الآية رقم (10) - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ

الآن انتقلت الآيات لتتحدّث عن المؤمنات المهاجرات، وقد كان من شروط صلح الحديبية أنّه من يأتي من قريش إلى محمّد ﷺ مؤمناً يردّه إلى قريش، ومن يرتدّ ويذهب إلى قريش لا يردّونه إلى سيّدنا رسول الله ﷺ، وقد قَبِل رسول الله ﷺ هذا الشّرط؛ لأنّ فيه اعترافاً بالنّبيّ ﷺ ودعوته، وإقراراً أنّ الإسلام أصبح قوّة قادرة على إبرام المعاهدات تعطي وتأخذ.

والممتحنة هي المرأة المهاجرة تأتي رسول الله ﷺ مسلمة مؤمنة فلا تُرَدّ إلى الكفّار إنّما تُمتحن؛ أي: تُختبر.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ﴾: أي: اختبروهنّ لتعلموا حقيقة إيمانهنّ، أن تشهد أن لا إله إلّا الله وأنّ محمّداً رسول الله، وأن تُقسم أنّها ما خرجت إلّا لحبّها في الإسلام، وما خرجت عن زوج تبغضه هناك، ولا لزوج تريده هنا، فإذا علمتم منها ذلك فلا ترجعوها إلى الكفّار، وبهذا الحكم الّذي نزل سمّيت السّورة بسورة الممتحنة.

﴿اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ﴾: إنّ هذا الامتحان في الأمور الظّاهرة قولاً أو فعلاً، أمّا البواطن فالله تبارك وتعالى أعلم بها، فطالما أعلنت المرأة أنّها مؤمنة فهي كذلك، فلا يجوز أن تُرَدّ إلى زوجٍ كافر؛ لأنّ المؤمنة لا تحلّ للكافر، ولا الكافر يحلّ لها.

﴿لا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ﴾: أي: للمؤمنات.

ومع هذا الفصل بين الإيمان والكفر لا يُغفِل الشّارع الحكيم الحقوق الماليّة المتعلّقة بالزّوجين، فالإسلام وعدالة الإسلام تحفظ الحقوق حتّى للكافر، فقد أخذنا منه زوجته؛ لأنّها مسلمة لا تحلّ له، فلا بدّ أن نردّ إليه ما أنفقه في المهر ونفقات الزّواج، لذلك قال سبحانه وتعالى:

﴿وَآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا﴾: وهذا من عدالة الإسلام، فهؤلاء الأزواج أنفقوا وبذلوا مالاً وضياعاً وغيره إلى زوجاتهم اللّاتي أسلمن ولحقن بالمؤمنين، فلتردّوا عليهم ما أنفقوا، فلا يضارّوا بإسلام زوجاتهم، وهذا لا شكّ يؤثّر فيهم ويلفتهم إلى عدالة هذا الدّين.

﴿وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾: ثمّ إنّ هؤلاء الزّوجات اللّاتي أسلمن لن يصبحن مشاعاً للمسلمين، بل يجعل أمرهنّ للزّواج بمن يردن على أن يعطوهنّ حقوقهنّ الّتي كفلها الشّرع لهنّ.

﴿وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ﴾: المراد بالكوافر: المشركات، وهنّ موضوع هذه التّشريعات؛ لأنّها في حالة واقعة، فلا تشمل الآية النّهي عن بقاء المرأة المسلمة في عصمة زوج مشرك، وإنّما يؤخذ حكم ذلك بالقياس، والمعنى المراد هنا بقوله: ﴿وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ﴾؛ أي: إن كان على ذمّتك زوجة مشركة فطلّقها مباشرة، فهي لا تحلّ لك.

﴿ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾: وما دام حكم الله سبحانه وتعالى فلا يُرَدّ، فهو حكمٌ عادل.

الآية رقم (11) - وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُم مِّثْلَ مَا أَنفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ

الكلام هنا على ما فات المؤمنين من حقوق، وهي مهور المرتدّات الّتي لم يدفعها الكافرون للمؤمنين، فالحقّ سبحانه وتعالى يبيّن حكمها، فيقول للمؤمنين:

﴿وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ﴾: أي: المهور الّتي لم يردّوها إليكم.

﴿فَعَاقَبْتُمْ﴾: العقاب يكون بهزيمتهم في الحرب وأخذ أموالهم غنائم، فعليكم أن تردّوا هذه المهور لأصحابها من أموال الغنائم، يعني من أموال الكفّار الّتي غنمتموها منهم بعد المعركة.

﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ﴾: فإن كان الإنسان مؤمناً بالله سبحانه وتعالى فيجب أن تكون التّقوى نصب عينيه؛ لأنّ التّقوى هي العمل بالتّنزيل؛ أي: العمل بما أنزل الله سبحانه وتعالى؛ أي: الأخذ بأحكام الله سبحانه وتعالى، وحكم الله سبحانه وتعالى في هذه القضيّة.

الآية رقم (12) - يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ

﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا﴾: أي: يا أيّها النّبيّ إذا جاءك النّساء مؤمنات، كما جاء الرّجال الّذين آمنوا بالله سبحانه وتعالى، يعاهدونك على ألّا يجعلن مع الله سبحانه وتعالى شريكاً في عبادته، ولا يسرقن شيئاً، فبعضهنّ كنّ يأخذن من أموال أزواجهنّ دون علمهم، وهذا يتعلّق بالمال.

﴿وَلا يَزْنِينَ﴾: هذا يتعلّق بالعرض.

﴿وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ﴾: أي: بعد الولادة أو قبلها، وقتل الأولاد كان معروفاً في ذلك الوقت.

﴿وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ﴾: قال العلماء: من النّميمة والغيبة، وتعني أيضاً: ولا يلحقن بأزواجهنّ أولاداً ليسوا منهم.

﴿وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ﴾: أي: ولا يخالفنك في معروف تأمرهنّ به.

﴿فَبَايِعْهُنَّ﴾: أي: إذا أقررن بذلك ورضين به، فعاهدهنّ على ذلك.

﴿وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ﴾: واطلب لهنّ المغفرة من الله عز وجلَّ.

﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾: إنّ الله سبحانه وتعالى غفور لذنوب عباده التّائبين، رحيم بهم، وهذه الآيات تبيّن المساواة بالأحكام الشّرعيّة بين بيعة النّساء وبيعة الرّجال.

الآية رقم (13) - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾: وهو نداء تكرّر كثيراً في القرآن الكريم، يخاطب به الله سبحانه وتعالى من آمن به، وآمن بالمنهج بكلّ ما يقتضيه من (افعل) و(لا تفعل)، وموضوع النّداء واحد، وموضوع النّهي واحد.

﴿لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾: فهو عود على بدء ما بدأت به هذه السّورة، وهذا يلفتنا إلى أنّ القضيّة الّتي تتحدّث عنها الآيات تمثّل أهمّــيّة كبيرة في التّكليف الإيمانيّ، فالولاية نصرة، والنّصرة انفعال النّاصر لمساعدة المنصور، فكيف توالون عدوّ الله عز وجلَّ وعدوّكم وتنتظرون منهم نصرة لكم وعوناً وهم خالفوا منهج الله عز وجلَّ، وحرّفوا ما بين أيديهم من كتب الله سبحانه وتعالى، فالموالاة والنّصرة والمعونة يجب أن تطلبها من الله سبحانه وتعالى، وما دام هناك من يختلف معنا ومن يهجّر شعوبنا ويقتل نساءنا وأطفالنا وينتهك مقدّساتنا فلا موالاة لهم ولا سلام معهم حّتى ينتهوا عن عدوانهم، لذلك كانت قضيّة الموالاة هي محور سورة الممتحنة، وكأنّ الله سبحانه وتعالى يمتحن بها قلوب وأفعال المؤمنين به، فهل هم مؤمنون به حقّاً؟ فلا تتولّوا أعداء الله عز وجلَّ الّذين هم أعداء لكم أيضاً، ثمّ يقول الحقّ سبحانه وتعالى:

﴿لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾: فمن هم القوم الّذين غضب الله سبحانه وتعالى عليهم؟ إنّهم الصّهاينة، الحقّ سبحانه وتعالى أوضح عن هؤلاء في القرآن الكريم، وكشف عنهم للمؤمنين به حتّى لا تكون لهم حجّة عند الله سبحانه وتعالى أو يكون لهم تأويل في ماهيّة مَنْ غضب الله عز وجلَّ عليهم، فإضافة إلى الصّهاينة هناك الكفّار والملحدين، قال سبحانه وتعالى: ﴿أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾[النّساء: من الآية 144]، ولفظة: ﴿الْكَافِرِينَ﴾ لفظة عامّة تشمل كلّ مَنْ لم يؤمن بالله عز وجلَّ ومن لم يؤمن بمحمّد رسول الله ﷺ، والحقّ سبحانه وتعالى قد أخذ على المنافقين أنّهم يتّخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين، فأولى بالمؤمنين ألّا يصنعوا ذلك، فإيّاكم أن تفعلوا مثلهم، فأنتم حينها تجعلون لله سبحانه وتعالى عليكم سلطاناً مبيناً واضحاً لإيقاع العذاب بكم في الدّنيا قبل الآخرة، بأن تكونوا تابعين أذلّاء لغيركم، وفي الآخرة بعذاب الله عز وجلَّ؛ لأنّكم فرّقتم المؤمنين بأن تولّيتم غيرهم.

وممّن غضب الله سبحانه وتعالى عليهم: الّذين اتّخذوا ديننا هزواً ولعباً، قال سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾[المائدة].

ويعطينا الحقّ سبحانه وتعالى لفتة في هذه الآية فيقول: ﴿لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا﴾، فجعل ﴿قَوْمًا﴾ بصيغة المفرد، ولم يقل: أقواماً، وكأنّه سبحانه وتعالى يقصد قوماً بعينهم، حتّى أنّ الله سبحانه وتعالى ذكرهم في كثير من الآيات، قال جل جلاله: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ۝ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾[المائدة]، فاستحقّوا غضب الله سبحانه وتعالى، فقد غيّروا وبدّلوا وعادوا وقتلوا الأنبياء والرّسل.

﴿قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ﴾: أي: من الثّواب فيها ومن النّجاة من عذابها.

﴿كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ﴾: أي: كما يئس الكفّار من عودة الميّت بعد موته.

ونلاحظ أنّ ختام السّورة هو البدء نفسه، فالمعنى الّذي تدور حوله بداية السّورة ونهايتها وجوب البراءة من أعداء الله عز وجلَّ وعدم موالاتهم، فهو أمر خطر على صفّ المؤمنين، قال سبحانه وتعالى: ﴿أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ﴾، وهؤلاء هم أنفسهم الّذين وصفهم الله سبحانه وتعالى هنا بقوله: ﴿قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾وهم اليهود والصّهاينة القتلة كما أجمع عليه العلماء، فكأنّ آية الاستهلال وآية الختام عبارة عن قوسين جمعا فيما بينهما آيات البراءة من اليهود والكافرين وعدم موالاة أعداء الله سبحانه وتعالى على اختلاف أشكالهم، فهناك سمّاهم أعداء الله وهنا: ﴿غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾، فما داموا أعداء الله جل جلاله، وما داموا مغضوباً عليهم، فكيف تواليهم؟ وهذه رسالة لنا جميعاً لنفهم تماماً عندما يتمّ الحديث عن إسرائيل وعن أحلام توراتهم المزعومة، وأحلام عتلات الصّهاينة الّذين يريدون أن يأخذوا أرضنا، ويعتدوا على أعراضنا ومقدّساتنا؛ ليجعلوها دولة عنصريّة حاقدة في وجه الأمّة العربيّة والإسلاميّة.

الآية رقم (6) - لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ

﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾: هذه أسوة أخرى غير الأسوة بسيّدنا إبراهيم عليه السلام، عندما قال سبحانه وتعالى: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ﴾، أسوة سيّدنا إبراهيم عليه السلام كانت في أنّه لا يجامل أعداء الله عز وجلَّ، ولا يوادّهم حتّى لو كانوا أهله، والأسوة بمن هم أهل لتقبّل ثواب الله سبحانه وتعالى، ويطمعون في الخير الّذي ينتهي إلى ثواب الآخرة ورضوان الله سبحانه وتعالى.

﴿لِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ﴾: يخاف عقابه، ويطمع في ثوابه.

﴿وَمَن يَتَوَلَّ﴾: أي: عن هذا.

﴿فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ﴾: غنيّ عن عبادة خلقه.

﴿الْحَمِيدُ﴾: الّذي يجب أن يُحمَد في الأحوال كلّها.

الآية رقم (7) - عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ

﴿عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً﴾: كلمة: ﴿عَسَى﴾ تُفيد التّرجّي، وهو طلب شيء ممكن الحدوث، فإن كان الرّجاء من الله سبحانه وتعالى فهو متحقّق وواقع، فبعد أن نهاهم الله سبحانه وتعالى عن موالاة الكفّار، يعلم سبحانه وتعالى أنّ منهم أقارب وأصدقاء للمؤمنين، وأنّ خواطر المؤمنين متعلّقة بأقاربهم وأهليهم ممّن لايزال على الكفر، فالحقّ سبحانه وتعالى يطيّب خاطرهم، كأنّه يقول لهم: لا تحزنوا لمقاطعتكم لهم، فعسى الله سبحانه وتعالى أن يبدّل هذه المعاداة إلى مودّة، ويتحقّق هذا الرّجاء بالفعل، فرأينا كثيراً من هؤلاء في ساحة الإيمان قبل أن يفارقوا هذه الدّنيا، وكذلك صناديد الكفر وقادة الشّرك أسلم قسم منهم وحسن إسلامهم، فأصبحوا قادة في صفوف المسلمين، أمثال عمرو بن العاص وخالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل رضي الله عنهم، سبحان الله عكرمة الّذي كان من ألدّ أعداء الإسلام، والّذي وقف وحده في الخندق يوم الفتح ليردّ المسلمين هداه الله جل جلاله للإسلام وأراد أن يُبلي في الإسلام بلاء يجبر به ما كان منه في الجاهليّة، وفعلاً في المعركة مزّقته السّيوف والرّماح، فقال لسيّدنا خالد: يا خالد أهذه ميتة ترضي عنّي الله ورسوله؟

﴿وَاللَّهُ قَدِيرٌ﴾: أي: أنّ الله سبحانه وتعالى لا يعجزه شيء، ولا يخرج عن طاعته شيء، إنّه سبحانه وتعالى على كلّ شيء قدير، وهو جل جلاله القادر الأعلى الّذي يأتي بقلوب وأفئدة هؤلاء إليكم، ويجعل بينكم وبينهم مودّة، وهذا مثل قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾[آل عمران: من الآية 103].

﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾: يغفر لهم ما اقترفوه قبل إسلامهم، ويرحمهم بنعمته، ويفيض عليهم برحمته، وأنتم معهم في هذا، فهذا فضل من الله تبارك وتعالى عظيم.

الآية رقم (8) - لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ

هذه الآية ردّ على الاتّهامات كلّها الّتي توجّه للإسلام والمسلمين بأنّهم لا يقبلون الآخر، وأنّهم يقاتلون المشركين، فالمسلمون يقاتلون من يعتدي عليهم، بدليل أنّ الله سبحانه وتعالى يقول للمسلم: ﴿لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ﴾، فإذا لم يقاتلوكم ويعتدوا عليكم لمنعكم عن دينكم، أو إخراجكم من أرضكم واحتلال أرضكم فلا ينهاكم الله سبحانه وتعالى أن تبرّوهم وتقسطوا إليهم؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى يحبّ المقسطين، فهذه الآية مانعة جامعة تحكم بشكل قاطع بهذا الموضوع.

قال العلماء: سبب نزول هذه الآية أنّ جماعة من المسلمين قالوا: إنّ لنا أقارب لم يؤمنوا، فهل لنا أن نقدّم لهم شيئاً من المعروف؟ فنزلت: ﴿لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ﴾.

﴿لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ﴾: لا ينهاكم الله عز وجلَّ عن برّهم والإحسان إليهم.

﴿عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ﴾: فشرط برّهم ألّا يقاتلوكم وألّا يخرجوكم من دياركم، فلا مانع أن تبرّوهم.

﴿وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ﴾: مادّة (قسط) في اللّغة من الكلمات الّتي تدلّ على الشّيء ونقيضه، نقول: قسط يقسط قسطاً؛ يعني: عدل، ومنها قسط قسطاً وقسوطاً؛ يعني: ظلم وجار، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا﴾ [الجنّ].

﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾: ومقسط اسم فاعل من أقسط، والهمزة هنا همزة الإزالة؛ أي: أزال القسط أو الجور.

الآية رقم (9) - إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ

بعد أن حدّثتنا الآيات عن فئة من الكافرين لهم حقّ البرّ، وقال جل جلاله: ﴿لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ﴾؛ أي: عن برّهم والإحسان إليهم، يبيّن هنا الفئة الأخرى الّتي ليس لها هذا الحقّ، فيقول عز وجلَّ:

﴿إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ﴾: فالله سبحانه وتعالى ينهانا عن الّذين يقاتلوننا في الدّين.

﴿وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ﴾: ويخرجوننا من أرضنا وديارنا.

﴿وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ﴾: عاونوا غيرهم على إخراجنا.

﴿أَن تَوَلَّوْهُمْ﴾: أي: تتّخذونهم أولياء توالونهم وتناصرونهم.

﴿وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾: نعم؛ لأنّهم ظلموا أنفسهم بالخروج عن أوامر الله سبحانه وتعالى، وظلموا المؤمنين بموالاتهم للكافرين.

الآية رقم (0) - مقدمة تفسير سورة الممتحنة

سورة الممتحنة سورة مدنيّة، عدد آياتها: (13) آية، ترتيبها في المصحف الشّريف (60)، نزلت بعد سورة الأحزاب، وقبل سورة النّساء، فهي خامس سورة تنزل بالمدينة.

الممتحَنة تُقرأ بفتح الحاء وبكسرها، والممتحنة هي فتاة اسمها أمّ كلثوم بنت عُقبة بن أبي معيط، والدها عُقبة كان يُلقَّب بأشقى القوم؛ لأنّه كان دائم الإيذاء للنّبيّ ﷺ وللمؤمنين، فهو مَن أتى بسلا جزور([1]) ووضعها على ظهر النّبيّ ﷺ، وهو ساجد أمام الكعبة، وهو الشّخص نفسه الّذي لفّ رداءه وخنق به النّبيّ ﷺ وهو يصلّي حتّى أُغمي على النّبيّ ﷺ، ومع ضلال عُقبة بن أبي معيط إلّا أنّ الله سبحانه وتعالى أخرج من صلبه من يوحّد الله سبحانه وتعالى، ويؤمن بالإسلام، وهي ابنته الوحيدة أمّ كلثوم المؤمنة برسالة سيّدنا رسول الله ﷺ، حيث كانت ذكيّة جدّاً، محبّة للعلم، فقد كانت من قلائل النّساء المهتمّات بالعلم في مكّة، وكانت صاحبة أدب وجمال، وعندما دخل الإيمان في قلبها كتمته عن أبيها عُقبة بن أبي معيط وعن إخوتها عمارة والوليد، وحين أتى موعد الهجرة، كانت أمّ كلثوم تريد أن تهاجر مع النّبيّ ﷺ من مكّة إلى المدينة، ولكنّها خافت من بطش أبيها وإخوتها، فصبرت، إلى أن جاءت غزوة بدر وقُتِل أبوها عُقبة بن أبي معيط ومات على الكفر، وبقيت أمّ كلثوم في بيت أبيها، وعمرها سبعة عشر عاماً، فتقدّم لخطبتها أشرف شبّان مكّة وأغنى أغنيائها، غير أنّها كانت ترفض بحجّة حزنها على أبيها، وهي مسلمة تكتم إيمانها، وتعبد الله سبحانه وتعالى بين مئات الكفّار، وتصبر، وتنتظر أن يأتي فرج من الله سبحانه وتعالى، ويحصل حدث يغيّر حياتها، وعندما جاء صلح الحديبية كان من شروطه أن يردّ النّبيّ ﷺ من يأتيه من مكّة مسلماً، ولـمّا سمعت أمّ كلثوم بشروط صلح الحديبية بكت بكاء مريراً؛ لأنّها فقدت الأمل بالهجرة إلى المدينة بعد هذا الشّرط، واشتدّ الخناق عليها فقرّرت أن تهاجر حتّى لو أرجعها النّبيّ ﷺ إلى مكّة، وهاجرت باللّيل الدّامس، والطّرقات الوعرة بين مكّة والمدينة، وهي تعلم أنّ النّبيّ ﷺ وفقاً للاتّفاقيّة سيرجعها إلى مكّة، وسيعلم الجميع أنّها مسلمة وتتأذّى من إخوتها، وعندما وصلت المدينة المنوّرة، تحيّر النّبيّ ﷺ في أمرها، فالمروءة والأخلاق تمنعه من إرجاعها إلى مكّة، والعهد يلزمه بإرجاعها، واشتعلت المدينة كلاماً، فالصّحابة كلّهم يرفضون إعادتها، والنّبيّ ﷺ صامت ينتظر أمراً من الوحي، فنزل جبريل عليه السلام بالوحي في أمر أمّ كلثوم، ونزلت آيات سورة الممتحنة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ﴾، وينزل أمر الله سبحانه وتعالى من فوق سبع سموات أنّ أمّ كلثوم لا ترجع إلى مكّة، ويقبلها الله جلّ وعلا، وبقيت في المدينة المنوّرة رغم أنف قريش، والله تبارك وتعالى يجزيها على صبرها وإيمانها، ويجازيها خيراً، فتتزوّج الصّحابيّ الجليل عبد الرّحمن بن عوف رضي الله عنه، أحد العشرة المبشّرين بالجنّة وأغنى أغنياء المدينة المنوّرة.

([1]) سلا جزور؛ أي: أمعاء الشّاة والقاذورات الّتي في بطن الشّاة.

الآية رقم (1) - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾: هذا نداء من الله عز وجلَّ، يقول: يا من آمنتم بي ربّاً وبأنّي الإله الواحد الخالق الرّازق، خذوا عنّي هذا التّوجيه:

﴿لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء﴾: أي: لا تجعلوا منهم أولياء؛ لأنّهم أعداء والعدوّ لا يكون أبداً وليّاً، فالعدوّ هو مَن يُعاديك ويُصادمك ويحتلّ أرضك، وهذه الكلمة في اللّغة تلزم الإفراد مع المثنى والجمع، تقول: هذا عدوّ وهذان عدوّ وهؤلاء عدوّ، ومن ذلك قوله سبحانه وتعالى على لسان سيّدنا إبراهيم عليه السلام عن الأصنام﴿فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾ [الشّعراء: من الآية 77]. المولى سبحانه وتعالى قدّم العداوة الّتي له سبحانه وتعالى: ﴿لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي﴾، فهؤلاء أعداء لله عز وجلَّ، ومن يكون عدوّاً لله عز وجلَّ فحتماً سيكون عدوّاً لكم، فلا تجعلوا منهم أولياء، والوليّ هو الّذي  تواليه وتقرّبه وتتّخذ منه نصيراً ومعيناً، ولو اتّخذتم أولياء من هؤلاء فلا يُنتَظر من ولايتهم خير، وفي آية أخرى بيّن لنا هذا المعنى فقال سبحانه وتعالى: ﴿لَّا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ۖ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ۗ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ۗ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ﴾ [آل عمران]، ولأهمّــيّة هذه القضيّة أخذت رقعة واسعة في كتاب الله عز وجلَّ، حتّى لا يقع المؤمنون في هذا الفخّ والمنزلق الخطر، فلا نتّخذ من أعداء الله سبحانه وتعالى وأعدائنا أولياء، ولكن كيف يمكن أن نتّخذ العدوّ وليّاً؟ ومتى تكون العداوة؟ تكون العداوة عندما نتعرّض للاعتداء والقتل والإخراج والتّهجير من الأرض، فليس هناك عداوة أكثر من ذلك، فلا يجوز أبداً في حالة العداء أن يكون من الأعداء أولياء، وهنا أريد أن أتحدّث بالمصطلحات والمفاهيم الدّينيّة والإيمانيّة، وليس بالسّياسة، فعندما نجد اليوم من يرى أنّ الصّهاينة يحتلّون أرضنا، ويهجّرون شعبنا، ويقتلون أطفالنا ونساءنا وشيوخنا، ويدنّسون الأقصى وكنيسة القيامة ومقدّساتنا، ثمّ يقول لنا: سنطبّع معهم، أو نُقيم قمّة السّلام في أوج الاعتداء، فهذا غلط، فالإسلام هو دين السّلام، وتحيّته: السّلام عليكم، والإسلام يدعو إلى السّلام، ولكن وفق ما جاء في القرآن الكريم، يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾[الأنفال: من الآية 61]، وفي اللّغة تعريف الجنوح: الميل والرّغبة في السّلام، وإعطاء دليل على السّلام، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ﴾[الإسراء: من الآية 24]، فنحن في حالة عدوّ احتلّ أرضنا، وهجَّر شعبنا، ثمّ يقول أحدهم: أنا أدعو إلى السّلام!؟ فأيّ سلامٍ هذا؟ نُدعَى إلى السّلام عندما يُرفَع الاعتداء، وتعود الأرض والمقدّسات، عندها تُرفَع راية السّلام، ويكون سلاماً حقيقيّاً، وهذا لا يخضع لهذه الآية، أمّا الّذي يخضع لهذه الآية هو من يُلقي بالمودّة، ويطبّع العلاقات، ويُقيم صداقات مع عدوّ يحتلّ الأرض، وينتهك المقدّسات، ويقتل، ويشرّد الشّعب فهذا عدوان، ونحن ما كنّا معتدين في يومٍ من الأيّام، ولا نحبّ الاعتداء، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾[البقرة]، وبالنّسبة إلينا: ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ [البقرة: من الآية 216]، وفي أدبيّاتنا وديننا وإيماننا وإسلامنا: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ﴾[الحجّ: الآية 39- ومن الآية 40]، يعني إذا لم يكن الإخراج من الدّيار، واحتلال الأرض، واحتلال فلسطين والجولان وجنوب لبنان، وتهجير الشّعب الفلسطينيّ، كلّ هذا عدوان، فأيّ شيء هو العدوان؟ ومتى يؤذن بالقتال؟ ومتى يكون؟ ونحن لم نكن معتدين في يوم من الأيّام، وإنّما ندفع عن أنفسنا وعن شعوبنا القتل والعدوان، وهذه هي الحقيقة، فلا نقول أثناء العدوان علينا: إنّنا بقمّة السّلام، ونريد السّلام، أيّ سلام هذا؟ عندما يُرفَع الاعتداء وتُستعاد الأرض والمقدّسات عندها تُرفَع راية السّلام، أمّا عندما يكون القتل والتّهجير، فلا يُرفَع صوت فوق صوت التّحرير، وردّ المقدّسات والأرض.

﴿تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ﴾: المراد تخبرونهم بأسرار النّبيّ ﷺ طلباً لمودّتهم، فجعل الأسرار الّتي تُفشَى كأنّها مودّة ومحبّة بين الطّرفين.

﴿وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْحَقِّ﴾: أي: كيف تفعلون ذلك مع مَنْ كفر بالحقّ الّذي جاء به محمّد ﷺ؟

﴿يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ﴾: أي: يخرجون رسول الله ﷺ ويخرجونكم بسبب إيمانكم بالله عز وجلَّ، كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: ﴿أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ﴾[غافر: من الآية 28]؛ أي: بسبب قوله: ربّي الله، لذلك لم يطق كفّار مكّة وجود المؤمنين معهم في مجتمع واحد؛ لأنّ وجودهم سيقلب الموازين الاجتماعيّة، وسيسحب بساط السّيادة من تحت أقدامهم، وسيسوّي بين السّادة والعبيد.

﴿إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي﴾: يعني: إن كان خروجكم جهاداً في سبيلي وإعلاءً لديني ونصرةً لرسولي وطلباً لمرضاتي فلا تتّخذوا أعدائي أولياء، كأنّه سبحانه وتعالى يقول لهم: أكملوا الإيمان، وكما صدقتم في خروجكم من أجل الله جل جلاله فاصدقوا معه، ولا تتّخذوا من أعدائه أولياء.

﴿تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ﴾: أي: تودّونهم وتحبّونهم، وتجعلون ذلك سرّاً، أو تسرّون إليهم بأخبار رسول الله ﷺ.

﴿وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ﴾: يعني: احذروا مَن لا تخفى عليه خافية منكم.

﴿وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ﴾: أي: يوالي أعداء الله عز وجلَّ.

﴿فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ﴾: أي: انحرف عن الطّريق المستقيم والنّهج القويم.

والسّواء: هو الوسط، و﴿سَوَاء السَّبِيلِ﴾: هو وسط الطّريق، وهو الطّريق السّليم المستوي الموصل للغاية.

الآية رقم (2) - إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ

أي: أنّ عداوتهم لكم دائمة.

﴿إِن يَثْقَفُوكُمْ﴾: في أيّ مكان وجدوكم فيه حتّى لو مصادفة.

﴿يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء﴾: ومن علامات هذه العداوة:

﴿وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ﴾: بسط اليد عادة يكون بالخير، أمّا هؤلاء فلن تنالوا منهم إلّا الشّرّ والأذى بالقول تارة وبالفعل أخرى، وهذه نتيجة طبيعيّة لبغضهم لكم وحقدهم عليكم.

 ﴿وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ﴾: فليست بواطنهم بأقلّ حقداً من ظواهرهم، فهم يؤذونكم في الظّاهر، ويحبّون أن تكونوا أمثالهم في الكفر بالله عز وجلَّ كي لا تكون لكم قوّة عليهم.

الآية رقم (3) - لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ

﴿لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ﴾: كأنّهم كانوا يوادّون أعداء الله سبحانه وتعالى من أجل أرحامهم وأولادهم خوفاً عليهم، وهؤلاء لن ينفعوهم ولن يغنوا عنهم من الله عز وجلَّ شيئاً يوم القيامة، ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾[عبس]، فلا توال أعداء الله عز وجلَّ من أجل أحد؛ لأنّهم لن يدفعوا عنك العذاب.

﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ﴾: فهؤلاء في الجنّة وهؤلاء في النّار.

وقال العلماء: نزلت هذه الآية في حاطب بن أبي بلتعة، وكان مؤمناً هاجر إلى المدينة، لكنّه وقع في زلّة، حيث لـمّا علم أنّ رسول الله ﷺ يستعدّ لفتح مكّة، أرسل إلى كفّار مكّة كتاباً مع امرأة أخفته في شعرها، وكتب فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش: إنّ محمّداً يريدكم فاحذروه، فأوحى الله سبحانه وتعالى إلى رسوله بذلك، قال سيّدنا عليّ كرّم الله وجهه: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنَا وَالزُّبَيْرَ، وَالـمِقْدَادَ بْنَ الأَسْوَدِ، قَالَ: «انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ، فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً، وَمَعَهَا كِتَابٌ فَخُذُوهُ مِنْهَا»، فَانْطَلَقْنَا تَعَادَى بِنَا خَيْلُنَا حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى الرَّوْضَةِ، فَإِذَا نَحْنُ بِالظَّعِينَةِ، فَقُلْنَا: أَخْرِجِي الكِتَابَ، فَقَالَتْ: مَا مَعِي مِنْ كِتَابٍ، فَقُلْنَا: لَتُخْرِجِنَّ الكِتَابَ أَوْ لَنُلْقِيَنَّ الثِّيَابَ، فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ عِقَاصِهَا، فَأَتَيْنَا بِهِ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، فَإِذَا فِيهِ مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى أُنَاسٍ مِنَ الـمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ يُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «يَا حَاطِبُ مَا هَذَا؟»، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَا تَعْجَلْ عَلَيَّ، إِنِّي كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقاً فِي قُرَيْشٍ، وَلَـمْ أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهَا، وَكَانَ مَنْ مَعَكَ مِنَ الـمُهَاجِرِينَ لَهُمْ قَرَابَاتٌ بِمَكَّةَ يَحْمُونَ بِهَا أَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالَهُمْ، فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِي ذَلِكَ مِنَ النَّسَبِ فِيهِمْ، أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَداً يَحْمُونَ بِهَا قَرَابَتِي، وَمَا فَعَلْتُ كُفْراً وَلَا ارْتِدَاداً، وَلَا رِضاً بِالكُفْرِ بَعْدَ الإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَقَدْ صَدَقَكُمْ»، قَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الـمُنَافِقِ، قَالَ: «إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْراً، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَكُونَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ»([1])، وكان حاطب من أهل بدر، فالأرحام والقرابات لا تحملك أبداً على مخالفة منهج الله سبحانه وتعالى؛ لأنّ الخير بيد الله عز وجلَّ، لذلك الإسلام أعلى علاقة العقيدة فوق علاقة النّسب، والشّواهد على ذلك كثيرة في تاريخ الدّعوة، فعبيد الله بن عبد الله بن أبيّ بن سلول استأذن رسول الله ﷺ في أن يقتل ابن سلول.

﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾: يعني: احذروا نظر الله سبحانه وتعالى إليكم وعينه الّتي لا تغفل ولا تنام، واعلموا أنّه يراكم ومطّلعٌ على أفعالكم مهما أسررتم موالاة أعدائه، ومهما داريتم فهو بصير بكم.

([1]) صحيح البخاريّ: كتاب الجهاد والسِّيَر، باب الجاسوس، الحديث رقم (3007).

الآية رقم (4) - قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ

﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ﴾: بعد أن حدّثتنا الآيات عن حكم موالاة أعداء الله عز وجلَّ تعطينا نموذجاً في ذلك، واختارت له سيّدنا إبراهيم عليه السلام أبا الأنبياء؛ لأنّ له قصّة وموقفاً في دعوة أبيه وقومه: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ ۝ إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ ۝ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ ۝ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ ۝ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ ۝ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلـُونَ ۝ قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ ۝ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأقْدَمُونَ ۝ فَإِنَّهـُمْ عَدُوٌّ لِي إِلا رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾ [الشّعراء]، فخذوا أيّها المسلمون أباكم إبراهيم عليه السلام قدوة وأسوة في هذه المسألة، ومعنى ﴿أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾: نموذج طيّب في عمل الخير تتأسّون به وتفعلون كفعله، حيث تبرّأ إبراهيم عليه السلام من الشّرك والمشركين حتّى لو كان فيهم أبوه أو عمّه -آزر- الّذي ربّاه وله فضل عليه، فكان لنا قدوة في التّبرّي من الكافرين والمشركين.

﴿بُرَاء﴾: جمع بريء، وهو الّذي يتبرّأ من الشّيء، وينفض يده منه، ويتخلّى عنه.

﴿كَفَرْنَا بِكُمْ﴾: أي: أنكرنا فعلكم وما أنتم عليه من الشّرك.

ثمّ يقرّر سيّدنا إبراهيم عليه السلام والمؤمنون معه طبيعة العلاقة بينهم وبين المشركين، وأنّها علاقة عداوة صريحة.

﴿وَبَدَا﴾: ظهر.

﴿وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا﴾: هكذا عداء وكراهية؛ لأنّنا على طرفي نقيض، ولا يجتمع الإيمان أبداً مع الكفر، وسيظلّ العداء والبغضاء.

﴿حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ﴾: فعلّة العداوة أنّكم أشركتم بالله سبحانه وتعالى، فلو آمنتم به وحده لتبدّلت العداوة إلى مودّة ومحبّة، لكنّ كلمة: ﴿إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ﴾ لا تعطي دلالة على أنّ عمّه منهم.

﴿إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ﴾: هذا استثناء من الأسوة الحسنة، يعني لكم أسوة حسنة في إبراهيم عليه السلام في كلّ شيء إلّا في هذه الكلمة؛ لأنّ وعده لعمّه بالاستغفار له يعني أنّ قلبه ما زال معه، فلا تكن هذه أسوة، وقد قال الحقّ سبحانه وتعالى: ﴿وما كانَ اسْتِغْفارُ إبْراهِيمَ لِأبِيهِ إلّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وعَدَها إيّاهُ فَلَمّا تَبَيَّنَ لَهُ أنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأ مِنهُ إنَّ إبْراهِيمَ لَأوّاهٌ حَلِيمٌ﴾[التّوبة]، وظلّ إبراهيم عليه السلام يستغفر لعمّه كما وعده إلى أن تبيّن له أنّه عدوّ لله سبحانه وتعالى، فانصرف عنه عند ذلك وتبرّأ منه.

﴿وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ﴾: لا أدفع عنك شيئاً من عذاب الله عز وجلَّ، فأنا أستغفر، لكن لا أملك أن أغفر، فالّذي يغفر هو الله سبحانه وتعالى، لذلك أتبعها بقوله: ﴿وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ﴾.

﴿رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا﴾: والتّوكّل عمل قلب وليس عمل جوارح، فالجوارح تعمل والقلوب تتوكّل، والمراد: أخذنا بأسباب النّجاة، وتوكّلنا بقلوبنا ليوفّقنا إلى النّجاة الحقيقيّة.

﴿وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا﴾: أي: رجعنا وأفقنا ممّا كنّا فيه، فترك سيّدنا إبراهيم عليه السلام الدّعاء والاستغفار لأبيه.

﴿وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾: المصير: المرجع، فإلى الله سبحانه وتعالى مرجعنا.     

الآية رقم (5) - رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ

هذا دعاء المؤمنين وعلى رأسهم سيّدنا إبراهيم عليه السلام، يقولون:

﴿رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا﴾: كيف يكون المؤمن فتنة للكافر؟ المؤمن يكون فتنة للكافر في حالتين:

الأولى: إذا انهزم المؤمنون في معركة أمام الكافرين عندها يفتن الكافر؛ لأنّه سيقول: لو كانوا مؤمنين بالله سبحانه وتعالى ما انهزموا، أو يقول: لو كان لهم ربّ يدافع عنهم ما انهزموا، أو يقول: لو كانوا صادقين في إيمانهم ما انهزموا، وهذه فتنة.

الثّانية: يفتن الكافر بالمؤمن حينما يرى أهل الإيمان يرتكبون المعاصي، يصلّي ويكذب، يحجّ ويرتشي، يزكّي ويسرق، فهذا يزهّد بالإسلام، ويكون فتنة للّذين كفروا، فيفتنهم عن الدّين.

وهنا يؤكّد ضرورة التّمسّك بتعاليم الدّين حتّى لا ينظر أحد إلى المسلم أو المؤمن، ويقول: هذا هو من يُعلن الإيمان، ويتصرّف عكس تعاليم دينه؟ فيكون سبباً في فتنة الآخرين.

﴿رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا﴾: أي: اجعلنا منفّذين لأوامرك تنفيذاً يحبّب الآخرين في الدّين، ولا نكون حجّة لهم في الإعراض عن دينك.

﴿وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا﴾: يا ربّ اغفر لنا ذنوبنا.

﴿إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾: أنت العزيز الّذي لا تحتاج إلى أحد، والغالب الّذي لا تُغلَب، والمستغني عن عبادتنا، الّذي تضع الأمور في نصابها.