاة نكون في حضرة ربّنا بعد تكبيرة الإحرام، أمّا إذا ما انتهت الصّلاة وخرجنا منها إلى حركة الحياة، فذكرنا الله سبحانه وتعالى ونحن مشغولون بحركة حياتنا أعظم وأكبر من ذكرنا في الصّلاة، فالذّكر ليس قاصراً على الصّلاة، إنّما يجب ألّا يغيب ذكر الله سبحانه وتعالى عن بالنا أبداً، وربّنا لا ينتظر أن نأتيه إنّما يدعونا لزيارته، وفي الحديث الشّريف: «فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعاً، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعاً تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعاً»([2])، والسّعي إلى ذكر الله سبحانه وتعالى وترك البيع من أجل ذلك، يعطي الإنسان طاقة إيمانيّة، يظهر أثرها في الحركة الثّانية من حركات الإنسان؛ ولذلك يقول الحقّ سبحانه وتعالى بعد ذلك: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ ٱلصَّلَوٰةُ فَٱنتَشِرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَٱبۡتَغُواْ مِن فَضۡلِ ٱللَّهِ وَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيرا لَّعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ﴾؛ لأنّ الفلاح لن يكون إلّا بذكرك للمنعم، وإن كانت حركة الحياة والسّعي فيها أمراً كبيراً فالله أكبر، فربّك يخرجك للصّلاة من عمل ويدعوك بعدها إلى العمل، لكن مع ذكر الله عز وجلَّ.

(الله أكبر) أكبر أفعل تفضيل، نزل على المبالغة، ودون أكبر نقول: (كبير)، وكأنّها إشارة إلى أنّ العمل والسّعي ليس شيئاً هيّناً إنّما هو كبير، لكنّ الله أكبر، فالسّعي في الحياة هو عصب الحياة، ولا تستقيم الأمور في عمارة الأرض إلّا به، فربّنا عز وجلَّ لا يزهّدنا في العمل، وإنّما يعطينا الطّاقة لاستمرار العمل، ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ ٱلصَّلَوٰةُ فَٱنتَشِرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ﴾، ويلفتنا الحقّ سبحانه وتعالى إلى إعجازٍ في الأسلوب القرآنيّ لقوله سبحانه وتعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَوٰةِ مِن يَوۡمِ ٱلۡجُمُعَةِ﴾، فالحقّ سبحانه وتعالى لم يقل: (للصّلاة يوم الجمعة)، بل قال: ﴿مِن يَوۡمِ ٱلۡجُمُعَةِ﴾، فلفظة ﴿مِن﴾ أفادت تحديد زمن الصّلاة المقصودة وهي صلاة الجمعة، كصلاة مخصوصة بوقت الظّهر، وتؤدّى ركعتين لا أربعاً كالظّهر، وهذا من أسلوب القرآن الكريم الدّقيق فإنّ (لِلصَّلَاةِ يَوْمِ الجُمُعَةِ) لا تخصّ زمناً معيّناً، بل يشيع فرضيّة الاجتماع للصّلاة في الصّلوات كلّها في يوم الجمعة، وهذا فيه مشقّة، والله سبحانه وتعالى لا يريد بعباده مشقّة، يقول الحقّ سبحانه وتعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: من الآية 185]، فحدّد لنا هذا الوقت، قال جل جلاله: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحجّ: من الآية 78].

﴿فَٱسۡعَوۡاْ إِلَىٰ ذِكۡرِ ٱللَّهِ﴾: فالسّعي هنا هو التّوجّه والسّير إلى المساجد، ولا بدّ أن نذهب إلى المكان الّذي خصّصناه لعبادة الله عز وجلَّ، فنتوجّه إلى الله عز وجلَّ، وقد قال رسول الله ﷺ لسلمان الفارسيّ رضي الله عنه يوماً: «أَتَدْرِي مَا يَوْمُ الجُمُعَةِ؟»، قُلْتُ: هُوَ اليَوْمُ الَّذِي جَمَعَ اللهُ فِيهِ أَبَاكُمْ، قَالَ: «لَكِنِّي أَدْرِي مَا يَوْمُ الجُمُعَةِ، لَا يَتَطَهَّرُ الرَّجُلُ فَيُحْسِنُ طُهُورَهُ، ثُمَّ يَأْتِي الجُمُعَةَ، فَيُنْصِتُ حَتَّى يَقْضِيَ الإِمَامُ صَلَاتَهُ، إِلَّا كَانَ كَفَّارَةً لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجُمُعَةِ الْمُقْبِلَةِ مَا اجْتُنِبَتِ الْمَقْتَلَةُ»([3])، ويحدّثنا رسول الله ﷺ عن أثر الوضوء في تطهّر المسلم وطهره ونقاء أعضائه من الدّنس والذّنوب، فيقول ﷺ: «إِذَا تَوَضَّأَ العَبْدُ الْمُسْلِمُ -أَوِ الـمُؤْمِنُ- فَغَسَلَ وَجْهَهُ خَرَجَ مِنْ وَجْهِهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ نَظَرَ إِلَيْهَا بِعَيْنَيْهِ مَعَ الْمَاءِ -أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ-، فَإِذَا غَسَلَ يَدَيْهِ خَرَجَ مِنْ يَدَيْهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ كَانَ بَطَشَتْهَا يَدَاهُ مَعَ الْمَاءِ -أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ-، فَإِذَا غَسَلَ رِجْلَيْهِ خَرَجَتْ كُلُّ خَطِيئَةٍ مَشَتْهَا رِجْلَاهُ مَعَ الْمَاءِ -أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ- حَتَّى يَخْرُجَ نَقِيّاً مِنَ الذُّنُوبِ»([4]).

ونبّه بعضهم إلى أنّ الإنصات للخطبة ثبت بدليل قول النّبيّ ﷺ: «إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ: أَنْصِتْ، يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ، فَقَدْ لَغَوْتَ»([5])، فالإنصات للخطبة جاء بدليل من السُّنّة.

وأمر صلاة الجمعة يقتضي منك أن تأخذ عندها زينتك مصداقاً لقول الحقّ سبحانه وتعالى: ﴿خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾[الأعراف: من الآية 31]، وهذا ما عناه رسول الله ﷺ في قوله: «لَا يَتَطَهَّرُ الرَّجُلُ فَيُحْسِنُ طُهُورَهُ، ثُمَّ يَأْتِي الجُمُعَةَ»، فمعالم يوم الجمعة وصلاة الجمعة هي عيد للمؤمن، والله سبحانه وتعالى يأمر أن نذر البيع من أجل صلاة الجمعة، فقال جل جلاله: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَوٰةِ مِن يَوۡمِ ٱلۡجُمُعَةِ فَٱسۡعَوۡاْ إِلَىٰ ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَذَرُواْ ٱلۡبَيۡعَۚ﴾، أخرجهم من البيع إلى الصّلاة، ولم يخرجهم من فراغ، ويقول لهم:

﴿ذَٰلِكُمۡ خَيۡر لَّكُمۡ﴾: خير: هي أفعل تفضيل، أصلها: أخير؛ أي: يعطيك منفعة أكبر من التّجارة، فإن كانت التّجارة خيراً لك، فإنّ الأشدّ خيريّة هو الاستجابة لنداء الصّلاة من يوم الجمعة، وترك البيع والسّعي إلى ذكر الله سبحانه وتعالى حيث ينادى به.

﴿إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ﴾: العلم هو أن تأخذ قضيّة تعتقدها ولها واقع وتستطيع أن تدلّل عليها، ومعنى: ﴿إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ﴾؛ أي: تتيقّنون من هذه القضيّة، فيجب أن تكون عقيدة بالنّسبة إليكم، فهناك موازين تعرفون بها ما هو خير وما هو شرّ.

([1]) سنن ابن ماجه: كتاب إقامة الصّلاة، والسُّنّة فيها، باب في فضل الجمعة، الحديث رقم (1084).

([2]) صحيح البخاريّ: كتاب التّوحيد، باب قول اللّه تعالى: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ﴾[آل عمران: من الآية 28]، الحديث رقم (7405).

([3]) مسند الإمام أحمد بن حنبل: أحاديث رجال من أصحاب النّبيّ ﷺ، حديث سلمان الفارسيّ، الحديث رقم (23718).

([4]) صحيح مسلم: كتاب الطّهارة، باب خروج الخطايا مع ماء الوضوء، الحديث رقم (244).

([5]) صحيح مسلم: كتاب الجمعة، باب في الإنصات يوم الجمعة في الخطبة، الحديث رقم (851).

الآية رقم (0) - بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الجمعة سورة مدنيّة، عدد آياتها: (11) آية، ترتيبها في المصحف الشّريف (62)، نزلت بعد سورة الصّفّ، هي رابع السّور المسبّحات الّتي تبدأ بالتّسبيح لله عز وجلَّ، تناولت ما يتعلّق باليهود، وأحكام صلاة الجمعة، ولهذا السّبب سمّيت سورة الجمعة.

الآية رقم (1) - يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ

﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ﴾: المتتبّع لألفاظ التّسبيح في القرآن الكريم يجد أنّ التّسبيح ثابت لله عز وجلَّ قبل أن يخلق المسبِّحين، كقوله: ﴿سُبْحَانَ الَذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً﴾[الإسراء: من الآية 1]، ثمّ بعد أن خلق الله عز وجلَّ الخلق قال: ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾[الحشر: من الآية 1]، فهل سبَّحوا وانتهوا؟ لا، قال جل جلاله: ﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ ٱلۡمَلِكِ ٱلۡقُدُّوسِ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡحَكِيمِ﴾، فتسبيح الله سبحانه وتعالى كان وما يزال إلى قيام السّاعة، لذلك يأمر الحقّ سبحانه وتعالى نبيّه ﷺ ومعه أمّته ألّا يخرج عن هذه المنظومة المسبِّحة، فيقول له: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾[الأعلى]، والتّسبيح هو تنزيهٌ لله جل جلاله ضمن منظومة للكون كلّه، فالكون كلّه مسبِّح لله عز وجلَّ، لذلك يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ [الإسراء: من الآية 44]، وعَنِ النَّبِيِّ ﷺ: أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ فِي الْوِتْرِ بـ: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾ [الأعلى]، و: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ﴾[الكافرون]، و: ﴿قُلۡ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ﴾، فَإِذَا سَلَّمَ قَالَ: سُبْحَانَ الـمَلِكِ الْقُدُّوسِ، سُبْحَانَ الـمَلِكِ القُدُّوسِ، سُبْحَانَ الـمَلِكِ القُدُّوسِ، وَرَفَعَ بِهَا صَوْتَهُ([1]).

﴿ٱلۡمَلِكِ﴾: في الآخرة هناك مالك واحد هو مالك يوم الدّين، ولا يوجد ملكٌ في الآخرة إلّا لله عز وجلَّ، لذلك يقول سبحانه وتعالى: ﴿لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾[غافر: من الآية 16]، فإن أعطى في الدّنيا ملكاً للنّاس فهو مالك الملك.

﴿ٱلۡقُدُّوسِ﴾: المطهَّر، فالتّقديس هو تطهير الله سبحانه وتعالى عن الأغيار كلّها، فهو قدّوس طاهر، لا يليق أن يُرفَع إليه إلّا طاهر، ولا يليق أن يصدر عمّن خلقه بيديه إلّا طاهر، لذلك على الإنسان أن يكون طاهراً، ويُقال: قدّس الله؛ أي: نزّه، فالله جل جلاله له أفعال لكنّ أفعاله مقدّسة ومطهّرة ومنزّهة أن تكون كأفعال البشر، وصفاته جل جلاله مقدّسة؛ أي: مطَهَّرة، وهو سبحانه قدّوس منزّه عن كلّ نقص، وقد قالت الملائكة: ﴿نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾[البقرة: من الآية 30]، والتّسبيح هو التّنزيه عمّا لا يليق بذات المنزَّه، والتّقديس هو التّطهير، ولذلك نقول: سبّوح قدّوس ربّ الملائكة والرّوح، سبّوح؛ أي: مُنَزَّه عن كلّ ما لا يليق بجلاله، وقدّوس؛ أي: مطهَّر.

والتّسبيح تقديس لله عز وجلَّ وتنزيهه ذاتاً وصفاتاً وأفعالاً، فهو جل جلاله: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾[الشّورى: من الآية 11]، لا في الذّات ولا في الصّفات ولا في الأفعال، والمعنى: نسبِّحك ونُقَدِّسك تقديساً يليق بألوهيّتك الثّابتة لك.

﴿ٱلۡعَزِيزِ﴾: الّذي لا يُغلَب، والحقّ سبحانه وتعالى عزيز ذو انتقام.

﴿ٱلۡحَكِيمِ﴾: الذّي يضع الأشياء في نصابها، فإطلاق صفة الحكيم على الخالق سبحانه وتعالى هو أنّه جل جلاله يحكم المخلوقات حتّى لا تسير بغير هدى ودون دراية، والحكمة في الفقه أن يوضع هدف لكلّ حركة لتنسجم الحركات بعضها مع بعض، ويصير الكون محكوماً بالحقّ الّذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والحِكْمة مأخوذة من الحَكَمة الّتي توضع في فم الفرس ونسمّيها اللّجام، وتتكوّن من قطعة من الجلد تدخل على اللّسان وفيها قطعة من الحديد، فإن مال إلى غير الاتّجاه الّذي تريد يكون من السّهل جذبه إلى الاتّجاه الصّحيح، ومن هنا أُخِذَت الحِكْمَة.

فالله سبحانه وتعالى هو الحكيم العزيز، وهو مستغنٍ عن عبادة خلقه.

([1]) مسند الإمام أحمد بن حنبل: مسند المكّيّين، عبد الرّحمن بن أَبْزَى الخُزَاعِيّ، الحديث رقم (15354).

الآية رقم (2) - هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ

﴿هُوَ ٱلَّذِي بَعَثَ فِي ٱلۡأُمِّيِّـۧنَ﴾: لقد كان رسول الله ﷺ مبعوثاً إلى أمّة أمّيّة ليس لها ثقافة، والقرآن الكريم إنّما نزل ليخاطب أمّة أمّيّة، وجاء على لسان رسول الله الأمّيّ ﷺ في أمّة لا تعرف المسائل العلميّة شديدة التّعقيد والفلسفات والثّقافات والحضارات، فالله عز وجلَّ لم يُنزِل القرآن الكريم على أحد ممّن تشبّع بفلسفات اليونان أو الإغريق أو الفراعنة، إنّما أنزله على نبيٍّ أمّيٍّ لا يقرأ ولا يكتب، في أمّة أمّيّة، وهذا له حكمة بالغة؛ لأنّ معنى (أمّيّ)؛ أي: أنّه لم يأخذ علماً من البشر، إنّما جاءت ثقافته وعلمه من السّماء.

ونلحظ أنّ الحقّ سبحانه وتعالى قال: ﴿بَعَثَ فِي ٱلۡأُمِّيِّـۧنَ﴾، ولم يقل: (أرسل إلى الأمّيّين)، فمعنى الإرسال أنّه أرسل إليهم منهم أو من غيرهم، وكذلك لم يقل: (بعث إلى)، ولكنّه سبحانه وتعالى بعث فيهم، والبعث فيه التفات إلى إعادة الحياة، وهو هنا إعادة الحياة لدين إبراهيم وإسماعيل عليهما السّلام دين التّوحيد الّذي كان في العرب منذ أزمان طويلة.

﴿هُوَ ٱلَّذِي بَعَثَ فِي ٱلۡأُمِّيِّـۧنَ رَسُولا مِّنۡهُمۡ﴾: والأمّيّون هم الّذين لا يعرفون كتاباً سماويّاً، والحقّ سبحانه وتعالى يسمّي العرب المعاصرين لرسول الله ﷺ أمّيّين.

وهذه الصّفة صفة الأمّيّة في رسول الله ﷺ وفي أمّته كانت شهادة تفوّق؛ لأنّها أمّة لم تأخذ علمها بالقراءة عن حضارات الأمم السّابقة، وإنّما أخذته عن الله عز وجلَّ، والله جل جلاله إنّما بعث في هؤلاء الأمّيّين واحداً منهم أمّيّاً مثلهم: ﴿رَسُولا مِّنۡهُمۡ﴾: فإيّانا أن نظنّ أنّ الأمّيّة عيب في رسول الله ﷺ، فإن كانت عيباً في غيره فهي فيه شرف وكمال؛ لأنّ معنى أمّيّ يعني على فطرته كما ولدته أمّه، لم يتعلّم شيئاً من أحد إلّا من خالقه، فالله سبحانه وتعالى علّم الخلق، وعلّم النّبيّ ﷺ مباشرة عن طريق الوحي، وقد كانت هذه دعوة إبراهيم عليه السلام فقال: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الحكيم﴾[البقرة].

﴿يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ﴾: أي: يتلو عليهم آيات القرآن الكريم.

﴿وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ﴾: يجب أن تعرف أنّ هناك فرقاً بين التّلاوة وبين التّعليم، فالتّلاوة هي أن نقرأ القرآن الكريم، أمّا التّعليم فهو أن نعرف المعاني وما جاء بها لنطبّقه، وإذا كان الكتاب هو القرآن الكريم، فإنّ الحكمة هي أحاديث رسول الله ﷺ الّتي قال الحقّ سبحانه وتعالى فيها في خطابه لزوجات النّبيّ ﷺ: ﴿وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَىٰ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ الله وَالْحِكْمَة﴾ [الأحزاب: من الآية 34]، وفي آيةٍ أخرى، يقول الحقّ سبحانه وتعالى: ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾[البقرة]، فمؤدَّى تلاوة آيات الله عز وجلَّ هي التّزكية؛ أي: التّطهير، فآيات الله سبحانه وتعالى تطهّر النّفوس والقلوب من الدّنس الّذي قد يعلق بها، فطهّرهم من عبادة الأصنام ومن وأد البنات والخمر والميسر والرّبا، ومعنى التّزكية أيضاً سلب المضارّ، فكأنّه جاءهم بالنّفع وسلب منهم الضّرّ، وهو عندما يزكّيهم ويطهّرهم، إنّما يقودهم إلى طريق الخير وتمام الإيمان، وهذا بتعليمهم الكتاب والحكمة، وإذا وردت كلمة الكتاب على إطلاقه ينصرف إلى القرآن الكريم، والكتاب يعطيك التّكليف، إمّا أن يأمرك بشيء وإمّا أن ينهاك عن شيء، فهي دائرة بين الفعل والتّرك، والحكمة هي وضع الشّيء في موضعه وأن تفعل الفعل الّذي يحقّق لك خيراً أو يمنع عنك شرّاً.

﴿وَإِن كَانُواْ مِن قَبۡلُ لَفِي ضَلَٰل مُّبِين﴾: فهم أمّة أمّيّة، كانوا في ضلال، لا يعرفون الحقّ ولا يعرفون إلى أين يتّجهون، فهذه الآية بيّنت أوّل المقاصد الّتي بُعث النّبيّ ﷺ من أجلها وهي تلاوة آيات الله سبحانه وتعالى، يقول جل جلاله: ﴿يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ﴾، وبعد تلاوة آيات الله عز وجلَّ التّزكية: ﴿وَيُزَكِّيهِمۡ﴾، وبعد ذلك: ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ﴾: تعليم وفهم معاني القرآن الكريم، وبعد ذلك: ﴿وَٱلۡحِكۡمَةَ﴾: وهي السّنّة النّبويّة، ما أمر به النّبيّ ﷺ وما نهى عنه، فهي تنقية ونماء، فالنّبيّ ﷺ جاء ليزكّي النّفوس، والتّزكية هي تطهير وتنقية ونماء، والتّزكية تزكية الإنسان نفسه في ذاته، فبدلاً من أن يكذب لسانه طهّره عن الكذب، وبدل أن تمتدّ عينه إلى محارم غيره طهَّر عينه من النّظر إلى المحرّمات، وبدلاً من أن تمتدّ يده خُفية وتسرق فهو لا يفعل ذلك، وطهّر ذرّيّته من الدّنس، وجعل لها وعاء شريفاً عفيفاً وإطاراً لا تشوبه شائبة، فجاء النّبيّ ﷺ ليزكّيكم في حركات جوارحكم كلّها.

والتّزكية لا بدّ أن تقترن بتعليم الكتاب والحكمة، فهنا أمور ثلاثة: تلاوة القرآن الكريم، والتّزكية، ثمّ تعليم الكتاب؛ أي: تعليمهم ما جاء في هذا القرآن الكريم، وتعليمهم أيضاً الحكمة، وهي أقوال وأفعال وإقرار ونهي النّبيّ ﷺ، بدليل قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَىٰ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ الله وَالْحِكْمَة﴾  [الأحزاب: من الآية 34]، فآيات الله عز وجلَّ القرآن الكريم، والحكمة أحاديث رسول الله وسنّته ﷺ، يقول الحقّ سبحانه وتعالى: ﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ [البقرة: من الآية 269]، فهؤلاء الأمّيّون الّذين بعث الله سبحانه وتعالى فيهم رسولاً منهم ليتلو عليهم آيات الله عز وجلَّ، ويزكّيهم، ويعلّمهم الكتاب والحكمة كانوا في ضلال مبين.

﴿ضَلَٰل﴾: يقولون: ضلّ فلان الطّريق؛ أي: مشى في مكان لا يوصله إلى الغاية، أو يوصل إلى ضدّ الغاية، فالضّلال في الدّنيا، والأمور المادّيّة، قد لا يوصل إلى الغاية المرجوّة، لكن في الأمر القيميّ لا يوصل إلى الغاية المرجوّة وهي الجنّة فحسب، ولكنّه يوصل إلى المقابل وهو النّار، هذا هو الضّلال المبين.

﴿مُّبِين﴾: إنّه ضلال واضح ظاهر، فكانوا في ضلال مبين لا يعرفون الهداية.

الآية رقم (3) - وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ

فإذا كان الحقّ سبحانه وتعالى، قد قال في الآية السّابقة: ﴿هُوَ ٱلَّذِي بَعَثَ فِي ٱلۡأُمِّيِّـۧنَ رَسُولا مِّنۡهُمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ﴾ في شأن قوم رسول الله ﷺ وفي شأن العرب، فإنّ رسالة سيّدنا محمّد ﷺ لم تكن للعرب فقط، إنّما كانت للعالمين أجمع، للعرب وغير العرب، وكان ﷺ يُرسل رسائل للمقوقس وإلى عظيم الرّوم وملك الفرس.. وغيرهم.

﴿وَءَاخَرِينَ مِنۡهُمۡ لَمَّا يَلۡحَقُواْ بِهِمۡۚ﴾: كما جاء في حديث النّبيّ ﷺ الّذي رواه لنا أبو هريرة رضي الله عنه، قال: كُنَّا جُلُوساً عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ، فَأُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الجُمُعَةِ: ﴿وَءَاخَرِينَ مِنۡهُمۡ لَمَّا يَلۡحَقُواْ بِهِمۡۚ﴾، قَالَ: قُلْتُ: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَلَمْ يُرَاجِعْهُ حَتَّى سَأَلَ ثَلَاثاً، وَفِينَا سَلْمَانُ الفَارِسِيُّ، وَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَدَهُ عَلَى سَلْمَانَ، ثُمَّ قَالَ: «لَوْ كَانَ الإِيمَانُ عِنْدَ الثُّرَيَّا، لَنَالَهُ رِجَالٌ -أَوْ رَجُلٌ- مِنْ هَؤُلَاءِ»([1])، والمعنى سيأتي أقوام بعد هؤلاء الّذين نزل فيهم القرآن الكريم، فالقرآن الكريم ورسالة النّبيّ ﷺ للنّاس كافّة، قال جلّ جلاله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا﴾ [سبأ: من الآية 28]، وقال عز وجلَّ: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء]، فهو مرسل إلى الأمم جميعاً، والإسلام دعوة عالميّة لكلّ زمان ومكان.

﴿وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ﴾: فالله سبحانه وتعالى لا يُغلَب، ولا رادّ لأمره.

﴿ٱلۡحَكِيمُ﴾: الّذي يضع الأمور في نصابها.

([1]) صحيح البخاريّ: كتاب تفسير القرآن، باب قوله: ﴿وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ﴾ [الجمعة: من الآية 3]، الحديث رقم (4897).

الآية رقم (4) - ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ

رسالة النّبيّ ﷺ كلّها فضل وعطاء، وخير ورحمة، جاءت لتخرج النّاس من الظّلمات إلى النّور، ولتعطي النّاس الرّسالة الخاتمة، وقد ضمّت خيري الدّنيا والآخرة.

﴿ ذَٰلِكَ﴾: كلمة تتكوّن من اسم الإشارة (ذا)، ثمّ (اللّام) الّتي للبعد، ثمّ (الكاف) الّتي للخطاب، واسم الإشارة هنا إنّما يشير إلى ما جاء في الآيات قبل، وهو قوله سبحانه وتعالى: ﴿هُوَ ٱلَّذِي بَعَثَ فِي ٱلۡأُمِّيِّـۧنَ رَسُولا مِّنۡهُمۡ﴾، فاسم الإشارة (ذا) يشير إلى نبوّة رسول الله ﷺ، فنبوّته فضل تفضّل به الله سبحانه وتعالى على محمّد ﷺ أوّلاً، ثمّ على أمّته: ﴿بَعَثَ فِي ٱلۡأُمِّيِّـۧنَ﴾، ثمّ على العالمين: ﴿وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ﴾.

﴿فَضۡلُ ٱللَّهِ﴾: الفضل هو الأمر الزّائد عن الحاجة.

﴿يُؤۡتِيهِ مَن يَشَآءُۚ﴾: فهذه الرّسالة الخاتمة رحمة وفضل من الله عز وجلَّ أعطاها للنّبيّ ﷺ، وهي تتّسع لأقضية الحياة كلّها إلى يوم القيامة.

﴿وَٱللَّهُ ذُو ٱلۡفَضۡلِ ٱلۡعَظِيمِ ﴾: أي: ذو الفضل الزّائد عن حاجة أيّ إنسان، والفضل الحقيقيّ هو الّذي من عند الله عز وجلَّ، لذلك فإنّ الله سبحانه وتعالى ذو الفضل العظيم؛ لأنّه غير محتاج إلى خلقه، وهكذا يتبيّن بأنّ رسالة النّبيّ ﷺ هي من الفضل العظيم من الله سبحانه وتعالى على خلقه.

الآية رقم (5) - مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ

﴿مَثَلُ ٱلَّذِينَ حُمِّلُواْ ٱلتَّوۡرَىٰةَ ثُمَّ لَمۡ يَحۡمِلُوهَا كَمَثَلِ ٱلۡحِمَارِ يَحۡمِلُ أَسۡفَارَۢا﴾: الّذين حُمِّلوا التّوراة: هم اليهود، فهناك صنف يحمل التّوراة وهو لا يعرف عنها شيئاً، فهم حملوا التّوراة، ولكنّهم لم يعملوا بها فكانوا كالحمار، والحمار لا يستحقّ الذّمّ؛ لأنّه لم يفقه ما في الأسفار الّتي يحملها فوق ظهره؛ لأنّ مهمّته النّقل، أمّا مهمّة البشر فهي أن يفهموا، فهم حُمِّلوا التّوراة ولم يحملوها؛ أي: لم يعملوا بما فيها، أمّا لفظ ﴿ٱلتَّوۡرَىٰةَ﴾ فهو لفظ غير عربيّ، ولكنّه مستخدم في اللّغة العربيّة.

﴿بِئۡسَ مَثَلُ ٱلۡقَوۡمِ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِۚ﴾: وهذا مثل اليهود، فقد كذّبوا وأنكروا على سيّدنا رسول الله ﷺ، فهذا هو المثل لمن كذّب بآيات الله عز وجلَّ، ومن يُنكر ما جاء بآيات الله سبحانه وتعالى، ﴿فَمَثَلُهُۥ كَمَثَلِ ٱلۡكَلۡبِ إِن تَحۡمِلۡ عَلَیۡهِ یَلۡهَثۡ أَوۡ تَتۡرُكۡهُ یَلۡهَثۚ ذَّ ⁠لِكَ مَثَلُ ٱلۡقَوۡمِ ٱلَّذِینَ كَذَّبُوا۟ بِـَٔایَـٰتِنَاۚ فَٱقۡصُصِ ٱلۡقَصَصَ لَعَلَّهُمۡ یَتَفَكَّرُونَ﴾ [الأعراف: من الآية 176]، فالّذين كذّبوا بآيات الله عز وجلَّ هم المشركون واليهود، وكلّ من يرفض الإسلام.

﴿وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّٰلِمِينَ﴾: هم ظلموا أنفسهم، وظلموا غيرهم، فلن تأتيهم هداية المعونة، لكنّ هداية الدّلالة تأتي للجميع.