﴿لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾: (لا) هنا نافية، تعني أنّك أبداً لا تجد أهل الإيمان يوادّون ويوالون أهل الكفر والنّفاق الّذين يحادّون الله ورسوله؛ لأنّهما طرفان نقيضان لا يلتقيان.
﴿يُوَادُّونَ﴾: من المودّة والمحبّة، وهي أمرٌ قلبيّ.
﴿حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾: جعل نفسه في جانب والله ورسوله في جانب، فحرم نفسه من صلته بالله عز وجلَّ وقربه منه سبحانه وتعالى، وهذه صفة الكفّار والمنافقين.
وهذه الآيات الّتي تمحَّكَ عندها المستشرقون الّذين يحاولون أن يتلمّسوا في القرآن الكريم الخطأ، قالوا: كيف نجمع بين هذه الآية وبين قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ۖ﴾ [لقمان: من الآية 15]، فالأولى تأمر بعدم مودّتهم: ﴿لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾، وهذه تأمر بمصاحبتهم بالمعروف؟ وهذه الشّبهة ناتجة عن عدم فهمهم لمعاني القرآن الكريم وعدم تذوّقهم للّغة، ففرق بين المودّة والمصاحبة بالمعروف، المودّة محبّة قلبيّة وودّ، وهذه لا يمكن أن تكون للمنافق أو الكافر، أمّا المعاملة بالمعروف والجميل الّذي يجب أن يُكافأ به الوالدان وإن كانا على الإشراك وعلى الكفر فخير وجميل تسديه لهما حتّى إن كانا كافرين؛ لأنّهما سبب وجودك المباشر، واحترامهما هو احترام سبب وجود الإنسان وهو الله سبحانه وتعالى، لذلك قال سبحانه وتعالى: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾[النّساء: من الآية 36].
﴿وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ﴾: جمع مراتب ودرجات القرابة كلّها، والعشيرة: هم المعاشرون للإنسان غير هؤلاء المذكورين.
ثمّ وصف الله سبحانه وتعالى أهل الإيمان الّذين ينطلقون في علاقاتهم من منطلق الإيمان، ولا يقدّمون عليه أحداً.
﴿أُوْلَئِكَ﴾: أي: المؤمنون.
﴿كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ﴾: يعني: ثبّته في قلوبهم فلا يفارقهم.
﴿وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ﴾: ليست هي الرّوح الأولى سبب الحياة، إنّما يؤيّد إيمانهم بروح أخرى منه سبحانه وتعالى روح خاصّة من نوره جل جلاله وتوفيقه، ومن ذلك قوله سبحانه وتعالى في العبد الصّالح: ﴿آتَيْناهُ رَحْمَةً مِن عِنْدِنا وعَلَّمْناهُ مِن لَدُنّا عِلْمًا﴾[الكهف: من الآية 65]، يعني: زيادة عن الرّسالة، ومنه قوله سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا﴾ [الأنفال: من الآية 29]؛ أي: إن تتّقوا الله سبحانه وتعالى بتنفيذ أوامره، واجتناب نواهيه الّتي جاءت في القرآن الكريم يعطكم فرقاناً آخر، يعني نوراً من عنده جل جلاله، وإشراقاً خاصّاً تفرّقون به بين الحقّ والباطل، فهذه تجلّيات خاصّة من الله سبحانه وتعالى لأهل الإيمان، لذلك قال العبد الصّالح: ﴿وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي﴾[الكهف: من الآية 82]، فهناك روح للمادّة تحيا بها الأجساد وهي الرّوح الّتي نفخها الله سبحانه وتعالى في آدم وهو ما يزال في مرحلة الطّين، وهناك روح للقيم وللمعنويّات، روح تحيا بها القلوب، وهذه الّتي قال الله سبحانه وتعالى فيها: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا﴾[الشّورى: من الآية 52]، لذلك وقف المستشرقون أيضاً عند قوله سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾[الأنفال: من الآية 24]، فقال: كيف يخاطبهم بهذا وهم أحياء بالفعل؟ نقول: يحييكم؛ أي: حياة القلوب وحياة القيم، لذلك قال جل جلاله: ﴿نُورٌ عَلَىٰ نُورٍ﴾[النّور: من الآية 35].
ثمّ يذكر جزاء هؤلاء:
﴿وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ﴾: فيدخلهم الجنّات الّتي هذه صفتها؛ لأنّه رضي عن أفعالهم كلّها، ومن رضي الله عنه أحلّ عليه رضوانه فلا يسخط عليه أبداً، وهذا الرّضوان فضل من الله سبحانه وتعالى وزيادة بعد ما نالوه من نعيم الجنّة، وقد ورد في الحديث القدسيّ بعد أن يدخلهم الجنّة ويرون من ألوان النّعيم ما لا يتصوّرون فوقه يخاطبهم الله سبحانه وتعالى ويقول لهم كما أخبر ﷺ: «إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ لِأَهْلِ الجَنَّةِ: يَا أَهْلَ الـجَنَّةِ؟ فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ، فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لَا نَرْضَى وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَـمْ تُعْطِ أَحَداً مِنْ خَلْقِكَ، فَيَقُولُ: أَنَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالُوا: يَا رَبِّ، وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي، فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَداً»([1]).
﴿وَرَضُوا عَنْهُ﴾: رضوا عن عطائه وفضله، أو رضوا عنه فرضي عنهم وهذا الكلام أزلاً.
وكلمة: ﴿جَنَّاتٍ﴾ جمع، تعني أنّ المؤمن في الآخرة له أكثر من جنّة، بدليل قوله سبحانه وتعالى في سورة الرّحمن: ﴿وَلِمَن خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ﴾[الرّحمن]، وقالوا: ﴿جَنَّاتٍ﴾ ؛ لأنّه سبحانه وتعالى يخاطب متعدّدين، فكلّ واحد منهم له جنّة، أو لأنّه سبحانه وتعالى يخاطب الثّقلين؛ الجنّ والإنس، ولكلٍّ جنّة.
﴿أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾: هناك قال في الكفّار والمنافقين: ﴿أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ﴾، وحكم عليهم: ﴿أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾، وهنا يتكلّم عن أهل الإيمان: ﴿أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ﴾، وحكم عليهم: ﴿أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾، ولنا أن نوازن بين الحزبين وأن نفرّق بينهما، هناك خسارة وهنا فلاح، فحزب الله سبحانه وتعالى هم الّذين تحزّبوا لمنهج الله سبحانه وتعالى، واجتمعوا عليه، وناصروه، وأيّدوه، ودافعوا عنه.
﴿أَلا﴾: استخدم هنا أيضاً أداة التّنبيه: ﴿أَلا﴾، يعني انتبه لهذا الحكم لا تنسه ولا تغفل عنه.
﴿إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾: من الفلاح، وفلاحة الأرض لـمّا نحرثها ونعدّها للزّراعة هذا فلاح لاستبقاء الحياة المادّيّة، وهذا فلاح استبقاء نعيم الحياة الأخرى.
([1]) صحيح البخاريّ: كتاب الرّقاق، باب صفة الجنّة والنّار، الحديث رقم (6549).