الآية رقم (11) - تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ

﴿تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَتُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ﴾: تربط الآية بين الإيمان بالله عز وجلَّ والجهاد في سبيله سبحانه وتعالى، فالجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى ضمان للمؤمن أن يظلّ المنهج الّذي آمن به موصولاً إلى أن تقوم السّاعة، وذلك لا يتأتّى إلّا بإشاعة المنهج في العالم كلّه، والنّفس المؤمنة إذا وقفت نفسها على أن تجاهد في سبيل الله عز وجلَّ كان عندها شيء من الإيثار الإيمانيّ، ومن المعلوم أنّ الجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى هو الدّفاع عن الأوطان والبلاد والعباد، وعن العرض والمقدّسات، ويجب أن نعلم أنّ حركة الحياة كلّها جهاد، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا﴾[الفرقان: من الآية 52]، بالعلم والقرآن الكريم، وإيّانا أن نقصر فكرة الجهاد كما فعل بعضهم على ساحة المعركة، فقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَتُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ﴾ يصنع أمّة إيمانيّة متحضّرة، والجهاد القتاليّ هو لونٌ من أنواع الجهاد، وما أُذِن لنا إلّا عندما ظُلمنا، قال جلّ جلاله: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾[الحجّ]، فما واجهنا أحداً عبر تاريخنا إلّا نتيجة العدوان ومنع حرّيّة اختيار النّاس، لذلك قال تعالى:

﴿وَتُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمۡوَٰلِكُمۡ وَأَنفُسِكُمۡۚ﴾: والمال على الحقيقة ليس مالنا، وإنّما نحن مستخلفون فيه، منتفعون به، كذلك الأنفس على الحقيقة هي موهوبة لنا من الله سبحانه وتعالى، فلا نضنّ بها في طريق الحقّ سبحانه وتعالى.

﴿ذَٰلِكُمۡ خَيۡر لَّكُمۡ﴾: هذا هو الخير بأن تجاهد في سبيل الله سبحانه وتعالى بالمال والنّفس، وهذا خير لكم من الدّنيا وما فيها، وخير لكم ممّا تجمعون.

وكلمة: ﴿خَيۡر﴾  هنا تشمل خيراً في الدّنيا وخيراً في الآخرة، والله سبحانه وتعالى يضاعف للمؤمنين الخير ليكون خيراً دائماً في الدّنيا والآخرة.

﴿إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ﴾: أي: إن كنتم تتيقّنون من قضيّة نسبيّة واقعة تستطيعون أن تدلّلوا عليها، ذلك أنّ المجاهد الّذي يجاهد بماله ونفسه يكون قد اقتنع بيقين أنّه سوف يحصل من الجهاد على ما هو خير من المال والنّفس.

الآية رقم (12) - يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ

﴿يَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡ﴾: فأوّل ما يثاب به الشّهيد هو مغفرة ذنوبه عند أوّل دفقة من دمه الزكيّ، كأن لم تكن له ذنوب اقترفها، فالإنسان إذا ما قُتل في سبيل الله ذهب إلى حياة أفضل، قال جلّ جلاله: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ۝ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾[آل عمران]، فهناك من يقول: هبّي يا رياح الجنّة، وفي غزوة بدر قال رسول اللَّه ﷺ: «والّذي نفسي بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر إلّا أدخله اللَّه الجنّة»، فقال عُمير بن الحمام -أحد بني سلمة- وفي يده تمرات يأكلهنّ: بخ بخ، فما بيني وبين أن أدخل الجنّة إلّا أن يقتلني هؤلاء؟! فقذف التّمر من يده، وأخذ سيفه فقاتل حتّى قُتل([1])؛ لأنّه واثق تمام الثّقة أنّ ما سيذهب إليه بالشّهادة خير ممّا ترك.

﴿وَيُدۡخِلۡكُمۡ جَنَّٰت﴾: يبشّر الحقّ سبحانه وتعالى المجاهدين في سبيله والشّهداء منهم بجنّات تجري من تحتها الأنهار، والجنّات جمع جنّة، وهي كثيرة متنوّعة، وفي كلّ منها درجات، فهناك جنّات الفردوس وجنّات عدن وجنّات النّعيم، وهناك دار الخلد ودار السّلام وجنّة المأوى، وأعلى ما فيها التّمتّع برؤية الحقّ تبارك وتعالى.

لقد هيّأ الله سبحانه وتعالى للمؤمنين به المقاتلين في سبيل نصرة دينه وإعلاء كلمته جنّات تتخلّلها الأنهار، وذلك هو الفوز والنّجاح الكبير، والجنّات معناها البساتين الّتي فيها أشجار وثمار وكلّ ما تشتهيه الأنفس، والجنّة في أصل اللّغة هي السّتر، والجنّة تستر مَن فيها بأشجارها الكثيرة والكثيفة، بحيث من يمشي فيها لا يظهر، والجنّة -ولله المثل الأعلى- هي الحديقة الواسعة، وهذا الاتّساع موزّع على مرأى العين كلّه، والحقّ سبحانه وتعالى يصف الجنّات هنا أنّها:

﴿تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ﴾: ووصفها سبحانه وتعالى في آية أخرى: ﴿جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتِهَا الأَنْهَارُ﴾[التّوبة: من الآية 100]، فما الفرق بين الاثنتين؟ ﴿جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتِهَا الأَنْهَارُ﴾ [التّوبة: من الآية 100]، تعني أنّ الماء ينبع من مكان بعيد وهو يمرّ ويجري تحتها، أمّا قوله سبحانه وتعالى: ﴿تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ﴾، فكأنّ الأنهار تنبع من تحتها.

ولا يقتصر ثواب المجاهدين على مغفرة ذنوبهم أو إدخالهم الجنّات الّتي تجري تحتها الأنهار، بل أيضاً قد أعدّ الله سبحانه وتعالى لهم:

﴿وَمَسَٰكِنَ طَيِّبَة﴾: فالجنّات ليست هي المساكن، بل في تلك الجنّات مساكن، بدليل قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَمَسَٰكِنَ طَيِّبَة فِي جَنَّٰتِ عَدۡن﴾، فالجنّات هي الحدائق، وفيها مساكن، وقد جعل الله سبحانه وتعالى هذه المساكن الطّيّبة في جنّات عدن، والعدن هو الإقامة الدّائمة، فجنّات عدن هي جنّات الإقامة الدّائمة؛ لأنّ الدّنيا ليست دار الإقامة.

﴿ذَٰلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ﴾: إنّ الله سبحانه وتعالى سمّى هذا اليوم بالنّسبة إلى المؤمنين يوم الفوز العظيم، وهو الّذي يجعلنا نتحمّل كلّ ما نكره، ونجاهد في سبيل الله جل جلاله.

([1]) الإصابة في تمييز الصّحابة: ذكر من اسمه عمير، عمير بن الحمام، الحديث رقم (1486).

الآية رقم (13) - وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ

فإذا كان الحقّ سبحانه وتعالى قد وعد من تاجروا معه عز وجلَّ وآمنوا به وبرسوله وجاهدوا في سبيله بأموالهم وأنفسهم، بغفران ذنوبهم وإدخالهم جنّات تجري من تحتها الأنهار وإسكانهم في مساكن طيّبة تطيب فيها معيشتهم وتدوم فيها إقامتهم، إذا كان هذا، فإنّ الحقّ سبحانه وتعالى؛ لأنّه ربّ يتّصف بالرّبوبيّة فإنّه عليم بما يحبّه عباده، فهم يحبّون النّصر في الدّنيا، لذلك فإنّ الله سبحانه وتعالى يعدهم بخلّة أخرى، قال العلماء: أي: لكم في العاجل مع ثواب الآخرة أخرى تحبّونها، فالله سبحانه وتعالى يعلم من نفوس البشر أنّهم يحبّون أن يروا ثمرة عملهم في الدّنيا نصراً على عدوّهم، وفتحاً يحقّق لهم ما تصبو إليه نفوسهم من نصرة الإسلام، ومثل هذه الالتفاتة الرّبّانيّة لوجدانات ومشاعر عباده قد جاء في قوله سبحانه وتعالى: ﴿أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ۚ أَتَخْشَوْنَهُمْ ۚ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ(13) قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ(14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ ۗ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(15)﴾ [التّوبة]، فالنّصر الّذي سيحقّقه المؤمنون بعون الله سبحانه وتعالى على الكفّار سيشفي صدور المؤمنين الّذين استذلّهم الكفّار واعتدوا عليهم، فكأنّ هذا النّصر يشفي الدّاء الّذي ملأ صدور أولئك، ويخرج الغيظ والانفعال المحبوس في الصّدور، وهذا معالجة لقلوب المؤمنين أيضاً.

وليس صحيحاً ما ذهب إليه بعضهم أنّ ﴿وَأُخۡرَىٰ﴾ هنا معطوفة على ﴿تِجَارَةٍ﴾ في قوله سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾، فليست هذه تجارة أخرى، بل هي مثوبة أخرى غير مثوبة الآخرة، وهي مكافأة دنيويّة.

﴿وَأُخۡرَىٰ تُحِبُّونَهَاۖ نَصۡر مِّنَ ٱللَّهِ﴾: فهو سبحانه وتعالى النّاصر لكم، لكن إيّاكم أن تظنّوا أنّ النّصر من الله سبحانه وتعالى لا يصدر عن حكمة، والنّصر لا يكون إلّا من الله سبحانه وتعالى، يقول جلّ جلاله: ﴿وَمَا النَّصرُ إِلّا مِن عِندِ اللَّهِ العَزيزِ الحَكيمِ﴾[آل عمران: من الآية 126].

﴿وَفَتۡح قَرِيبۗ﴾: والفتح هو قمّة النّصر؛ لأنّ فيه تمكيناً في الأرض، وسمّي فتحاً؛ لأنّه محكوم بضوابط شَرْعِ الله عز وجلَّ في القتال، من عدم النّهب والسّلب وقتل الذّراري والنّساء والشّيوخ الكبار وعدم التّخريب وقطع الأشجار، وللعلماء كلام في الفتح المقصود في هذه الآية، فبعضهم قال: إنّه فتح مكّة، وآخرون قالوا: إنّه فتح فارس والرّوم، وكلّه محتمل، وقد ذكر الحقّ سبحانه وتعالى الفتح عدّة مرّات في كتابه العزيز، منها قوله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا﴾ [الفتح]، وهو بمعنى النّصر والغلبة والتّمكين، وكلمة الفتح إن جاءت معرّفة بـ (أل) فخيرها مضمون، واعلم أنّها نعمة محروسة لك، سينالك نفعها، وإن جاءت نكرة فلا بدّ لها من متعلّق يوضّح الغاية منها: أهذا الفتح لك أم عليك؟! فقوله سبحانه وتعالى في خطاب النّبيّ ﷺ: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا﴾  [الفتح]، دلّ على أنّ هذا الفتح لمصلحته ﷺ، فهو غُنم لا غُرم، لذلك عدّ صلح الحديبية فتحاً؛ لأنّه كان في مصلحة الإسلام لا ضدّه، وقد نزلت سورة الفتح في منصرف رسول الله ﷺ من الحديبية بعد توقيع بنود الصّلح بينه وبين قريش، ويجوز أن يكون هو فتح مكّة، والحديبية مقدّمة الفتح، ولذلك عرّف الله سبحانه وتعالى الفتح في سورة النّصر فقال جلّ جلاله: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ﴾ [النّصر]؛ أي: الفتح الموعود به، وهو فتح مكّة؛ لأنّ رسول الله ﷺ رآه ورأى النّاس يدخلون في دين الله أفواجاً نتيجة لهذا الفتح، وليس تخصيصاً لآية سورة الصّفّ: ﴿وَأُخۡرَىٰ تُحِبُّونَهَاۖ نَصۡر مِّنَ ٱللَّهِ وَفَتۡح قَرِيبۗ﴾، فالفتح هنا عامّ في كلّ زمان، يأتي للمؤمنين بالله سبحانه وتعالى ورسوله ﷺ، الّذين جاهدوا في سبيل الله عز وجلَّ بأموالهم وأنفسهم، وتوفّرت فيهم شروط النّصر والتّمكين، ولذلك لم يكن الخطاب في هذه الآيات موجّهاً لرسول الله ﷺ مباشرة كما في سورة الفتح أو سورة النّصر، بل هو موجّه لعموم المؤمنين: ﴿وَأُخۡرَىٰ تُحِبُّونَهَاۖ نَصۡر مِّنَ ٱللَّهِ وَفَتۡح قَرِيبۗ وَبَشِّرِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ﴾.

الآية رقم (14) - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ

﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُوٓاْ أَنصَارَ ٱللَّهِ﴾: تكرّر النّداء بـ ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ﴾ في هذه السّورة ثلاث مرّات، فقال سبحانه وتعالى: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ﴾، وقال جل ّجلاله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾، ثمّ يقول سبحانه وتعالى هنا: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُوٓاْ أَنصَارَ ٱللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ٱبۡنُ مَرۡيَمَ لِلۡحَوَارِيِّـۧنَ مَنۡ أَنصَارِيٓ إِلَى ٱللَّهِ﴾، لقد جاء سيّدنا عيسى عليه السلام ليعلن قضيّة جامعة مانعة، فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾[آل عمران].

﴿كَمَا قَالَ عِيسَى ٱبۡنُ مَرۡيَمَ لِلۡحَوَارِيِّـۧنَ مَنۡ أَنصَارِيٓ إِلَى ٱللَّهِ﴾: الخطاب هنا للحواريّين، فمن هم الحواريّون؟ الحواريّون مأخوذة من الحور، وهو شدّة البياض، وهم جماعة أشرقت في وجوههم سيماء الإيمان، فكأنّها مشرقة بالنّور، وهم المقرّبون من سيّدنا عيسى عليه السلام والمحبّون لمنهج الخير.

﴿مَنۡ أَنصَارِيٓ إِلَى ٱللَّهِ﴾: من الّذين يأخذون بأمر الله عز وجلَّ؟ فـ ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُوٓاْ أَنصَارَ ٱللَّهِ﴾، خذوا من منهج الله عز وجلَّ، وآمنوا به سبحانه وتعالى، وكونوا أصحاب هدف، هذا الهدف الّذي أعلنه سيّدنا المسيح عليه السلام عندما قال للحواريّين: ﴿مَنۡ أَنصَارِيٓ إِلَى ٱللَّهِ﴾ ؟ وعندما أعلن عيسى بن مريم عليه السلام منهج الحقّ وجد أنصار الظّلم وأنصار البغي وأنصار الظّلمات غير معجبين بالمنهج الواضح للإيمان بالله سبحانه وتعالى، إنّه يعلم أنّه قد جاء برسالة من الله سبحانه وتعالى ليخرج أناساً من مفسدة إلى مصلحة، وعندما أحسّ منهم الكفر أراد أن ينتدب جماعة ليعينوه على أمر الدّعوة، فقال: ﴿مَنۡ أَنصَارِيٓ إِلَى ٱللَّهِ﴾؛ أي: أنّ هناك معركة ستتمّ مع كلّ من يُعادي الله عز وجلَّ، والمعركة تحتاج إلى تضحية بالنّفس والنّفيس، لذلك لا بدّ أن يستثير ويحرّك مَنْ يجد في نفسه العون على هذه المسألة.

﴿قَالَ ٱلۡحَوَارِيُّونَ نَحۡنُ أَنصَارُ ٱللَّهِ﴾: وقفوا في الصّفّ الحقّ، وكأنّ عيسى عليه السلام أراد أن يستوثق منهم، فهو لا يتّهمهم، فكلّ إنسان منهم يريد نصرة الله سبحانه وتعالى فينضمّ إلى الله عز وجلَّ ناصراً للمنهج، وقد كان إيمان الحواريّين بالله سبحانه وتعالى وبرسوله عيسى بن مريم مطلوب الله سبحانه وتعالى منهم، قال جلّ جلاله: ﴿وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ﴾ [المائدة]، والوحي هنا هو بمعناه العامّ؛ أي: الإعلام بخفاء.

﴿فَـَٔامَنَت طَّآئِفَة مِّنۢ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ وَكَفَرَت طَّآئِفَة﴾: دائماً هناك معسكران، معسكر إيمان ومعسكر كفر.

﴿طَّآئِفَة﴾: هم جماعة من البشر تجتمع لهدف، ويطوفون حول شيء واحد، فبعضٌ من بني إسرائيل قد آمن بما جاء به عيسى عليه السلام، وآخرون كفروا بما جاء به، ولكن لماذا يقول سبحانه وتعالى: ﴿مِّنۢ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ﴾؟ لأنّ المسيح عيسى عليه السلام إنّما هو مرسل إلى بني إسرائيل خاصّة، لقد جاء عيسى عليه السلام رسولاً إلى بني إسرائيل لعلّه يستلّ من قلوبهم المادّيّة، فمهمّة عيسى عليه السلام جاءت لتكمّل التّوراة وما أنقصه اليهود من التّوراة.

﴿فَأَيَّدۡنَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ عَلَىٰ عَدُوِّهِمۡ﴾: فإذا كان الحواريّون هم الّذين وقفوا إلى جانب سيّدنا المسيح عليه السلام، وقسم من بني إسرائيل وقفوا في الجانب الآخر، فإنّ الله سبحانه وتعالى سيؤيّد بالنّصرة الّذين آمنوا ونصروا رسوله ودعوته، فقال جل جلاله: ﴿فَأَيَّدۡنَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ عَلَىٰ عَدُوِّهِمۡ﴾، وعدوّهم هم مَنْ لم يؤمنوا بعيسى بن مريم رسولاً من عند الله عز وجلَّ، وقد غلبت الطّائفة الّتي كفرت زماناً بعد رفع عيسى عليه السّلام حتّى جاءت رسالة محمّد ﷺ فكانت تأييداً من الله سبحانه وتعالى لما قاله عيسى عليه السلام.

﴿فَأَصۡبَحُواْ ظَٰهِرِينَ﴾: ظاهرين على الحقّ، فالباطل مهما كانت له الغلبة الظّاهرة في جلبة وعلوّ صوت إلّا أنّ الحقّ يغلب.

﴿ظَٰهِرِينَ﴾: أي: عالين غالبين، فتأتي ظهر: بمعنى الغلبة.

وقد لاقى سيّدنا عيسى عليه السلام من تآمر اليهود ما لاقاه.

الآية رقم (10) - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ

﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ﴾: أي: يا من آمنتم بي إلهاً ودخلتم معي في عقدٍ إيمانيٍّ بأنّي ربٌّ وإلهٌ وخالقٌ، خذوا عنّي هذه الأوامر.

وقوله سبحانه وتعالى: ﴿هَلۡ أَدُلُّكُمۡ﴾ بعد: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ﴾ تعطي معنى عميقاً يوجب على الخلق أن يرهفوا آذانهم له، فالله سبحانه وتعالى يسأل المؤمنين: إن كانوا يريدون من الله عز وجلَّ أن يدلّهم، فهل تظنّ أنّهم من الممكن أن يرفضوا دلالة الله سبحانه وتعالى لهم على الخير؟ وكأنّ الله سبحانه وتعالى وضع ذاته العليّة موضع الدّليل الّذي يدلّ النّاس في الصّحراء، فيدلّهم على الطّريق الصّحيح الموصلة إلى الغاية فيهديهم سواء السّبيل.

﴿هَلۡ أَدُلُّكُمۡ عَلَىٰ تِجَٰرَة﴾: لماذا استخدم كلمة التّجارة؟ لأنّ فيها منفعة، ونعلم أنّ التّجارة هي وساطة بين المنتج والمستهلك، المنتج يريد أن يبيع إنتاجه، والمستهلك محتاج إلى هذا الإنتاج، والرّبح عمليّة تطول فترة وتقصر فترة، مع عمليّة تحرّك السّلعة والإقبال عليها إن كان سريعاً أو بطيئاً، فعمليّة التّجارة استخدمها الله سبحانه وتعالى ليبيّن لنا أنّها أقصر الطّرق إلى النّفع، فالتّجارة تقوم على يد الإنسان يشتري السّلعة ويبيعها، ولكنّها مع الله سبحانه وتعالى سيأخذ منك بعضاً من حرّيّة نفسك ليعطيك أخلد وأوسع منها، فالعاقل ينظر لمن سيعطي النّعمة، ولنا الأسوة في سيّدنا عثمان رضي الله عنه في الحادثة المشهورة: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: “قَحَطَ الْمَطَرُ عَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه، فَاجْتَمَعَ النَّاسُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه، فَقَالُوا: السَّمَاءُ لَـمْ تُمْطِرْ، وَالْأَرْضُ لَـمْ تَنْبُتْ، وَالنَّاسُ فِي شِدَّةٍ شَدِيدَةٍ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: انْصَرِفُوا وَاصْبِرُوا فَإِنَّكُمْ لَا تُمْسُونَ حَتَّى يُفْرِّجَ اللَّهُ عز وجلَّ عَنْكُمْ، فَمَا لَبِثْنَا إِلَّا قَلِيلاً أَنْ جَاءَ أُجُرَاءُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رضي الله عنه مِنَ الشَّامِ، فَجَاءَتْهُ مِئَةُ رَاحِلَةٍ بُرّاً، أَوْ قَالَ: طَعَاماً، فَاجْتَمَعَ النَّاسُ إِلَى بَابِ عُثْمَانَ رضي الله عنه، فَقَرَعُوا عَلَيْهِ الْبَابَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ عُثْمَانُ رضي الله عنه فِي مَلَأٍ مِنَ النَّاسِ، فَقَالَ: مَا تَشَاؤونَ؟ قَالُوا: الزَّمَانُ قَدْ قَحَطَ، السَّمَاءُ لَا تُمْطِرُ، وَالْأَرْضُ لَا تَنْبُتُ، وَالنَّاسُ فِي شِدَّةٍ شَدِيدَةٍ، وَقَدْ بَلَغَنَا أَنَّ عِنْدَكَ طَعَاماً فَبِعْنَاهُ حَتَّى تُوَسِّعَ عَلَى فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ، قَالَ عُثْمَانُ: حُبّاً وَكَرَامَةً، ادْخُلُوا فَاشْتَرُوا، فَدَخَلَ التُّجَّارُ فَإِذَا الطَّعَامُ مَوْضُوعٌ فِي دَارِ عُثْمَانَ رضي الله عنه، فَقَالَ: يَا مَعَاشِرَ التُّجَّارِ، تُرْبِحُونِي عَلَى شِرَائِي مِنَ الشَّامِ؟ قَالُوا: لِلْعَشَرَةِ اثْنَا عَشَرَ، فَقَالَ عُثْمَانُ رضي الله عنه: قَدْ زَادُونِي، قَالُوا: لِلْعَشَرَةِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ، فَقَالَ عُثْمَانُ: قَدْ زَادُونِي، قَالُوا: لِلْعَشَرَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ، قَالَ عُثْمَانُ: قَدْ زَادُونِي، قَالَ التُّجَّارُ: يَا أَبَا عَمْرٍو؛ مَا بَقَي فِي الْمَدِينَةِ تُجَّارٌ غَيْرُنَا، فَمَنْ ذَا الَّذِي زَادَكَ؟ فَقَالَ: زَادَنِي اللَّهُ عز وجلَّ بِكُلِّ دِرْهَمٍ عَشْرَةً، أَعِنْدَكُمْ زِيَادَةٌ؟ فَقَالُوا: اللَّهُمَّ لَا، قَالَ: فَإِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ أَنِّي قَدْ جَعَلْتُ هَذَا الطَّعَامَ صَدَقَةً عَلَى فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ([1])، فقد تاجر سيّدنا عثمان رضي الله عنه مع الله عز وجلَّ فرفع من ثمن بضاعته، وما دام سبحانه وتعالى هو الّذي يشتري فلا بدّ أنّ الثّمن كبير؛ لأنّه يُعطي النّعيم الّذي ليس فيه أغيار، فهذه هي التّجارة مع الله عز وجلَّ: ﴿يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ﴾[فاطر: من الآية 29]، والله سبحانه وتعالى يعاملنا بملحظ النّفعيّة الإنسانيّة، والذّكيّ واللّبق هو الّذي يتاجر في الصّفقة الرّابحة المضمونة الّتي تكون جدواها والفائدة منها أكثر من سواها، هذه هي الصّفقة الإيمانيّة: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً﴾ [البقرة: من الآية 245]، فحين نضحّي بالقليل يُعطينا الكثير، وبلا حدود فضلاً من الله وتكرّماً، ألم تر أنّ الحسنة عنده سبحانه وتعالى بعشر أمثالها وتُضَاعف إلى سبعمئة ضعف؟ أليست هذه تجارة رابحة مع الله عز وجلَّ، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ هَلۡ أَدُلُّكُمۡ عَلَىٰ تِجَٰرَة تُنجِيكُم مِّنۡ عَذَابٍ أَلِيم﴾؟ والّذي يتاجر مع الله عز وجلَّ لا بدّ أن يكون ذكيّاً فطناً، ولا بدّ أن يعرف الغاية قبل أن يعرف السّبيل إلى الغاية، وآفة الدّنيا وأهلها أنّهم يعيشون فيها ولا يعرفون غاياتهم النّهائيّة، إنّما يعرفون غايتهم الجزئيّة، والذّكيّ هو الّذي لا يذهب للغايات القريبة المنتهية، بل ينظر إلى الغايات الأخرى، فلا بدّ أن ننظر إلى هذه الغاية وهي الآخرة، وعندها تكون هذه التّجارة تنجينا من عذاب أليم شديد، فنعيم الآخرة دائم، يقول سبحانه وتعالى: ﴿فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ﴾ [آل عمران: من الآية 185]، فهذا هو الفوز العظيم.

([1]) الشّريعة للآجُرّيّ: كتاب ذكر فضائل أمير المؤمنين عثمان بن عفّان t، باب ذكر إكرام النّبيّ ﷺ لعثمان t وفضله عنده، الحديث رقم (1486).

الآية رقم (0) - مقدمة تفسير سورة الصف

سورة الصّفّ سورة مدنيّة، عدد آياتها: (14) آية، ترتيبها في المصحف الشّريف (61)، نزلت بعد سورة التّغابن، وقبل سورة الفتح؛ أي: أنّها نزلت قبل صلح الحديبيّة، سمّيت سورة الصّفّ لورود الآية الكريمة: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِهِۦ صَفّا﴾، والصّفّ من توحيد الكلمة، وتوحيد مجموع الأمّة، تبدأ هذه السّورة الكريمة بقوله سبحانه وتعالى:

الآية رقم (1) - سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ

وهي من السّور الّتي يُطلق عليها العلماء: (المسبّحات)؛ لأنّها تبدأ بـ (سبَّح) أو (يُسبِّح) أو (سبِّح)، وقد ذكر رسول الله ﷺ هذه السّور بهذا الاسم في حديثه النّبويّ، عَنْ عِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يَقْرَأُ الْمُسَبِّحَاتِ قَبْلَ أَنْ يَرْقُدَ، وَقَالَ: «إِنَّ فِيهِنَّ آيَةً أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ آيَةٍ»([1])، يقصد فيها تسبيح الله جل جلاله، والتّسبيح: هو تنزيه لله عز وجلَّ، وهو سبحانه وتعالى منزّه من قبل أن يخلق الخلق، ثمّ خلق الخلق وأمرهم أن يسبّحوا.

ففي سورة الحديد يقول سبحانه وتعالى: ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾[الحديد: من الآية 1]، ويقول جل جلاله في سورة الحشر: ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾[الحشر: من الآية 1]، ويقول هنا في سورة الصّفّ: ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۖ﴾، فهل سبّح كلّ مَن وما في السّموات والأرض مرّة واحدة وانتهى الامر؟ لا؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى يقول: ﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾[الجمعة: من الآية 1]، بالفعل المضارع، ويقول جل جلاله في سورة التّغابن: ﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ  وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [التّغابن]، فالسّبحانيّة لله عز وجلَّ أزلاً، وسبّح ويسبّح الخلق والوجود كلّه بعد أن خلق الله سبحانه وتعالى السّموات والأرض وما فيهما ومَن فيهما وما بقي إلّا الإنسان، فجاء الأمر للإنسان: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾[الأعلى]، فقد ثبتت له السّبحانيّة في ذاته، فيا مَن آمنت بالله عز وجلَّ إلهاً سبِّح كما سبَّح الكون كلّه، فالسّبحانيّة هي الدّليل السّائد الشّامل الجامع للخلق كلّهم، والتّسبيح لغة الكون كلّه، منه ما نفهمه ومنه ما لا نفهمه، وكلّ شيء في الوجود مؤتمر بأمره سبحانه وتعالى، ويسبّح بحمده: ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾[الإسراء]، وهو تسبيح حقيقيّ، لا نفهمه ولا نفقهه حتّى يُفقّهنا الله سبحانه وتعالى بلغاتهم، بدليل أنّه سبحانه وتعالى علّم سليمان عليه السلام منطق الطّير والنّمل، والحقّ سبحانه وتعالى يقول هنا: ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۖ﴾، فاستخدم جل جلاله: ﴿مَا﴾ الّتي لغير العاقل دلالة على أنّ الكون كلّه مسبّح لله عز وجلَّ، لا يتخلّف منه أحد، وقد قال سبحانه وتعالى في آية أخرى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾[النّور: من الآية 41]، فاستخدم جل جلاله ﴿مَنْ﴾ الّتي للعاقل، فالكلّ يسبّح الله عز وجلَّ، العاقل وغير العاقل الجماد والنّبات والإنسان.. لا يشذّ إلّا من تمرّد وكفر.

﴿وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ﴾: فهو سبحانه وتعالى العزيز الّذي لا يُغلَب لجبروته، الغالب في ملكه، القويّ الشّديد، له العزّة الذّاتيّة الأزليّة الأبديّة، والعزّة لا تُطلَب من النّاس، وإنّما تُطلَب من الله عز وجلَّ، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [المنافقون: من الآية 8].

﴿ٱلۡحَكِيمُ﴾: لا يصدر منه الشّيء إلّا بحكمة بالغة، فهو الحكيم في فعله وتقديره، فإذا أمرنا بأمر فعلينا أن نلتزم هذا الأمر.

([1]) سنن أبي داود: أبواب النّوم، باب ما يُقال عند النّوم، الحديث رقم (5057).

الآية رقم (2) - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ

تخاطب الآية الّذين آمنوا، فساعة ينادي الحقّ سبحانه وتعالى العباد بقوله: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ﴾، فمعناها: يا من آمنتم بي بمحض اختياركم، وآمنتم بي إلهاً له صفات العلم والقدرة والحكمة والقيّوميّة، خذوا عنّي هذه الأحكام، فكلّ ما يأتي بعد قوله سبحانه وتعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ﴾، هي وظيفة إيمانيّة للإنسان.

﴿لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفۡعَلُونَ﴾: نحن نسمع كلمة: (يعمل)، وكلمة: (يفعل)، وكلمة: (يقول)، والعمل أهمّ الأحداث؛ لأنّ العمل هو تعلّق الجارحة بما نيطت به، فالقلب جارحة عملها النّيّة، واللّسان عمله الكلام، فكلّ جارحة من الجوارح لها حدث تنشئه لتؤدّي مهمّتها في الكائن الإنسانيّ، أمّا الفعل فهو تعلّق كلّ جارحة بفعلها، وأمّا شغل اللّسان بمهمّته فيُسمّى: (قولاً)، ولا يُسمّى فعلاً؛ لأنّ الإنسان يتكلّم كثيراً، ولذلك يقول الحقّ سبحانه وتعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفۡعَلُونَ﴾، فالقول مقابله الفعل، والكلّ عمل، لذلك قال الحقّ سبحانه وتعالى: ﴿مَا لَا تَفۡعَلُونَ﴾، ولم يقل: (ما لا تعملون)؛ لأنّ القول نفسه عمل، ولكنّه ليس فعلاً، ولا بدّ للمؤمن أن يطابق القول مع الفعل، فحين يكون القول شيئاً مختلفاً عن الفعل يصبح الإنسان كاذباً، والصّادقون هم الّذين يصدقون في سلوكهم، وتتطابق أفعالهم مع أقوالهم، وقد عاب الحقّ سبحانه وتعالى مَنْ يأمر النّاس بالبرّ وينسى نفسه، قال جل جلاله: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ﴾[البقرة: من الآية 44].

إنّ الدّين كلمة تُقَال وسلوك يُفعَل، فإذا انفصلت الكلمة عن السّلوك ضاع الدّين، وقد جاء في القرآن الكريم: ﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ [الأحزاب]، فمنهج الدّين لا بدّ له من تطبيق، وأوّل المطبّقين هو رسول الله ﷺ، فكان لا يأمر أصحابه بأمرٍ إلّا كان أسبقهم إليه، والمسلمون يأخذون عنه القدوة قولاً وفعلاً، وكان سيّدنا عمر بن الخطّاب رضي الله عنه حين يريد أن يعطي أمراً للنّاس يأتي بأهله وأقاربه، ويقول لهم: لقد بدا أن آمر بكذا وكذا، والّذي نفسي بيده مَنْ خالف منكم لأجعلنّه نكالاً للمسلمين. وهنا نقطة مهمّة، فالعالِـم بالدّين هو أولى النّاس ألّا تكون عنده هذه الثّنائيّة، ولا بدّ أن يكون قدوة ليصلح أمر النّاس، وفي علوم الدّنيا القدوة ليست مطلوبة إلّا في الدّين، فمثلاً إذا ذُكِر لك عالِـم كيمياء بارع، وقيل: إنّه يتناول الخمر أو يفعل كذا، تقول: ما لي وسلوكه؟ أنا آخذ عنه علم الكيمياء؛ لأنّه بارع في ذلك، ولكن لا شأن لي بسلوكه، أمّا عالِـم الدّين فيختلف الأمر، أنت تأخذ عنه السّلوك، ويبصّرك بالطّريق المستقيم، فلا يجوز أبداً إلّا أن يكون قدوة وأسوة سلوكيّة، وأن يرتبط قوله بعمله، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويكون أوّل العاملين بقوله، كما قال الله سبحانه وتعالى، والإنسان المؤمن مطالَب بأمرين: الأوّل ألّا يصنع المنكر، والثّاني: أن ينهى عن المنكر، ولذلك إن جاءنا نصح من إنسان ينهانا عن المنكر وهو قد فعله، نقول له: “أصلح نفسك، واتّبع أنت ما تنصح به أوّلاً”، حتّى لا يقول لنا ما قاله الشّاعر:

خذ بعلمي ولا تركن إلى عملي        واجن الثّمار وخلّ العود للنّار

وهذا ليس من مذهب الإسلام أبداً، فالإسلام قبل أن ينتشر بالمنهج العلميّ انتشر بالمنهج السّلوكيّ، وأكبر عدد من المسلمين اعتنق هذا الدّين من أسوة سلوكيّة قادته إليه، فالّذين نشروا الإسلام في الصّين كان أغلبهم من التّجّار الّذين تخلّقوا بأخلاق الإسلام، فجذبوا حولهم كثيراً من النّاس، فاعتنقوا الإسلام، ويعطينا الحقّ سبحانه وتعالى مثالاً لهذا من قصّة شعيب عليه السلام، قال جل جلاله: ﴿وما أُرِيدُ أنْ أُخالِفَكم إلى ما أنْهاكم عَنْهُ ﴾[هود: من الآية 88]؛ أي: أنّني أطبّق ما أدعوكم إليه على نفسي، فلا أُنقِص كيلاً أو أُخسر ميزاناً ولا أبخس أحداً أشياءه، فشعيب عليه السلام يوضّح لهم أنّه لا ينهاهم عن أفعال ليفعلها هو، بل ينهاهم عن الّذي لا يفعله؛ لأنّ الحقّ سبحانه وتعالى قد أمره بألَّا يفعل تلك الأفعال.

الآية رقم (3) - كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ

﴿كَبُرَ﴾: أي: عَظُمَ، والكاف والباء والرّاء تأتي لمعنيين: الأوّل كبر السّنّ، وهي كبر يكبر، والثّاني: العظمة والتّعظيم، إلّا أنّ التّعظيم يأتي ليبيّن أنّه أمر صعب على النّفس، مثل قول الحقّ سبحانه وتعالى: ﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً ﴾ [الكهف: من الآية 5].

وهنا: ﴿كَبُرَ مَقۡتًا﴾؛ أي: عظم بغضاً، والمقت أشدّ البغض، فهذا الأمر ممقوت عند الله جلّ وعلا، يبغضه الله عز وجلَّ بغضاً كبيراً، والإنسان الممقوت عند الله عز وجلَّ هو الّذي يقول ولا يفعل، فقولكم ما لا تفعلون ممقوتٌ عند الله سبحانه وتعالى مبغض أشدّ البغض.

الآية رقم (4) - إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ

الصّفّ انسجام مجموعة بحيث لا يشذّ فيها فرد عن فرد، فالصّفّ لا يعني مجرّد الجمع والحشد، إنّما هو الجمع في انسجام وانضباط، وقد روت لنا كتب السّيرة أنّ النّبيّ ﷺ كان في استعراض الجنود في المعركة يسوّي الصّفوف فلمّا رأى رجلاً يُدعى سواد قد شذّ عن الصّفّ وخرج عنه نخزه ﷺ بعصا صغيرة في بطنه ليستقيم في مكانه من الصّفّ، وكان سواد محبّاً لرسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله أوجعتني فأقدني، فكشف عن بطنه، وقال: «استقد»، فاعتنقه سواد وقبّل بطنه، فقال ﷺ: «ما حملك على هذا يا سواد؟»، قال: يا رسول الله قد حضر ما ترى، فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمسّ جلدي جلدك، فدعا له رسول الله ﷺ بخير([1])، والصّفّ دليل الانتظام والانضباط والاستعداد لتلقّي الأوامر، وهكذا تصفّ الملائكة في انتظار الأوامر من الله سبحانه وتعالى ليقوم كلّ منهم بمهمّته ودوره: ﴿صَفًّا صَفًّا﴾[الفجر: من الآية 22]، وكذلك ورد في القرآن الكريم كلمة صفّ في قوله سبحانه وتعالى: ﴿فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا﴾[طه: من الآية 64]، فهذا الاصطفاف والتّسوية أوّل ما يكون في الجهاد في سبيل الله عز وجلَّ، ويقول سبحانه وتعالى عن الملائكة عموماً: ﴿وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ﴾[الصّافّات]، يعني: نقف في انضباط منتظرين الأوامر، والصّفّ هنا يدلّ على الانسجام، وهكذا يجب أن تكون المعركة، وفي الصّلاة أيضاً هناك اصطفاف، سووا صفوفكم، تراصّوا، وفي الحديث عن البراء بن عازب قال: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَتَخَلَّلُ الصَّفَّ مِنْ نَاحِيَةٍ إِلَى نَاحِيَةٍ يَمْسَحُ صُدُورَنَا وَمَنَاكِبَنَا، وَيَقُولُ: «لَا تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ»، وَكَانَ يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الصُّفُوفِ الْأُوَلِ»([2])، وقال ﷺ: «رُصُّوا الْمَنَاكِبَ بِالْمَنَاكِبِ وَالْأَقْدَامَ بِالْأَقْدَامِ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فِي الصَّلَاةِ مَا يُحِبُّ فِي الْقِتَالِ: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِهِۦ صَفّا كَأَنَّهُم بُنۡيَٰن مَّرۡصُوص﴾»([3])، فأيّ معركة يجب أن يكون فيها تراصّ، واصطفاف، والتزام، وانضباط في صفّ القتال، وطاعة الأوامر، وهذا ما رأينا عكسه يوم أُحُد، عندما خالف الرّماة أمر النّبيّ ﷺ.

﴿كَأَنَّهُم بُنۡيَٰن مَّرۡصُوص﴾: أي: البنيان المشدود، الصّفّ الواحد ليس فقط للمصطفّين، وإنّما الكتلة بكاملها تكون كأنّها بنيان مرصوص بعضه ببعض.

([1]) الرّحيق المختوم: ج1، ص155.

([2]) سنن أبي داود: تفريع أبواب الصّفوف، باب تسوية الصّفوف، الحديث رقم (664).

([3]) الاستذكار: كتاب الجمعة، باب ما جاء في الإنصات يوم الجمعة والإمام يخطب، الحديث رقم (202).

الآية رقم (5) - وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ

الحقّ سبحانه وتعالى عندما أرسل موسى وهارون عليهما السّلام بآية دالّة على صدقهما إلى فرعون كانت مهمّتهما الأساسيّة أخذ بني إسرائيل وإنقاذهم من طغيان فرعون، وجاءت المسألة الإيمانيّة تبعيّة، أمّا أصل مهمّة موسى عليه السلام فكان: ﴿فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ﴾[طه: من الآية 47]، فقد جئنا لنأخذ أولادنا وننقذهم من العذاب والاستضعاف، وجاء موسى عليه السلام لفرعون بمعجزات تثبت صدق رسالته من الله سبحانه وتعالى، ومع ذلك لم يسلم موسى عليه السلام من إيذاء فرعون، فقال عنه: ﴿سَاحِرٌ كَذَّابٌ﴾ [غافر: من الآية 24]، وقال:  إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ﴾[الشّعراء: من الآية 27]، وقال: ﴿أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ﴾[الزّخرف]، وطبيعيّ أن يؤذَى موسى عليه السلام من فرعون وقد جاء ليُبطِل ألوهيّته المزعومة، لكن كيف يؤذَى من بني إسرائيل وهو الّذي جاء لينقذهم من قبضة فرعون وممّا كانوا فيه من العذاب والاستعباد؟ لذلك يعاتب موسى عليه السّلام قومه من بني إسرائيل:

﴿وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦ يَٰقَوۡمِ لِمَ تُؤۡذُونَنِي﴾: وقد بيّن الله سبحانه وتعالى في آيات كثيرة كيف أوذي سيّدنا موسى عليه السلام، قال العلماء: إنّ بني إسرائيل آذوا موسى عليه السلام حين قالوا له: ﴿أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً﴾[النّساء: من الآية 153]، وهم بمثل هذا القول تعدّوا من فعل الله سبحانه وتعالى إلى ذات الحقّ جل جلاله، فهم قد غرقوا في المادّيّة حين أرادوا أن يروا الله سبحانه وتعالى متمثّلاً أمامهم في صورة حسّيّة مادّيّة، فهم لا يفهمون الغيب ولا يقتنعون به، وآذوا موسى عليه السّلام حين قالوا معترضين على ما رزقهم الله سبحانه وتعالى من المنّ والسّلوى: ﴿لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ﴾[البقرة: من الآية 61]، ثمّ آذوا موسى يوم عبدوا العجل من غير الله عز وجلَّ، فبعد خروجهم من البحر سالمين، أخذ موسى عليه السّلام النّقباء وذهب لميقات ربّه، وترك أخاه هارون مع بني إسرائيل، فصنعوا هذا العجل بأيديهم من الحليّ الّتي سرقوها من مصر، وهذا ديدن شعب بني إسرائيل، إيذاء بعد إيذاء في الأمور كلّها، وفي مراحل حياة سيّدنا موسى عليه السلام كلّها.

﴿وَقَد تَّعۡلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيۡكُمۡۖ﴾: فأنا مرسل من الله عز وجلَّ، وأنا رسول الله جل جلاله إليكم لأخرجكم ممّا أنتم فيه، وأقدّم لكم الأمان في الدّنيا والآخرة.

﴿فَلَمَّا زَاغُوٓاْ أَزَاغَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمۡۚ﴾: الزّيغ: هو الميل، وهي مأخوذة من تزايغ الأسنان؛ أي: اختلاف منابتها، فعندما زاغوا أزاغ الله جل جلاله قلوبهم؛ لأنّهم زاغوا عن الحقّ، وانحرفوا عن الفطرة السّليمة، فكانوا غارقين في الشّهوات والمادّيّات، فهؤلاء طبع الله عز وجلَّ على قلوبهم؛ لأنّهم اختاروا الكفر على الإيمان، فكأنّ الله سبحانه وتعالى يقول: ما دمتم تريدون الميل عن الحقّ فسأساعدكم في هذا.

﴿وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡفَٰسِقِينَ﴾: لماذا؟ لأنّهم هم الّذين فسقوا وخرجوا عن المنهج، ولو لم يخرجوا عن المنهج لهداهم الله سبحانه وتعالى، وهذه هداية المعونة، وليست هداية الدّلالة، فهداية الدّلالة للنّاس كلّهم، فإذا اخترت هداية الدّلالة أعطاك الله سبحانه وتعالى هداية المعونة، وإذا اخترت الزّيغ والكفر زادك الله عز وجلَّ كفراً على كفر.

الآية رقم (6) - وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ

نلاحظ أنّ شخصيّات القرآن الكريم تأتي مجهّلة إلّا قصّة واحدة هي قصّة عيسى بن مريم عليه السلام، ومريم بنت عمران، لماذا؟ لأنّها معجزة لن تتكرّر، لذلك عرضها الله سبحانه وتعالى لنا، فقال: ﴿وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ﴾[التّحريم: من الآية 12]، وقال: ﴿عِيْسَىٰ ٱبْنُ مَرْيَمَ﴾، وهذه معجزة أنّه جاء من أمّ بلا أب، وحتّى لا يلتبس الأمر، فهذه المعجزة لن تتكرّر، لذلك حدّدها الله سبحانه وتعالى بالاسم، فلم يخبرنا الله سبحانه وتعالى من هو فرعون موسى، ولا مَنْ هم أهل الكهف، ولا مَنْ هو ذو القرنين، ولا مَنْ هو صاحب الجنّتين.. إلى آخر ما جاء في القرآن الكريم؛ لأنّه ليس المقصود بهذه القصص شخصاً بذاته، وعيسى عليه السلام إنّما أُرسِل لبني إسرائيل، لذلك قال لهم:

﴿يَٰبَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيۡكُم﴾: وقد قال سبحانه وتعالى عن عيسى عليه السلام أنّه قال: ﴿وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾[آل عمران: من الآية 49]، فهو جاء مبعوثاً إلى قوم معيّنين هم بنو إسرائيل تحديداً، ونعرف ما فعلوه وكيف عادوا السّيّد المسيح عليه السلام، وكلّ رسول يأتي مصدّقاً لمن قبله من الرّسل، فقد جاء سيّدنا عيسى عليه السلام مصدّقاً بسيّدنا موسى عليه السلام، ومبشِّراً بسيّدنا محمّد ﷺ.

﴿مُّصَدِّقا﴾: أي: ما جاء به عيسى بن مريم عليه السلام مطابق لما جاء في التّوراة الحقيقيّة، ولم تأت رسالته فقط للتّصديق، إنّما لتأتي بأحكام جديدة، فقد قال سبحانه وتعالى عن عيسى عليه السّلام في آية أخرى: ﴿وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ﴾ [آل عمران: من الآية 50]، وهكذا موكب الرّسالات، موكب متلاحم متساند متعاضد، فلا تتصادم دعوة أيّ رسول يأتي مع مَن قبله ولا مع مَن سيأتي بعده من الرّسل.

﴿لِّمَا بَيۡنَ يَدَيَّ مِنَ ٱلتَّوۡرَىٰةِ﴾: التّوراة لفظ عبريّ صار علماً على الكتاب الّذي أُنزِل على موسى عليه السّلام، والقرآن الكريم عربيّ، فالقرآن الكريم نزل على سيّدنا محمّد ﷺ، وهذه الألفاظ دائرة على لسان العرب، وإذا تمّ النّطق بها يُفهَم معناها، فلا تقدح بعروبة القرآن الكريم.

﴿وَمُبَشِّرَۢا بِرَسُول يَأۡتِي مِنۢ بَعۡدِي ٱسۡمُهُۥٓ أَحۡمَدُۖ﴾: وإذا كان عيسى بن مريم عليه السلام مصدّقاً لما جاء، فإنّه أيضاً مبشّر بالرّسول محمّد ﷺ، وهذا ما قاله لقومه: ﴿وَإِذۡ قَالَ عِيسَى ٱبۡنُ مَرۡيَمَ يَٰبَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيۡكُم مُّصَدِّقا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيَّ مِنَ ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَمُبَشِّرَۢا بِرَسُول يَأۡتِي مِنۢ بَعۡدِي ٱسۡمُهُۥٓ أَحۡمَدُۖ﴾، فاسم النّبيّ ﷺ في الإنجيل أحمد، وقد ورد مرّة واحدة في هذه الآية، ولكنّه ورد باسمه محمّد في القرآن الكريم أربع مرّات، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ﴾ [آل عمران: من الآية 144]، وقال: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾[الأحزاب]، وقال جلّ جلاله: ﴿وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَءَامَنُواْ بِمَا نُزِّلَ عَلَىٰ مُحَمَّدٍۢ وَهُوَ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ ۙ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّـَٔاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ﴾[محمّد]، وقال سبحانه وتعالى: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾[الفتح: من الآية 29]، وكلمة (محمّد) وكلمة (أحمد) مشتركتان في أصل المادّة؛ لأنّهما من (الحاء والميم والدّال)، فالمادّة هي (حمد)، إلّا أن التّوجيه الاشتقاقيّ في (محمّد) غير التّوجيه في (أحمد)، فكلمة (محمّد) حين ننظر إليها في الاشتقاق نجد أنّها ذات يقع عليها الحمد من غيرها، مثلما تقول: فلان مكرّم؛ أي: وقع التّكريم من الغير، أمّا كلمة: (أحمد) فنجدها ذاتاً وقع منها الحمد لغيرها، و(أحمد) تتطابق مع أفعل التّفضيل، فنحن نقول: فلان كريم وفلان أكرم من فلان، فـ (أحمد)؛ أي: وقع منه الحمد لغيره كثيراً، فلو كان الحمد قد وقع منه بقدر محدود لقلنا: (حامد)، و(محمّد) مبالغة وقع عليه الحمد من غيره كثيراً فصار محمّداً، فرسول الله ﷺ جمع له الله جل جلاله بين الأمرين، فهو محمّد من الله سبحانه وتعالى وحامد لله عز وجلَّ؛ لأنّ الله جل جلاله جمع له بين مقامين: مقام الاصطفاء ومقام المجاهدة، فبالاصطفاء كان (محمّداً) و(محموداً)، وبالمجاهدة كان (حامداً) و(أحمد)، فنحن هنا أمام مقامين اثنين لرسول الله ﷺ، قال رسول الله ﷺ: «أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَحْمَدُ، وَالْمُقَفِّي، وَالْحَاشِرُ، وَنَبِيُّ التَّوْبَةِ، وَنَبِيُّ الرَّحْمَةِ»([1])، والحقّ سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا﴾ [النّساء]، فمعنى هذا: ما من أحد من أهل الكتاب إلّا ويؤمن بعيسى عليه السلام رسولاً وعبداً وبشراً قبل أن يموت، وهذا لن يتحقّق إلّا إذا نزل سيّدنا المسيح عليه السّلام وعاد إلى الأرض.

﴿فَلَمَّا جَآءَهُم بِٱلۡبَيِّنَٰتِ قَالُواْ هَٰذَا سِحۡر مُّبِين﴾: هذه بيّنات، والتّعبير القرآنيّ واضح وصريح، فعندما جاءهم بالبيّنات ﴿قَالُواْ هَٰذَا سِحۡر مُّبِين﴾، والضّمير في: ﴿جَآءَهُم﴾ يعود على من بشّر به عيسى عليه السلام وهو أحمد؛ أي: فلمّا جاءهم أحمد؛ أي: لـمّا ظهر أمره ﴿قَالُواْ هَٰذَا سِحۡر مُّبِين﴾، فهؤلاء المرتابون لم يجدوا حجّة يواجهون بها القرآن الكريم، فقالوا: سحر، ومثل هذا القول لا ينبو عن عقل أو تدبّر أو حكمة، والمولى سبحانه وتعالى تحدّث في هذه الآية عن التّبشير بسيّدنا محمّد ﷺ، كما قال ﷺ: «مَثَلِي وَمَثَلَ الأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي، كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بَيْتاً فَأَحْسَنَهُ وَأَجْمَلَهُ، إِلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ بِهِ، وَيَعْجَبُونَ لَهُ، وَيَقُولُونَ: هَلَّا وُضِعَتْ هَذِهِ اللَّبِنَةُ؟ قَالَ: فَأَنَا اللَّبِنَةُ وَأَنَا خَاتِمُ النَّبِيِّينَ»([2])، فجاء النّبيّ ﷺ وكان هو اللّبنة في سلسلة الرّسل: ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِۦ نُوحًا وَٱلَّذِىٓ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِۦٓ إِبْرَٰهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰٓ ۖ أَنْ أَقِيمُواْ ٱلدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ﴾ [الشّورى: من الآية 13].

([1]) صحيح مسلم: كتاب الفضائل، باب في أسمائه ﷺ، الحديث رقم (2355).

([2]) صحيح البخاريّ: كتاب المناقب، باب خاتم النّبيّين ﷺ، الحديث رقم (3535).

الآية رقم (7) - وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ

﴿وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّنِ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ﴾: هذه صيغة سؤال لن تكون إجابته إلّا الإقرار، فلا أحد أظلم ممّن افترى على الله عز وجلَّ الكذب؛ لأنّه ظلم نفسه وظلم أمّته، وأوّل ظلم النّفس أن يرتضي لها حياة زائلة وأن يترك حياة أبديّة، وأمّا ظلمه للنّاس؛ فلأنّه سيأخذ أوزار ما يفعلون؛ لأنّه قد افترى على الله عز وجلَّ الكذب.

﴿وَمَنۡ أَظۡلَمُ﴾: أي: لا أحد أظلم، والظّلم: نقل الحقّ من صاحبه إلى غيره، والظّلم قد يكون كبيراً وعظيماً، عندما يكون في القمّة، في العقيدة، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾[لقمان: من الآية 13]، وقد يكون الظّلم بين البشر.

﴿مِمَّنِ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ﴾: الافتراء: هو كذب متعمّد؛ لأنّ الإنسان قد يكذب حين يُخبِر على مقتضى علمه بينما الواقع خلاف ما يعلم، ولكن عندما يتقصّد الكذب فهو افتراء، ففي قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّنِ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ﴾ تحذير واضح ألّا يختلق أحد على الله عز وجلَّ شيئاً لم ينزل به رسول أو كتاب، فمن يفتري على الله جل جلاله الكذب ظلم نفسه، يقول الحقّ سبحانه وتعالى: ﴿قَالَ لَهُم مُّوسَىٰ وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ ۖ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَىٰ﴾[طه]، فقد خسر من افترى على الله عز وجلَّ كذباً، فهو سيستأصله بعذاب الدّنيا قبل عذاب الآخرة.

﴿وَهُوَ يُدۡعَىٰٓ إِلَى ٱلۡإِسۡلَٰمِۚ﴾: فهُوَ يُدْعَى إلى الإيمان، وإلى الدّين القويم، ويُدعى إلى الحقائق والخير، ومع ذلك فهو يفتري على الله عز وجلَّ الكذب، ﴿إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ  وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾[النّحل]، ولا يتّصف مؤمن بكذب أبداً، عن عبد الله بن جراد أنّه سأل النّبيّ ﷺ، فقال:  يا نبيّ الله هل يزني المؤمن؟ قال: «قد يكون ذلك»، قال: هل يسرق المؤمن؟ قال: «قد يكون ذلك»، قال: هل يكذب؟ قال: «لا»، ثمّ أتبعها نبيّ الله ﷺ حيث قال هذه الكلمة: «﴿إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾»([1])، فالصّدق هو الخصلة الّتي لا يمكن لمؤمن أن يتنحّى عنها؛ لأنّه لو تنحّى عنها فهذا يعني التّنحّي عن الإيمان، فالصّدق هو جامع الخير، وعليه تدور الحركة النّافعة في الكون، أمّا الكذب فإنّما ينشأ عنه الفساد، وهو الّذي يخلّ بحركة الحياة، وهو أبعد الصّفات عن المؤمن، لماذا؟ قال العلماء: لأنّ الكذب يخالف الواقع ويقلب الحقائق، والمؤمن لا يكذب؛ لأنّه ينطق بأنّه: لا إله إلّا الله، فلا يجوز له أن ينطق بعد كلمة الصّدق الأساسيّة بأيّ كلمة كذب، ورسول الله ﷺ يقول: «إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى البِرِّ، وَإِنَّ البِرَّ يَهْدِي إِلَى الجَنَّةِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يَكُونَ صِدِّيقاً، وَإِنَّ الكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الفُجُورِ، وَإِنَّ الفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّاباً»([2])، وإذا كان الكذب على النّاس بهذه المنزلة الخطرة فما بالكم بالكذب على الله عز وجلَّ؟ ولكن من هم الّذين يفترون على الله سبحانه وتعالى الكذب؟ هؤلاء الّذين يأخذون التّحليل والتّحريم مهنة لهم من غير الله سبحانه وتعالى، يقول جلَّ جلاله: ﴿وَلَا تَقُولُوا۟ لِمَا تَصِفُ أَلۡسِنَتُكُمُ ٱلۡكَذِبَ هَـٰذَا حَلَـٰلࣱ وَهَـٰذَا حَرَامࣱ لِّتَفۡتَرُوا۟ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَۚ إِنَّ ٱلَّذِینَ یَفۡتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ لَا یُفۡلِحُونَ ۝١١٦ مَتَـٰعࣱ قَلِیلࣱ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِیمࣱ﴾ [النّحل]، ونحن نأخذ قول الحقّ سبحانه وتعالى في سياقه من سورة الصّفّ الّتي حدّثتنا عن مواكب رسالات متتالية، سيّدنا موسى وسيّدنا عيسى عليهما السّلام ثمّ خاتم الأنبياء سيّدنا محمّد ﷺ، وكأنّ الآية تلفت نظرنا إلى أنّ من افترى على الله عز وجلَّ الكذب هنا هم أتباع موسى عليه السلام من اليهود؛ لأنّ الآية بعدها: ﴿وَهُوَ يُدۡعَىٰٓ إِلَى ٱلۡإِسۡلَٰمِ﴾، فأحبار اليهود بدلاً من أن يستجيبوا لمن يدعوهم إلى الإسلام تراهم يفترون على الله عز وجلَّ الكذب، ويدّعون أنّ القرآن الكريم ليس وحياً من عنده عز وجلَّ، وأنّه من تأليف محمّد رسول الله ﷺ، وهي الفرية الّتي ذكرها الله سبحانه وتعالى عدّة مرّات في القرآن الكريم على لسان اليهود.

﴿وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّٰلِمِينَ﴾: فهم ظالمون لأنفسهم، فقد افتروا على الله سبحانه وتعالى الكذب، وظالمون لمن كانوا سبباً في ضلالهم، فهم اختاروا الظّلم، فلا يمكن أن تكون لهم الهداية، والهداية هنا ليست هداية الإرشاد والبيان والدّلالة، فهذا النّوع من الهداية كفله الله سبحانه وتعالى لخلقه كلّهم، بل هي هداية المعونة.

([1]) كنز العمّال: ج3، الكتاب الثّالث في الأخلاق، الأخلاق المذمومة، الحديث رقم (8995).

([2]) صحيح البخاريّ: كتاب الأدب، باب قول اللّه I: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾[التّوبة] وما ينهى عن الكذب، الحديث رقم (6094).

الآية رقم (8) - يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ

﴿يُرِيدُونَ لِيُطۡفِـُٔواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفۡوَٰهِهِمۡ﴾: الحقّ سبحانه وتعالى يحدّثنا عن نور الله عز وجلَّ الّذي يظنّ الكافرون أنّهم يستطيعون إطفاءه، لقد نسوا أو تغافلوا عن أنّ نور الله سبحانه وتعالى نور شامل عامّ لا يدع مكاناً مظلماً في الحياة إلّا أضاءه، إنّه نور المنهج الّذي ينير لنا المعنويات والقيم، وما دام سبحانه وتعالى قد أنزل نور الهدى منه، فلا بدّ أن نطفئ جميع مصابيح الأفكار القائمة على الهوى، ونأخذ النّور كلّه من منهج الله سبحانه وتعالى القويم والصّالح لكلّ زمان ومكان، كما نأخذ النّور في النّهار من شمس الله جل جلاله، هم يريدون هذا ويشتهونه، والاشتهاء طلب شهوة النّفس من غير ارتباط بمنهج، لكن ما الّذي كان يشتهيه الكفّار؟ كانوا يشتهون أن يطمسوا دعوة الحقّ، فلم يمكّنهم الله سبحانه وتعالى من طمسها، بل انتشرت الدّعوة، ووصلت إلى أصقاع الأرض، وكان همّهم دائماً الفساد والإفساد.

﴿بِأَفۡوَٰهِهِمۡ﴾: من خلال ألسنتهم وكلامهم، فذكر الحقّ سبحانه وتعالى هنا وسيلة أخرى من وسائلهم لطمس دعوة الحقّ وهي: (أفواههم)، والمقصود بها ممارسة دعوة مضادّة لدعوة رسول الله ﷺ.

﴿وَٱللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِۦ﴾: كيف تمّ هذا النّور؟ تمّ نور الله سبحانه وتعالى بأنّ أحكام الإسلام هي الّتي لجأ إليها العالم بمجمله، حتّى بعضهم حلّل الطّلاق، وبعضهم أخذ من قيم الإسلام، وما زال الإسلام ينتشر فكراً وعقيدةً وقيماً، ولا يمكن الاستغناء عنه؛ لأنّه نور الله سبحانه وتعالى في الأرض.

﴿وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡكَٰفِرُونَ﴾: هم يكرهون نور الله سبحانه وتعالى ومنهجه على كلّ حال، وقد أكّد الحقّ سبحانه وتعالى هذه الحقيقة في قرآنه الكريم فقال: ﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ كَرِهُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأَحۡبَطَ أَعۡمَٰلَهُمۡ﴾[محمّد].

الآية رقم (9) - هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ

يعطينا الحقّ سبحانه وتعالى حيثيّات أنّه سبحانه وتعالى متمّ نوره ومكمّله رغم أنف الكافرين، ومع ما يبذلونه ويدبّرون له ويكيدونه، ذلك أنّ نور الله عز وجلَّ أوّلاً: هو الهدى، وثانياً: هو دين الحقّ، وثالثاً: أنّه أرسل به رسوله محمّداً ﷺ، وهو رسوله حقّاً، فكيف ينطفئ نورٌ له هذه العناصر الثّلاثة؟

– أمّا أنّه (الهدى)، فللهدى علامات يضعها الخالق سبحانه وتعالى لنهتدي بها؛ لأنّه لو تركها للخلق ليضعوها لاختلفت الأهواء، والله سبحانه وتعالى أغنى الأغنياء عن الخلق، ولن ينتفع بأيّ شيء من العباد، أمّا البشر فلو وضعوا (هدى) فالواضع سينتفع به، فهذا الهدى مجرّد من الهوى وهو شرع الله سبحانه وتعالى، لذلك قال جلّ جلاله: ﴿قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى﴾[البقرة: من الآية 120]، وهدى الله سبحانه وتعالى طريق واحد، أمّا هدى البشر فكلّ واحد له هدى ينبع من هواه، ومن هنا فإنّها طرق متشعّبة ومتعدّدة توصل الإنسان إلى الضّلال، ولكنّ الهدى الّذي يوصل للحقّ هو هدى الله عز وجلَّ، فإذا أردت باقياً فخذ من الباقي، وإذا أردت ثابتاً فخذ من الثّابت، وإذا أردت أن تحقّق سعادة في حياتك وأن تعيش آمناً مطمئنّاً فخذ الهدف والطّريق عن الله عز وجلَّ، فإنّ ذلك هو المنجى من قلق متغيّرات الحياة الّتي تتغيّر وتتبدّل، إنّ الله سبحانه وتعالى ينير الحياة كلّها بفضل نور منهجه.

– وأمّا أنّه: (دين الحقّ)؛ فلأنّه يضمّ تشريعاً من إله خلق الجميع، ولم يفرّق بين أصناف البشر، والدّين الحقّ لا يخدع أحداً، وهو يُقنِع النّاس بقوّة حجّته، ويجذب قلوبهم بسماحته؛ ولأنّه دين الحقّ فإنّه سينتصر سواء آمن النّاس به أم لم يؤمنوا، وسبحانه يريد بالمنهج الّذي أنزله الخير والسّعادة لعباده، والدّين الحقّ هو الّذي يأتي موافقاً لما ارتضاه الله سبحانه وتعالى لخلقه، والحقّ هو الشّيء الثّابت الّذي لا يتغيّر ولا يتناقض ولا يزول ولا يتزحزح؛ أي: لا ينتهي ولا يتذبذب، هذا هو الحقّ، فقضيّة الحقّ فيما أنزله الله سبحانه وتعالى على رسله مطّردة في منهجه، فالله سبحانه وتعالى حقّ، خلق السّموات والأرض والكون كلّه بالحقّ، وأنزل كتابه بالحقّ، كلّه حقّ، نشأ الكون منه بقانون حقّ، واستمرّت سنن الله عز وجلَّ في الكون بالحقّ، وهو دائماً ينصر الحقّ، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ﴾[الإسراء: من الآية 105]؛ أي: أنزله بالقضايا الثّابتة الّتي لا يأتيها الباطل من بين يديها، فهو ثابت لا ينقضه واقع، وإن ظهر في بعض الأحيان أنّ هناك من طمس الحقّ، وأنّ الباطل تغلّب عليه، فهذا يعني ظهور المفاسد، وانتشار المفاسد هو الّذي يجعل النّاس تستدعي الحقّ وتتحمّس له؛ لأنّ الباطل حين يعضّ النّاس تجدهم يتّجهون إلى الحقّ ليتمسّكوا به، لقد نزل القرآن الكريم بما هو حقّ من إلهيّات وملائكة ونبوّات ومعجزات وأحكام وشرائع وأخلاق، كلّها حقّ لا شكّ فيه، فنزل الحقّ الثّابت من الله بواسطة مَن اصطفاه مِن الملائكة بحقّ، وهو جبريل عليه السلام، على من اصطفاه من النّاس بحقّ، وهو محمّد ﷺ، وفي طيّ ما نزل الحقّ الثّابت الّذي لا يتغيّر.

– أمّا ثالث الحيثيّات أنّ الله سبحانه وتعالى متمّ نوره: أنّه أرسل محمّداً ﷺ بهذا المنهج، ورسول الله ﷺ نفسه نور، يقول سبحانه وتعالى هنا: ﴿هُوَ ٱلَّذِيٓ أَرۡسَلَ رَسُولَهُۥ بِٱلۡهُدَىٰ وَدِينِ ٱلۡحَقِّ﴾: فالحقّ سبحانه وتعالى أرسل رسوله ليعدّل منهج الغرائز البشريّة، وما دام الله سبحانه وتعالى قد أرسل إليكم رسوله بالتّكاليف والمنهج فلا بدّ أن يكون جل جلاله قد كلّف مَن هو مؤتمن عليكم، ولذلك حمّله أمانة إبلاغكم هدى ودين الحقّ الّذي ارتضاه سبحانه وتعالى لكم، والغاية هي أن يظهر الإسلام على الدّين كلّه، وليس معنى هذا أن لا توجد أديان أخرى، أو لا يوجد كفّار وملحدون ومشركون، وإنّما هو ظهور تشريعات وقوانين، هو ظهور منهج الله عز وجلَّ على غيره من المناهج ظهور حجّة وبرهان، لا ظهور قهر وإذعان، إنّ الإسلام سيظهر عليهم كنظام قيم يضطرون إليها ليحلّوا مشكلات مجتمعاتهم عاجلاً أم آجلاً، ومع أنّهم كارهون نجدهم يستقون كثيراً من قوانينهم وإصلاحاتهم الاجتماعيّة من تعاليم الإسلام، فاطمئنّوا يا مَن آمنتم بمحمّد ﷺ واتّخذتم الإسلام ديناً، إنّ تجارب الحياة ستأتي لتثبت لدى الجاحدين صدق هذا الدّين، وصدق الله سبحانه وتعالى في تقنينه لكم، فقد اضطرّتهم ظروف الحياة وتعقيدات ما عندهم من مناهج أن يقتنعوا بقيم الإسلام.