الآية رقم (21) - كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ

﴿كَتَبَ اللَّهُ﴾: أي: حَكَم وقضى، والكتابة تعني تسجيل الأمر تسجيلاً يضمن له البقاء، فالغلبة لله عز وجلَّ ولرسل الله أمرٌ وحُكمٌ قضاه الله سبحانه وتعالى وسجّله، فلا مردّ له ولا رجعة فيه، ولا يستطيع أحد أن يحول بين الله جل جلاله وبين تنفيذ أحكامه وإبرام قضائه، لذلك سمّى القرآن الكريم كتاباً؛ لأنّه مسطّر مكتوب ليكون باقياً خالداً مكتوباً في السّطور، وسمّي قرآناً يحفظ في الصّدور.

﴿إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾: الغلبة لله سبحانه وتعالى؛ لأنّه قويّ بذاته سبحانه وتعالى، والغلبة للرّسل بما منحهم من قوّته وتوفيقه وقدرته جل جلاله، فهم عباده وسفراؤه إلى خلقه، لذلك قال سبحانه وتعالى: ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (١٧١) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ(172) وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾ [الصّافّات].

الآية رقم (22) - لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ

﴿لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾: (لا) هنا نافية، تعني أنّك أبداً لا تجد أهل الإيمان يوادّون ويوالون أهل الكفر والنّفاق الّذين يحادّون الله ورسوله؛ لأنّهما طرفان نقيضان لا يلتقيان.

﴿يُوَادُّونَ﴾: من المودّة والمحبّة، وهي أمرٌ قلبيّ.

﴿حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾: جعل نفسه في جانب والله ورسوله في جانب، فحرم نفسه من صلته بالله عز وجلَّ وقربه منه سبحانه وتعالى، وهذه صفة الكفّار والمنافقين.

وهذه الآيات الّتي تمحَّكَ عندها المستشرقون الّذين يحاولون أن يتلمّسوا في القرآن الكريم الخطأ، قالوا: كيف نجمع بين هذه الآية وبين قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ۖ﴾ [لقمان: من الآية 15]، فالأولى تأمر بعدم مودّتهم: ﴿لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾، وهذه تأمر بمصاحبتهم بالمعروف؟ وهذه الشّبهة ناتجة عن عدم فهمهم لمعاني القرآن الكريم وعدم تذوّقهم للّغة، ففرق بين المودّة والمصاحبة بالمعروف، المودّة محبّة قلبيّة وودّ، وهذه لا يمكن أن تكون للمنافق أو الكافر، أمّا المعاملة بالمعروف والجميل الّذي يجب أن يُكافأ به الوالدان وإن كانا على الإشراك وعلى الكفر فخير وجميل تسديه لهما حتّى إن كانا كافرين؛ لأنّهما سبب وجودك المباشر، واحترامهما هو احترام سبب وجود الإنسان وهو الله سبحانه وتعالى، لذلك قال سبحانه وتعالى: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾[النّساء: من الآية 36].

﴿وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ﴾: جمع مراتب ودرجات القرابة كلّها، والعشيرة: هم المعاشرون للإنسان غير هؤلاء المذكورين.

ثمّ وصف الله سبحانه وتعالى أهل الإيمان الّذين ينطلقون في علاقاتهم من منطلق الإيمان، ولا يقدّمون عليه أحداً.

﴿أُوْلَئِكَ﴾: أي: المؤمنون.

﴿كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ﴾: يعني: ثبّته في قلوبهم فلا يفارقهم.

﴿وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ﴾: ليست هي الرّوح الأولى سبب الحياة، إنّما يؤيّد إيمانهم بروح أخرى منه سبحانه وتعالى روح خاصّة من نوره جل جلاله وتوفيقه، ومن ذلك قوله سبحانه وتعالى في العبد الصّالح: ﴿آتَيْناهُ رَحْمَةً مِن عِنْدِنا وعَلَّمْناهُ مِن لَدُنّا عِلْمًا﴾[الكهف: من الآية 65]، يعني: زيادة عن الرّسالة، ومنه قوله سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا﴾ [الأنفال: من الآية 29]؛ أي: إن تتّقوا الله سبحانه وتعالى بتنفيذ أوامره، واجتناب نواهيه الّتي جاءت في القرآن الكريم يعطكم فرقاناً آخر، يعني نوراً من عنده جل جلاله، وإشراقاً خاصّاً تفرّقون به بين الحقّ والباطل، فهذه تجلّيات خاصّة من الله سبحانه وتعالى لأهل الإيمان، لذلك قال العبد الصّالح: ﴿وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي﴾[الكهف: من الآية 82]، فهناك روح للمادّة تحيا بها الأجساد وهي الرّوح الّتي نفخها الله سبحانه وتعالى في آدم وهو ما يزال في مرحلة الطّين، وهناك روح للقيم وللمعنويّات، روح تحيا بها القلوب، وهذه الّتي قال الله سبحانه وتعالى فيها: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا﴾[الشّورى: من الآية 52]، لذلك وقف المستشرقون أيضاً عند قوله سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾[الأنفال: من الآية 24]، فقال: كيف يخاطبهم بهذا وهم أحياء بالفعل؟ نقول: يحييكم؛ أي: حياة القلوب وحياة القيم، لذلك قال جل جلاله: ﴿نُورٌ عَلَىٰ نُورٍ﴾[النّور: من الآية 35].

ثمّ يذكر جزاء هؤلاء:

﴿وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ﴾: فيدخلهم الجنّات الّتي هذه صفتها؛ لأنّه رضي عن أفعالهم كلّها، ومن رضي الله عنه أحلّ عليه رضوانه فلا يسخط عليه أبداً، وهذا الرّضوان فضل من الله سبحانه وتعالى وزيادة بعد ما نالوه من نعيم الجنّة، وقد ورد في الحديث القدسيّ بعد أن يدخلهم الجنّة ويرون من ألوان النّعيم ما لا يتصوّرون فوقه يخاطبهم الله سبحانه وتعالى ويقول لهم كما أخبر ﷺ: «إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ لِأَهْلِ الجَنَّةِ: يَا أَهْلَ الـجَنَّةِ؟ فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ، فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لَا نَرْضَى وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَـمْ تُعْطِ أَحَداً مِنْ خَلْقِكَ، فَيَقُولُ: أَنَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالُوا: يَا رَبِّ، وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي، فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَداً»([1]).

﴿وَرَضُوا عَنْهُ﴾: رضوا عن عطائه وفضله، أو رضوا عنه فرضي عنهم وهذا الكلام أزلاً.

وكلمة: ﴿جَنَّاتٍ﴾ جمع، تعني أنّ المؤمن في الآخرة له أكثر من جنّة، بدليل قوله سبحانه وتعالى في سورة الرّحمن: ﴿وَلِمَن خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ﴾[الرّحمن]، وقالوا: ﴿جَنَّاتٍ﴾ ؛ لأنّه سبحانه وتعالى يخاطب متعدّدين، فكلّ واحد منهم له جنّة، أو لأنّه سبحانه وتعالى يخاطب الثّقلين؛ الجنّ والإنس، ولكلٍّ جنّة.

﴿أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾: هناك قال في الكفّار والمنافقين: ﴿أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ﴾، وحكم عليهم: ﴿أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾، وهنا يتكلّم عن أهل الإيمان: ﴿أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ﴾، وحكم عليهم: ﴿أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾، ولنا أن نوازن بين الحزبين وأن نفرّق بينهما، هناك خسارة وهنا فلاح، فحزب الله سبحانه وتعالى هم الّذين تحزّبوا لمنهج الله سبحانه وتعالى، واجتمعوا عليه، وناصروه، وأيّدوه، ودافعوا عنه.

﴿أَلا﴾: استخدم هنا أيضاً أداة التّنبيه: ﴿أَلا﴾، يعني انتبه لهذا الحكم لا تنسه ولا تغفل عنه.

﴿إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾: من الفلاح، وفلاحة الأرض لـمّا نحرثها ونعدّها للزّراعة هذا فلاح لاستبقاء الحياة المادّيّة، وهذا فلاح استبقاء نعيم الحياة الأخرى.

([1]) صحيح البخاريّ: كتاب الرّقاق، باب صفة الجنّة والنّار، الحديث رقم (6549).

الآية رقم (15) - أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ

﴿أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ﴾: أعدّ الله عز وجلَّ لهم؛ أي: للمنافقين.

﴿عَذَابًا شَدِيدًا﴾: أشدّ وأعظم من عذاب الكافرين، قال سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا﴾ [النّساء: من الآية 145].

﴿إِنَّهُمْ سَاء﴾: أي: قبح.

﴿مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾: من إظهار الإيمان وإخفاء الكفر.

الآية رقم (16) - اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ

﴿اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً﴾: الحقّ سبحانه وتعالى يريد أن يفضحهم، ويكشف ألاعيبهم، فقال عنهم: ﴿وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾، يحلفون أنّهم ليسوا منافقين، وهنا قال: ﴿اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً﴾، الأيمان: جمع يمين وهو الحلف، فالحلف والأيمان وسيلة من وسائل الخداع الّتي يجيدونها ويستترون خلفها.

﴿جُنَّةً﴾: الجُنّة هي الوقاية، يقول ﷺ: «الصَّوْمُ جُنَّةٌ»([1])؛ أي: وقاية، وهنا جُنّة:  كأنّهم اتّخذوا الحلف مِـجنّاً يحتمون به كما يحتمي المقاتل خلف الـمِجَنّ أو الدّرع.

﴿فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ﴾: كانوا يحاولون أن يصدّوا النّاس عن سبيل الله سبحانه وتعالى بهذه الأيمان، ويخادعون الله عز وجلَّ وهو خادعهم، ويمكرون ويمكر الله، وصدّوا غيرهم عن سبيل الله سبحانه وتعالى، فيتحمّلون وزرهم ووزر من صدّوهم.

﴿فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾: المهين: العذاب الّذي يذلّهم ويخزيهم.

وهكذا جمع الله سبحانه وتعالى عليهم ألوان العذاب كلّها، فمرّة قال: ﴿عَذَابًا شَدِيدًا﴾ [المجادلة: من الآية 15]، ومرّة: ﴿عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾[التّوبة: من الآية 101]، ومرّة قال: ﴿عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾[المجادلة: من الآية 4]، و﴿عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ [المجادلة: من الآية 16]، وهذا كلّه جزاء وفاقاً لما أضرّوا بدعوة الإسلام، وآذوا المسلمين ونافقوهم.

([1]) سنن التّرمذيّ: أبواب الإيمان، باب ما جاء في حُرمَة الصّلاة، الحديث رقم (2616).

الآية رقم (17) - لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ

﴿لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا﴾: أي: أموالهم الّتي نافقوا لحمايتها، ومن أجل بناء مستقبل لأولادهم وحمايتهم ونجاتهم، كلّ هؤلاء لن ينفعوهم، ولن يدفعوا عنهم ألوان العذاب الواقع بهم.

﴿أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ﴾: فهم والنّار أصدقاء؛ لأنّهم مصاحبون لأسبابها، عاشقون للذّنوب الّتي توقعهم فيها.

﴿هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾: باقون فيها أبداً لا يفارقونها ولا تفارقهم

الآية رقم (18) - يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ

﴿يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ﴾: يعني عقدت ألسنتهم على الكذب فلا يعرفون غيره، كما كانوا يكذبون عليكم في الدّنيا ويحلفون لكم أنّهم ليسوا منافقين، كذلك في الآخرة سيحلفون لله سبحانه وتعالى، كما حكى عنهم جل جلاله: ﴿وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾[الأنعام: من الآية 23]، وهذا أمر في غاية العجب حتّى في الآخرة بعد أن عاينوا الحقّ الّذي أنكروه، وعرفوا أنّ الله جل جلاله حقّ يكذبون عليه؟! وكلمة: ﴿جَمِيعًا﴾ يعني: يوم القيامة يبعث الله سبحانه وتعالى اليهود والمنافقين الّذين تولّوهم، يبعثهم معاً فمصيرهم واحد، فقد كانوا في الدّنيا يوالونهم ويناصرونهم، ومن أحبّ قوماً حشر معهم، فكأنّ الحقّ سبحانه وتعالى يخفّف عن رسوله ﷺ ويطمئنه، فيقول له: ﴿يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ﴾ يعني: يا محمّد انتظر هذا اليوم، وسترى كيف أنّ الله سبحانه وتعالى يجازيهم بما يناسبهم.

﴿وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ﴾: أي: يظنّون أنّهم على شيء من الحقّ والصّواب.

﴿أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾: فهم يظنّون ذلك، لكن لننتبه فالحقيقة أنّهم كاذبون وكلمة: ﴿أَلا﴾ تُفيد التّنبيه للحكم بعدها، يعني: لا يغب عن أذهانكم أنّهم كاذبون مخادعون.

الآية رقم (19) - اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ

﴿اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ﴾: أي: فعلوا ذلك ونافقوا؛ لأنّ الشّيطان ﴿اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ﴾.

﴿اسْتَحْوَذَ﴾: استولى؛ فقد استولى على خواطرهم وأفكارهم كلّها.

﴿فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ﴾: فهذه مهمّته الّتي أقسم عليها، ﴿قٰالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاّٰ عِبٰادَكَ مِنْهُمُ اَلْمُخْلَصِينَ﴾[ص]، وقال سبحانه وتعالى: ﴿لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ﴾[الأعراف: من الآية 16]، يعني: أقعد لهم في طريق الطّاعة لأفسدها عليهم، لذلك فالشّيطان لا يذهب إلى الخمّارات وأماكن اللّهو، إنّما يذهب إلى المساجد ليفسد على أهل الطّاعة طاعتهم، فإذا ما أتى الإنسان في الصّلاة وسوسة شيطان ما عليه إلّا أن يقول كما علّمه الله عز وجلَّ: ﴿وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ﴾[الأعراف: من الآية 200].

﴿أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ﴾: أي: المنافقون.

﴿أَلا﴾: تأتي للتّنبيه، يعني: انتبه إلى هذا الحكم.

﴿إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾: كلمة (حزب) من قولنا: حزبه الأمر؛ يعني: شغله وهمّه ولا يقدر أن يدفعه عن نفسه، فالحزب كلمة تُطلق على كلّ جماعة تمالؤوا على رأي واحد واجتمعوا عليه، ويخدمون هذا الرّأي ويدعون إليه؛ لذلك سمّى الله سبحانه وتعالى المؤمنين: ﴿حِزْبَ الشَّيْطَانِ﴾، وسمّى الكافرين والمنافقين: ﴿حِزْبَ الشَّيْطَانِ﴾.

الآية رقم (20) - إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ

﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾: أي: يجعلون أنفسهم في جانب والله سبحانه وتعالى ورسوله ﷺ في جانب، فينفصلون عن الله سبحانه وتعالى وعن رسوله ﷺ، والحدّ هو الفاصل بين الشّيئين.

﴿أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ﴾: جمع أذلّ، فما دام العبد قد انفصل عن ربّه وعن رسوله، فلا بدّ أن يذلّ وأن يُهان؛ لأنّ عزّ الإنسان بربّه جل جلاله:

اجْعَل لِرَبِّكَ كُلَّ عِزِّكَ يَسْتَقِرُّ وَيَثْبُتُ                     .   فَإِذَا اعْتَزَزْتَ بِمَنْ يَمُوتُ فَإِنَّ عِزَّكَ مَيِّتُ
.

الآية رقم (10) - إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ

﴿إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ﴾: أي: النّجوى بالإثم والعدوان ومعصيت الرّسول هي في الأساس من الشّيطان؛ لأنّ مهمّته منذ أن أخذ عهداً مع الله سبحانه وتعالى: ﴿قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين *إلا عبادك منهم المخلصين﴾[ص]، وفضح نفسه حينما أعلن عن خطّته في إغواء بني آدم، فقال: ﴿لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ﴾[الأعراف: من الآية 16].

﴿لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾: ومع أنّ المؤمنين حزنوا من تلك المكائد الّتي تُدبّر لهم، لكنّ الضّرر ليس بيد الشّيطان ولا بيد المتآمرين، بدليل قول الحقّ سبحانه وتعالى:

﴿وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾: فعندما يأخذ الإنسان بالأسباب يجب أن يكون متيقّناً من أنّ النّافع والضّارّ هو الله عز وجلَّ، وأنّ الضّرر لا يقع إلّا بمشيئة الله سبحانه وتعالى، لكن علينا أن نأخذ بالأسباب وأن نستعدّ، وبعد ذلك إذا جاء الأمر المحزن فإنّ النّفع والضّرّ بيد الله سبحانه وتعالى وبمشيئته، ولذلك أتبعها سبحانه وتعالى بقوله:

﴿وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾: فلا بدّ حتّى تستطيع أن تواجه محن الحياة كلّها من أن تتوكّل على الله عز وجلَّ، والتّوكّل على الله سبحانه وتعالى بأنّك جعلت الله عز وجلَّ وكيلاً عنك، وحسن التّوكّل على الله سبحانه وتعالى سيؤدّي إلى استعداد الإنسان لمواجهة مصاعب الحياة كلّها الّتي تعترضه.

﴿فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾: لا يستطيع أحدٌ أن يتوكّل على الله عز وجلَّ إلّا إذا كان مؤمناً.

الآية رقم (11) - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ

نزلت هذه الآية لـمّا كثر أصحاب رسول الله ﷺ وكثر محبّوه وأهل مجلسه، حتّى أنّهم كانوا يتزاحمون على مجلسه ﷺ ولا يجدون مكاناً، فأمر الله سبحانه وتعالى أن يوسّع بعضهم لبعض، فقال:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا﴾: أي: توسّعوا، وأوجدوا مكاناً لمن ليس له مكان.

﴿يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ﴾: فعليكم أن تأخذوا بأسباب التّوسعة، والله سبحانه وتعالى يفسح لكم في مجلسكم، وإذا نُسب الفعل إلى الله جل جلاله فهو طلاقة القدرة، أنت تفسح على قدر طاقتك والله سبحانه وتعالى يفسح لك على قدر طاقته، وهذا كقول سيّدنا رسول الله ﷺ: «وَاللهُ فِي عَوْنِ العَبْدِ مَا كَانَ العَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ»([1])، فهي صفقة حسابيّة واضحة، فأنت في عون أخيك بقدرتك وطاقتك المحدودة، والله سبحانه وتعالى بحوله وقوّته وطاقته غير المحدودة في عونك، فمن الرّابح؟ وهذا المعنى عامّ في التّوسّع، وسّع لأخيك أو وسِّع عليه يوسّع الله سبحانه وتعالى لك من حيث لا تدري، وهذه التّوسعة من الله عز وجلَّ بركة في المكان وبركة في الرّزق وبركة في كلّ شيء. ويجب علينا جميعاً بهذا التّوجيه من الله سبحانه وتعالى ومن رسول الله ﷺ أن نأخذ به، ونذكر هنا قصّة الرّجل الّذي مات وعليه دين فامتنع رسول الله ﷺ عن الصّلاة عليه، ولكنّه أباح لجماعة المسلمين أن يصلّوا عليه فقال: «صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ»([2])، فما ذنب المدين وقد مات؟ ولماذا امتنع رسول الله ﷺ من الصّلاة عليه؟ قالوا: لأنّه خالف توجيهاً لرسول الله ﷺ حين قال: «مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّى اللَّهُ عَنْهُ، وَمَنْ أَخَذَ يُرِيدُ إِتْلَافَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ»([3])، وهذ المدين كونه مات دون أن يقضي دينه يعني: أنّه كان في نيّته عدم السّداد، فلم يُعَن عليه، فأحبّ رسول الله ﷺ أن يعلّم أمّته هذا الدّرس.

﴿وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا﴾: يعني: انهضوا وقوموا للتّوسعة.

﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾: أي: الّذي يأتمر بهذه الأمور، ويطبّقها، ويأخذ بأسباب العلم الّتي أمر الله سبحانه وتعالى بها، يرفعه الله سبحانه وتعالى درجات، فالإيمان يرتبط دائماً بالعلم، فمن أوتي العلم فقد أوتي خيراً كثيراً، ورفع الدّرجات يكون على قدر العمل بهذا العلم.

﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾: فالحقّ سبحانه وتعالى يريد أن يقوّي إيمان المؤمنين، وكيف يقوى الإيمان؟ كلّما ازداد العلم، والآن نرى أنّ الاكتشافات في الأرض والتّطوّر العلميّ كلّه يقود إلى أن نقول: لا إله إلّا الله، وأن نؤمن بالله سبحانه وتعالى، فالعلم أحد الوسائل الأساسيّة للإيمان، فبالعلم يكتشف الإنسان مدى عظمة وقدرة الخالق سبحانه وتعالى، وأنّه لا يمكن لهذه الهندسة الكونيّة أن تكون من غير موجد، وهنا قال سبحانه وتعالى: ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾، وليس عليم فقط، بل خبير، والخبرة فوق العلم، فهي زيادة في العلم.

([1]) صحيح مسلم: كتاب الذّكر والدّعاء والتّوبة والاستغفار، باب 11، الحديث رقم (2699).

([2]) صحيح البخاريّ: كتاب الحوالات، باب إن أحال دَيْنَ الـميّت على رجلٍ جاز، الحديث رقم (2289).

([3]) صحيح البخاري: كتاب في الاستقراض وأداء الدُّيون والحَجْر والتَّفليس، باب من أخذ أموال النّاس يريد أداءها أو إتلافها، الحديث رقم (2387).

الآية رقم (12) - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ

بعد أن تحدّثت الآيات عن المناجاة المذمومة المنهي عنها، وتحدّثت عن المناجاة الجائزة، تتحدّث الآن عن لون آخر من المناجاة وهي المناجاة الخاصّة برسول الله ﷺ، ورسولنا الكريم ﷺ له خصوصيّاته:

أوّلها: ما جاء في قوله سبحانه وتعالى: ﴿ لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا﴾ [النّور: من الآية 63]، يعني: لا تنادوا رسول الله ﷺ كما ينادي بعضكم بعضاً، فلا تقولوا: يا محمّد.

الثّانية: أنّنا إذا أردنا أن نناجي رسول الله ﷺ فلا بدّ أن نقدّم قبل المناجاة صدقة، لماذا؟ قالوا: كان هناك أناس يجلسون إلى رسول الله ﷺ ويتناجون معه دون بقيّة الجالسين ليزدادوا بذلك شرفاً، وليقال عنهم: إنّهم موضع سرّ رسول الله ﷺ، فأراد الله سبحانه وتعالى أن يحدّ من هذه الظّاهرة، كيف؟ بفرض هذه الصّدقة، فلا بدّ من أن تقدّم الصّدقة وتحسن للفقراء عندما تريد أن تناجي النّبيّ ﷺ، فما هذا الدّين العظيم الّذي يجعل مناجاة النّبيّ ﷺ ترتبط بتقديم الصّدقات للفقراء؟!

﴿فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً﴾: أي: قبل المناجاة لا عندها، كما في قوله سبحانه وتعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ﴾[المائدة: من الآية 6]، ونحن لا نتوضّأ عندما نقوم للصّلاة، إنّما نتوضّأ قبلها.

وهؤلاء الّذين ضنّوا بالصّدقة على الفقراء ضنّوا بها؛ لأنّ المال عندهم أهمّ من أن يزدادوا شرفاً بمناجاة رسول الله ﷺ، والله سبحانه وتعالى فضح ما في نفوسهم بقوله: ﴿إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً﴾؛ ذلك لأنّ وقت سيّدنا رسول الله ﷺ كان للنّاس جميعاً، ويجلس ﷺ للجميع ولا يمكن أن يحتكره أحد للمناجاة؛ لأنّ وقته يضيق عن مثل هذا، فلا بدّ من أن يجتمع مع النّاس كلّهم.

﴿ذَلِكَ﴾: أي: تقديم الصّدقة قبل المناجاة.

﴿خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ﴾: أي: أطهر لقلوبكم.

﴿فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾: دلّ على أنّ المسألة فرض.

الآية رقم (13) - أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ

لـمّا لم يقدِّموا الصّدقة، وضنّوا بها كشفهم الله سبحانه وتعالى لرسوله ﷺ، فقال:

﴿أَأَشْفَقْتُمْ﴾: أي: خفتم، فلم تقدّموا بين يدي نجواكم صدقات.

﴿فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا﴾: لم تذهبوا لمناجاة رسول الله ﷺ.

الإمام عليّ كرّم الله وجهه لـمّا نزلت الآية تأمر بتقديم الصّدقة، قال: لقد فعلت شيئاً ما فعله أحد قبلي ولا بعدي، كان عندي دينار فاشتريت به دراهم، وكنت كلّما أردت الذّهاب إلى مجلس رسول الله ﷺ تصدّقت بدرهم، وبعد أن نزلت الآية: ﴿أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ﴾ وألغت هذه المسألة ظلّ الإمام عليّ كرّم الله وجهه يتصدّق بعدها، لذلك قال: فعلت شيئاً لم يفعله أحد قبلي ولا بعدي.

﴿وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾: أي: أعفاكم من تقديم هذه الصّدقة.

﴿فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾: أي: ما عليكم إلّا أن تؤدّوا ما فرض الله سبحانه وتعالى عليكم من طاعة أوامره وطاعة أوامر رسوله ﷺ، ويكفيكم هذا.

﴿وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾: والخبير هو العليم ببواطن الأمور الّذي لا تخفى عليه خافية، وكأنّه يقول لنا: ما دمتم لم تكلّفوا إلّا بالفرائض فأدّوها بإتقان وإخلاص، فكأنّ هذا الإتقان للعبادة وهذا الإخلاص فيه (عربون) للمناجاة مع رسول الله ﷺ بعد أن أعفاهم الله سبحانه وتعالى من الصّدقة، ولا يغيب عن بالكم أنّ الله سبحانه وتعالى الّذي كلّفكم خبير بأعمالكم، لذلك في وصاياه ﷺ لسيّدنا أبي ذرّ t، قال له: «وأخلص الْعَمَل فَإِن النَّاقِد بَصِير»([1]).

([1]) الفردوس بمأثور الخطاب: ج5، ص339، باب الجيم، الحديث رقم (8364).

الآية رقم (3) - وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ

﴿ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا﴾: يعني: يعدلون عن كلمة الظّهار، ويتنازلون عنها، ويريدون مراجعة الزّوجة كما يراجع الزّوج زوجته في الطّلاق، هؤلاء عليهم كفّارة أو عقوبة هي تحرير رقبة، عتق رقبة مملوك.

﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا﴾: التّماس هنا كناية عن المعاشرة الزّوجيّة أو الجماع.

الآية رقم (14) - أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ

الحديث هنا عن موالاة المنافقين في المدينة المنوّرة لليهود، يقول سبحانه وتعالى:

﴿أَلَمْ تَرَ﴾: يا محمّد.

﴿إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم﴾: أي: المنافقين تولّوا الّذين غضب الله عليهم، وهم اليهود، يعني اتّخذوهم أولياء يناصرونهم، ويتآمرون معهم.

﴿مَّا هُم مِّنكُمْ﴾: أي: ما هم من المؤمنين.

﴿وَلا مِنْهُمْ﴾: ولا من اليهود، قال سبحانه وتعالى: ﴿مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ﴾[النّور: من الآية 63].

وسبق أن بيّنا أنّ النّفاق لم يظهر في مكّة؛ لأنّ المسلمين كانوا في حالة ضعف، والنّفاق يظهر في حالة القوّة، فظهر في المدينة، وهذا يدلّ على قوّة الدّين، فقد قويت شوكته وأصبح له مكانة بين النّاس، وكان عبد الله بن أبيّ بن سلول رأس المنافقين في مدينة رسول الله ﷺ؛ ذلك لأنّهم كانوا يعدّون له التّاج لينصِّبوه ملكاً عليهم، فلمّا جاء رسول الله ﷺ المدينة قضي على منزلة عبد الله بن أبيّ بن سلول، وانصرف النّاس عنه، فظلّت هذه في نفس ابن أبيّ فأظهر الإسلام وأبطن الكفر والنّفاق، أمّا ابنه عبد الله فقد أسلم وحسن إسلامه وأخلص فيه، وكان في أشدّ الحزن لنفاق والده، ويُروى أنّ عبد الله جلس إلى النّبيّ ﷺ فشرب رسول الله ﷺ، فقال له: بالله يا رسول الله، أما أبقيت فضلة من شرابك أسقها أبي لعلّ الله يطهّر بها قلبه، فأفضل له فأتاه بها؟ فقال له عبد الله (أبوه): ما هذا؟ فقال: هي فضلة من شراب النّبيّ ﷺ جئتك بها تشربها لعلّ الله يطهّر قلبك بها، فقال له أبوه: فهلّا جئتني ببول أمّك فإنّه أطهر منها، فغضب وجاء إلى النّبيّ ﷺ وقال: يا رسول الله، بالله أما أذنت لي في قتل أبي، فقال النّبيّ ﷺ: «بل ترفق به وتُحسن إليه»([1])، وقال سبحانه وتعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ﴾، وكان بعد ذلك يكرم ابن أُبيّ لأجل ابنه عبد الله.

فظهرت قوّة الإسلام وقوّة العقيدة في نفوس أتباع محمّد ﷺ في المدينة بشكل لم يشهد التّاريخ مثله، ولك أن تتأمّل قول عبد الله لرسول الله ﷺ: دعني أقتله، هذا من قوّة الإيمان، فالإيمان يفعل المعجزات، وقد آخى النّبيّ ﷺ بين المهاجرين والأنصار، وقال سبحانه وتعالى عنهم: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَة﴾ [الحشر: من الآية 9]، فموالاة المنافقين لليهود شكّلت جبهة ضدّ المسلمين، فكان المنافق يخالط المسلمين وربّما يصلّي في الصّفّ الأوّل، ثمّ يخرج فينقل أخبارهم إلى اليهود، ومن هنا تأتي خطورة النّفاق والمنافقين، فهم أشدّ خطراً من الكفّار ومن اليهود؛ لأنّهم يُظهرون الموالاة ويُبطنون العداوة، والمنافق عداوته مستترة، لذلك جعلهم الله سبحانه وتعالى في الدّرك الأسفل من النّار.

﴿وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾: يعلمون أنّهم كاذبون، ويعلمون أنّ الله سبحانه وتعالى يطّلع على سرائرهم، ويُطلِع رسوله ﷺ على ما يدور في نفوسهم وخواطرهم، ومع ذلك كانوا يتآمرون، والعجيب أنّهم يحلفون على الكذب في الدّنيا ويكذبون على بعض، وأيضاً يحلفون على الكذب في الآخرة، كما أخبر الله سبحانه وتعالى عنهم: ﴿ وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾[الأنعام: من الآية 23]، وقال: ﴿وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ﴾[الواقعة]، يريدون أن يكذبوا على الله عز وجلَّ في الآخرة، وهنا يخبرنا سبحانه وتعالى بما ينتظرهم من الجزاء

([1]) السّيرة الحلبيّة: ج2، باب ذكر مغازيه ﷺ، غزوة بني المصطلق.

الآية رقم (4) - فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ

﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ﴾: أي: لم يجد رقبة يعتقها.

﴿فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ﴾: التّتابع؛ أي: التّوالي دون فاصل يفصل الصّيام، إلّا إذا أفطر لعذر شرعيّ، فلا يعدّ فاصلاً.

﴿فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ﴾: أي: الصّيام المتتابع.

﴿فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا﴾: يحاول أن يصعّب العقوبة لتكون رادعة ليقتلع جذور هذه العادة السّيّئة من ألسنة النّاس.

﴿وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ﴾: حدود الله سبحانه وتعالى أوامره ونواهيه، قال جل جلاله فـي الأوامر: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا﴾[البقرة: من الآية 229]، وقال في النّواهي: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا﴾[البقرة: من الآية 187].

والحدّ: هو الفاصل بين شيئين، وحدود الله سبحانه وتعالى هي الّتي تفصل بين الحلال والحرام، ومنه قوله جل جلاله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾؛ أي: يجعلون هواهم في جانب وأوامر الله سبحانه وتعالى في جانب آخر، فسمع الله سبحانه وتعالى قول المجادِلة وأجابها بأن أنزل في شأنها قرآناً يُتلى إلى يوم القيامة، وجعل للظّهار حكماً لازماً وكفّارة رادعة، فليس مجرّد سماع، ونحن نقول عندما نرفع من الرّكوع: سمع الله لمن حمده؛ أي: سمع وأجاب؛ لأنّه سبحانه وتعالى قال: ﴿لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾، والقاعدة الفقهيّة أنّ العبرة بعموم اللّفظ لا بخصوص السّبب، فلو كان الحكم خاصّاً بخولة لاقتصر عليها، إنّما هو حكم عامّ للنّساء، وكان الظّهار في الجاهليّة يمثّل أشدّ أنواع الفرقة بين الرّجل وزوجته، حين يقول لها: أنت عليّ كظهر أمّي؛ لأنّ الأمّ هي أوّل المحرّمات من النّساء، قال سبحانه وتعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ ﴾ [النّساء: من الآية 23]، فليس أشنع من هذا الموضوع، وعلينا أن نعلم أنّ كفّارة الظّهار في الإسلام جاءت حفاظاً على العلاقة بين الرّجل وزوجته، وحفاظاً على حقوق المرأة، ولا بدّ أن نقف عند قوله سبحانه وتعالى في كفّارة الظّهار: ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ﴾، بأنّ الرّقّ لم يعد موجوداً الآن، لكنّه كان موجوداً في ذلك الوقت، وعتق رقبة؛ يعني: أنّ الإسلام جاء من أجل تحرير العبيد، فقد جاء الإسلام والرّقّ موجود في المجتمع، فضيّق هذه المصادر، وبعد أن ضيّق منابع الرّقّ وسّع مصارفه ليقضي عليه تماماً، ولننظر إلى الكفّارات الّتي فرض الله سبحانه وتعالى فيها عتق الرّقاب، والرّقاب عامّة سواء أكانت مؤمنة أم غير مؤمنة، لذلك حينما نستقرئ القرآن الكريم لا نجد إلّا آية واحدة مشروط فيها تحرير رقبة مؤمنة، في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾[النّساء: من الآية 92]، أمّا في آية اليمين وكفّارته فيقول جل جلاله: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الْأَيْمَانَ ۖ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ﴾ [المائدة: من الآية 89]، ولم يقل: (مؤمنة)، لذلك علّق أبو حنيفة على هذا وقال: قيّدها هناك بشرط الإيمان وأطلقها هنا، فدلّ على أنّها تكون حتّى للكافر، فالإسلام في كثير من المسائل لا يفرّق بين المؤمن والكافر، إنّه دين عامّ هدفه إصلاح الدّنيا، ونذكر قصّة الدّرع الّذي سرقه طعمة بن أبيرق وخبّأه عند زيد بن السّمين اليهوديّ، فاتّهموا اليهوديّ بالسّرقة وأرادوا تبرئة المسلم، وحاولوا إقناع رسول الله ﷺ بهذا حتّى مال إلى هذا الرّأي، وكان هدفهم ألّا يُتَّهم مسلم بالسّرقة ويُفتَضح أمره، فنزل الوحي مباشرة على رسول الله ﷺ: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ﴾[النّساء: من الآية 105]، ولم يفرِّق بين مؤمن وكافر، ﴿وَلَا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا﴾[النّساء: من الآية 105]؛ أي: لا تدافع عن الخائن حتّى إن كان مسلماً؛ لأنّ العدالة الإلهيّة لا تفرّق بين العباد.

نلاحظ في كفّارة الظّهار التّرتيب بين عتق الرّقبة، ثمّ الصّيام، ثمّ الإطعام، ليأخذ كلّ ما يناسبه، وأيضاً ليكون أمام الفقهاء فسحة لجعل هذه الكفّارة رادعة، لذلك روي عن منذر بن سعيد -أحد فقهاء الأندلس- لـمّا حلف الخليفة عبد الرّحمن النّاصر يميناً وأراد له كفّارة، فقالوا له: إطعام عشرة مساكين، فلمّا علم المنذر بن سعيد بهذه الفتوى قال: أو يُزجَر أمير المؤمنين بأن يُطعم عشرة مساكين، وهو يُطعم كلّ يوم كذا وكذا؟ إنّما يُزجَر بالصّيام، فأخذ روح الحكم ولم يأخذ نصّه. وبعد أن بيّن الله سبحانه وتعالى حكم الظّهار وكفّارته قال:

﴿وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ﴾: أي: الأوامر والنّواهي، والحدّ كما ذكرنا هو الفاصل بين شيئين، فإن كان الحدّ بينك وبين الله سبحانه وتعالى فهو مرفوض.

﴿وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾: أي: الّذين لا يقفون عند حدود الله عز وجلَّ، ولا يعملون بما حدّه الله سبحانه وتعالى لعباده، فهؤلاء لهم عذاب أليم، وهو عذاب جهنّم، وسمّي صنيعهم هذا كفراً تغليظاً وتشديداً، فالّذين لم يؤمنوا ولم يلتزموا بأحكام هذه الشّريعة، ووقفوا عند حدود الله سبحانه وتعالى فلا يعتقدنّ أحد أنّهم ناجون من حساب الله سبحانه وتعالى وعقابه، فليس الأمر كما زعموا، بل لهم عذاب أليم في الدّنيا وفي الآخرة.

الآية رقم (5) - إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ

﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾: أي: يجعلون هواهم في حدّ، وأوامر الله سبحانه وتعالى في حدّ، ﴿وَرَسُولَهُ﴾ دلّت على أنّ الرّسول ﷺ له تشريع خاصّ به؛ لأنّه مفوّض من الله سبحانه وتعالى في أن يشرّع، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾[الحشر: من الآية 7]، فالأمر قد يكون من الله سبحانه وتعالى ومن رسول الله ﷺ، وقد يكون من الله جل جلاله وحده، أو من رسول الله ﷺ وحده؛ لأنّ الحكم يكون من الله سبحانه وتعالى إجمالاً ومن رسول الله ﷺ تفصيلاً، لذلك جاءت الآيات تفـصّل هذا في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾[المائدة: من الآية 92]، وقال جل جلاله: ﴿وأَطِيعُوا اللَّهَ والرَّسُولَ﴾ [آل عمران: من الآية 132]، وقال عز وجلَّ: ﴿وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾ [النّور: من الآية 56]، وبهذه الآيات نردّ على هؤلاء الّذين ينادون بالأخذ بالقرآن الكريم فقط، ويرفضون الأخذ بسُنّة رسول الله ﷺ، وقد أخبر رسول الله ﷺ عن هؤلاء فقال: «ألَا هَلْ عَسَى رَجُلٌ يَبْلُغُهُ الحَدِيثُ عَنِّي وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى أَرِيكَتِهِ، فَيَقُولُ: بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللهِ، فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ حَلَالاً اسْتَحْلَلْنَاهُ، وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ حَرَاماً حَرَّمْنَاهُ، وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللهِ كَمَا حَرَّمَ اللَّهُ»([1])، وهذا من معجزاته ﷺ، وللرّدّ على هؤلاء نقول لهم: بالله عليكم قولوا لنا: كيف نصلّي العصر أو المغرب؟ ومن أين عرفتم أنّ العصر أربع ركعات وأنّ المغرب ثلاث؟ وهل هذا في القرآن الكريم؟ هل بيّن القرآن الكريم مناسك الحجّ أو مقادير الزكاة أو أحكام الصّلاة أو فرائض وشروط الصّلاة أو عدد ركعات الصّلاة؟ والنّبيّ ﷺ يقول: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي»([2])، وقال ﷺ: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ»([3])، يعني: أنّ رسول الله ﷺ تميّز بين الرّسل بأن فوّضه الله عز وجلَّ في أن يشرّع لأمّته، فالرّسل قبل النّبيّ محمّد ﷺ لم يكن لهم إلّا أن يبلّغوا عن الله سبحانه وتعالى الأحكام، أمّا رسول الله ﷺ فمبلّغ ومشرّع، فأطيعوا الله عز وجلَّ في إجمال الحكم، وأطيعوا رسول الله ﷺ في تفصيل الحكم، ولو لم يكن الأمر كذلك ما قال الحقّ سبحانه وتعالى: ﴿مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾ [النّساء: من الآية 80].

﴿كُبِتُوا﴾: الكبت هنا بمعنى الذّلّة والمهانة، أو الصّدمة الشّديدة الّتي تُسكت المرء فلا ينطق لهول ما يرى من المصيبة، مثل قوله سبحانه وتعالى: ﴿فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ﴾؛ أي: ذُهِل، فالّذي يتعرّض لصدمة شديدة يخرس لسانه، فلا ينطق ولا يستطيع أن ينفّس عن نفسه أو يخفّف عنها.

﴿كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾: وأوّل من كُبت إنّما كُبت المكذّبون السّابقون من قوم عاد وثمود وقوم لوط وقوم فرعون وغيرهم.

﴿وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾: آيات واضحات يصدّقها العقل، وتقبلها الفطرة السّليمة.

﴿وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾: أي: الّذين يكذّبون بهذه الآيات ولا يؤمنون بها مع وضوحها ومسايرتها للفطرة السّليمة، لهم عذاب مهين يهينهم ويخزيهم؛ ذلك لأنّ قضيّة الإيمان بالله سبحانه وتعالى واضحة لا يملك أحد ردّها، حتّى هم لم ينكروها.

([1]) سنن التّرمذيّ: أبواب العلم، باب ما نهي عنه أن يقال عند حديث النّبيّ ﷺ، الحديث رقم (2664).

([2]) سنن الدّار قطني: كتاب الصّلاة، باب في ذِكْر الأمر بالأذان والإمامة وأحَقِّهما، الحديث رقم (1069).

([3]) السّنن الكبرى للبيهقيّ: جماع أبواب دخول مكّة، باب الإيضاع في وادي مُـحَسِّر، الحديث رقم (9524).

الآية رقم (6) - يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ

﴿يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا﴾: يذكّرهم سبحانه وتعالى بيوم البعث والحساب يوم يحاسبهم على كلّ صغيرة وكبيرة ممّا نسوه، ولكنّ الله سبحانه وتعالى أحصاه وسجّله عليهم، وكتبه الحفظة من الملائكة، ونحن لو سألنا مثلاً رجلاً في السّتين أو في السّبعين من عمره وقلنا له: هل تحصي ذنوبك؟ يقول لنا: لا أستطيع؛ لأنّ النّسيان من طبائع الإنسان، كأنّ صفات الكمال في النّفس الإنسانيّة لها تقدير ذاتيّ، فمثلاً شهادة الزّور أو النّميمة أو الشّتيمة يقع فاعلها في المحظور، ويكون كشاهد زور، وتمرّ الأيّام والسّنوات، وينسى هذه الأمور، لذلك: ﴿يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا﴾.

﴿أَحْصَاهُ اللَّهُ﴾: لأنّه المحصي سبحانه وتعالى.

﴿وَنَسُوهُ﴾: لأنّهم أهل للنّسيان.

﴿وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾: لأنّه قيّوم السّموات والأرض، وقد جاء في بعض الكتب: “إِنْ لَـمْ تَعْلَمُوا أَنِّي أَرَاكُمْ، فَالخَلَلُ فِي إِيمَانِكُمْ، وَإِنْ عَلِمْتُمْ أَنِّي أَرَاكُمْ فَلِمَ جَعَلْتُمُونِي أَهْوَنَ النَّاظِرِينَ إِلَيْكُمْ؟”([1])، فقوله عز وجلَّ: ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾: يعني السُّور الكلّيّ، فلا يوجد شيء إلّا والله سبحانه وتعالى شهيد عليه، والإيمان بإله واحد شيء وهو سبحانه وتعالى شهيد عليه، لذلك قال سبحانه وتعالى: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾[آل عمران: من الآية 18]، فقـبل أن يطلب جل جلاله من النّاس أن تشهد بهذا شهد هو به لنفسه عز وجلَّ، وكذلك رسول الله ﷺ قبل أن يشهد النّاس له بالرّسالة شهد بها هو لنفسه، وقد ورد في الحديث أنّه ﷺ قال: «أَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ»، في قصّة جابر بن عبد الله t الّذي كان عليه دين لرجل يهوديّ، وقد حان وقت السّداد، إلّا أنّه لا يستطيع؛ لأنّ نخيله لم يثمر الثّمر الّذي يكفي لسداد الدَّين، فكلّم جابرٌ t رسولَ الله ﷺ أن يتوسّط له عند اليهوديّ ليؤجّل موعد السّداد، لكنّ اليهوديّ رفض، فقد وجد الفرصة لإذلال المسلمين، يقول جابر t: كَانَ بِالـمَدِينَةِ يَهُودِيٌّ، وَكَانَ يُسْلِفُنِي فِي تَمْرِي إِلَى الجِدَادِ، وَكَانَتْ لِجَابِرٍ الأَرْضُ الَّتِي بِطَرِيقِ رُومَةَ، فَجَلَسَتْ، فَخَلَا عَاماً، فَجَاءَنِي اليَهُودِيُّ عِنْدَ الجَدَادِ وَلَـمْ أَجُدَّ مِنْهَا شَيْئاً، فَجَعَلْتُ أَسْتَنْظِرُهُ إِلَى قَابِلٍ فَيَأْبَى، فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ النَّبِيُّ ﷺ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: «امْشُوا نَسْتَنْظِرْ لِجَابِرٍ مِنَ اليَهُودِيِّ»، فَجَاءُونِي فِي نَخْلِي، فَجَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ يُكَلِّمُ اليَهُودِيَّ، فَيَقُولُ: أَبَا القَاسِمِ، لَا أُنْظِرُهُ، فَلَمَّا رَأَى النَّبِيُّ ﷺ قَامَ فَطَافَ فِي النَّخْلِ، ثُمَّ جَاءَهُ فَكَلَّمَهُ فَأَبَى، فَقُمْتُ فَجِئْتُ بِقَلِيلِ رُطَبٍ، فَوَضَعْتُهُ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ ﷺ فَأَكَلَ، ثُمَّ قَالَ: «أَيْنَ عَرِيشُكَ يَا جَابِرُ؟»، فَأَخْبَرتُهُ، فَقَالَ: «افْرُشْ لِي فِيهِ»، فَفَرَشْتُهُ، فَدَخَلَ فَرَقَدَ ثُمَّ اسْتَيْقَظَ، فَجِئْتُهُ بِقَبْضَةٍ أُخْرَى فَأَكَلَ مِنْهَا، ثُمَّ قَامَ فَكَلَّمَ اليَهُودِيَّ فَأَبَى عَلَيْهِ، فَقَامَ فِي الرِّطَابِ فِي النَّخْلِ الثَّانِيَةَ، ثُمَّ قَالَ: «يَا جَابِرُ جُدَّ وَاقْضِ»، فَوَقَفَ فِي الجَدَادِ، فَجَدَدْتُ مِنْهَا مَا قَضَيْتُهُ، وَفَضَلَ مِنْهُ، فَخَرَجْتُ حَتَّى جِئْتُ النَّبِيَّ ﷺ فَبَشَّرْتُهُ، فَقَالَ: «أَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ»([2])، فالله سبحانه وتعالى شهد لنفسه شهادة الذّات للذّات، وشهدت الملائكة شهادة المشهد، وشهد أولو العلم شهادة دليل: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ ﴾[آل عمران: من الآية 18].

([1]) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح: كتاب أسماء الله الحسنى، ج4، ص1569.

([2]) صحيح البخاريّ: كتاب الأطعمة، باب الرّطب والتّمر، الحديث رقم (5443).

الآية رقم (7) - أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ

﴿أَلَمْ تَرَ﴾: قيل: إنّها بمعنى: ألم تعلم؛ لأنّه يتكلّم عن أشياء لم يرها سيّدنا رسول الله ﷺ، كما في سورة الفيل: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ﴾[الفيل]، ورسول الله ﷺ لم ير هذه الحادثة، فقالوا: المراد: ألم تعلم، وهناك قول: إنّها بمعنى: (ترى)، ولو أراد الله سبحانه وتعالى العلم لقال: ألم تعلم، والحكمة من استخدام ترى هنا؛ ليدلّ على أنّ إخبار الله سبحانه وتعالى لرسوله ﷺ أصدق من رؤية عينه، فمجرّد أن يخبره ربّه سبحانه وتعالى يكون كأنّه رأى بعينه، لذلك قال: ﴿أَلَمْ تَرَ﴾.

﴿أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ﴾: دلّ على إحاطة علم الله سبحانه وتعالى بكلّ شيء، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا یَعۡزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثۡقَالِ ذَرَّةࣲ فِی ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فِی ٱلسَّمَاۤءِ وَلَاۤ أَصۡغَرَ مِن ذَ ⁠لِكَ وَلَاۤ أَكۡبَرَ إِلَّا فِی كِتَـٰبࣲ مُّبِینٍ﴾[يونس: من الآية 61]، فالله سبحانه وتعالى يعلم السّموات والأرض كظرف، ويعلم المظروف فيه، فالأرض في ذاتها عجيبة الخلق والتّكوين، وما فيها من مخلوقات أعجب منها، وقلنا: إنّ المظروف أنفس من المظروف فيه، وعلم الله سبحانه وتعالى لا يقتصر على المشاهد، بل يعلم ما غاب عنّا من ملكوت السّموات والأرض: ﴿وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾[هود: من الآية 123]، ومن إحاطة علمه سبحانه وتعالى:

﴿مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ﴾: فالله سبحانه وتعالى يعلم ما في السّموات وما في الأرض من مخلوقات، وقد يقول قائل: يعلمها لأنّها مخلوقاته وصنعة يده فقال: لا، بل ويعلم المحدثات والمستجدّات الّتي تحدث في كونه فقال: ﴿مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ﴾، والنّجوى من الأغيار، فهي سرّ بين ثلاثة فأكثر، فالنجوى لا تكون إلّا سرّاً نسترها عن الغير، لذلك قال: ﴿ثَلاثَةٍ﴾، فهي أوّل الأعداد الّتي يحتمل فيها النّجوى، وفي الحديث الشّريف قال ﷺ: «لَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الثَّالِثِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُحْزِنُهُ»([1])، فنجوى الاثنين تثير الشّكّ والرّيبة في نفس الثّالث، أمّا الحقّ سبحانه وتعالى فيعلم كلّ شيء فهو مُطَّلع على السّرائر.

﴿وَلا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا﴾: وهكذا استوعبت الآية الاحتمالات والأعداد جميعها.

﴿ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾: لأنّ الحفظة سجّلت عليهم أعمالهم، ويوم القيامة سيُعطى كلّ إنسان كتابه ليقرأ ما فيه ويكون شاهداً عليه، قال جل جلاله: ﴿اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ﴾[الإسراء].

([1]) سنن التّرمذيّ: أبواب الأدب، باب ما جاء لا يَتَنَاجَى اثنان دون ثالثٍ، الحديث رقم (2825).

الآية رقم (8) - أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاؤُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ

﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى﴾: الّذين نهوا عن النّجوى هم جماعة من اليهود والمنافقين.

﴿ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ﴾: يعودون إلى التّناجي.

﴿وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ﴾: فكأنّ النّجوى في ذاتها ليست محرّمة، إنّما المحرّم منها هو التّناجي بالإثم والعدوان ومعصية الرّسول، أمّا التّناجي في الخير فلا شيء فيه، كالّذي يُخفي صدقته حتّى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه.

﴿وَإِذَا جَاؤُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ﴾: الحقّ سبحانه وتعالى يفضح نفاقهم ويُخبر رسوله بسوء نيّاتهم، فالتّحيّة منهم لرسول الله ﷺ دليل النّفاق: ﴿حَيَّوْكَ﴾، و: ﴿بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ﴾ دليل المخالفة؛ لأنّهم جاؤوا بتحيّة غير تحيّة الله عز وجلَّ: السّلام عليكم، فكانوا يقولون لرسول الله ﷺ: السّام عليكم، تقول السّيّدة عائشة رضي الله عنها: دَخَلَ رَهْطٌ مِنَ اليَهُودِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكُمْ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَفَهِمْتُهَا فَقُلْتُ: وَعَلَيْكُمُ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ، قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَهْلاً يَا عَائِشَةُ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ»، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوَلَـمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «قَدْ قُلْتُ: وَعَلَيْكُمْ»([1])، والسّام؛ أي: الموت، جاؤوا بكلمة قريبة في نطقها من السّلام، وقد جعل الله عز وجلَّ المنافقين في الدّرك الأسفل من النّار، فهم أسوأ حالاً من الكافرين؛ لأنّ الكافر كما بيّنا واضح لسانه مع قلبه، أمّا المنافق فيُظهِر الإيمان ويُبطِن الكفر، وقولهم لرسول الله ﷺ: السّام عليكم، مثل قول إخوانهم اليهود: حنطة، لـمّا قال الله سبحانه وتعالى لهم: ﴿وَقُولُوا حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ﴾[البقرة: من الآية 58]؛ أي: يا ربّ حطّ عنّا خطايانا، فقالوا: حنطة، سخرية واستهزاء.

﴿وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ﴾: هذا القول قالوه في أنفسهم ولم يقولوه لنا، ومع ذلك أخبرهم به رسول الله ﷺ، فكان عليهم أن يأخذوا منه عبرة وعظة وأن يتساءلوا: من أخبر محمّداً ﷺ بهذا، وقد قلناه في أنفسنا؟

﴿لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ﴾: يعني: هلّا يعذبنا الله عز وجلَّ،كأنّهم يطلبون العذاب.

﴿حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ﴾: أي: يوم القيامة.

﴿حَسْبُهُمْ﴾: كافيهم.

﴿يَصْلَوْنَهَا﴾: يدخلونها، ويقاسون حرّها.

﴿فَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾: بئس المرجع وبئس النّهاية.

ثمّ يخاطب الحقّ سبحانه وتعالى جماعة المؤمنين، ويعلّمهم كيف تكون النّجوى:

([1]) صحيح البخاريّ: كتاب الأدب، باب الرّفق في الأمر كلّه، الحديث رقم (6024).

الآية رقم (9) - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ﴾: الحقّ سبحانه وتعالى يجمع في هذه الآية بين النّهي عن النّجوى المذمومة والتّحذير منها، وهي ما كانت بالإثم والعدوان ومعصية الرّسول.

﴿بِالإِثْمِ﴾: الإثم: هو الشّيء الخبيث الّذي يستحي منه النّاس.

﴿وَالْعُدْوَانِ﴾: شراسة الاعتداء والكيد والتّدبير السّيّء.

وما داموا يُخفون كلاماً في سرّهم، فلا بدّ أنّه مخالف للفطرة السّليمة، ولو كان حقّاً لقالوه علانية، فالنّجوى دليل عليهم.

﴿وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾: قلنا: إنّ الجمع بين الأضداد يوضّحها، فلا مانع من النّجوى إن كانت في سبيل البرّ والتّقوى وفي سبيل نصرة وعزّة المسلمين، فهذه الأمور محمودة.

﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾: اتّقوا الله بتنفيذ أوامره واجتناب نواهيه فهو سبحانه وتعالى:

﴿الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾: هذا أسلوب قصر؛ أي: إليه وحده تحشرون، وتجمعون للحساب يوم القيامة.