الآية رقم (166) - لَّـكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلآئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا

لأنّ اليهود كانوا يحاجّون النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فالله سبحانه وتعالى لم يقل: فقط أوحينا إليك وأوحينا إلى النّبيين وذكر إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط… إلخ، لكنّه سبحانه وتعالى قال: ﴿وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا﴾: الله سبحانه وتعالى يشهد بما أنزل إليك، فقد أنزل إليك القرآن الكريم وحياً من عنده سبحانه وتعالى عن طريق جبريل عليه السَّلام.

﴿أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ﴾: بأمره؛ أي القرآن الكريم وهو كلام الله سبحانه وتعالى وصفةٌ من صفاته جلّ وعلا.

﴿وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ﴾: إيّاك أن تعتقد أنّ هناك استدراكاً على الله تبارك وتعالى أي إن لم تصدّق أنّ الله سبحانه وتعالى يشهد فالملائكة تشهد، لا، هذه ليست كما للبشر.

 ﴿وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا﴾: بيّن لك أنّه يكفي به بلا شكٍّ شهيداً، لكن الملائكة يشهدون بأنّهم هم طريقٌ لإنزال الوحي على قلب الرّسل عليهم السَّلام.

الآية رقم (156) - وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا

البهتان: هو الكذب الكبير، والله سبحانه وتعالى يقول عن الكذب الواضح: إنّه عظيمٌ، فقد افتروا على السّيّدة مريم العذراء عندما اتّهموها بشرفها وتعرّضوا لها، وكفروا وقالوا من الأقوال ما لا يستطيع المرء أن يكرّره أو يتقبّله، فالسّيّدة مريم كان لها ماضٍ وتاريخٌ فاضلٌ، حيث تربّت بالمحراب قبل أن تحمل بالسّيّد المسيح عليه السَّلام، ورد في سورة (آل عمران) قوله سبحانه وتعالى: ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ۖ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا ۖ قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا ۖ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ۖ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [آل عمران]، فمنذ كانت طفلةً وهي تذكر الله سبحانه وتعالى في المحراب، ﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ ۖ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ۖ إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ * فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَىٰ مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ﴾ [آل عمران]، مريم الطّفلة العظيمة الفاضلة أوحت لنبيٍّ من الأنبياء بأمرٍ مهمٍّ، وهو أنّ الله سبحانه وتعالى يرزق من غير حسابٍ، أي من غير أسبابٍ، وهو كان حالُه كما أخبرنا الله سبحانه وتعالى: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ۖ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا﴾ [مريم]، فقد تمّ الإيحاء من هذه الطّفلة العظيمة مريم، ومع تاريخها النّاصع والفاضل اتّهمها اليهود في شرفها وقالوا عليها هذا البهتان العظيم.

﴿وَبِكُفْرِهِمْ﴾: لأنّ مَن يقول هذا الكلام على مريم فقد كفر بالله تبارك وتعالى.

الآية رقم (167) - إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ قَدْ ضَلُّواْ ضَلاَلاً بَعِيدًا

﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾: أي ستروا وجود الله سبحانه وتعالى، كما قلنا: الكافر في التّعريف اللّغويّ والاصطلاحيّ الشّرعيّ؛ هو الإنسان الّذي ستر وجود الله سبحانه وتعالى أي لا يؤمن بوجود إلهٍ خالقٍ للبشر والكون.

﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ﴾:  لهم مشكلتان:

   – الأولى: بأنّهم ستروا وجود الله سبحانه وتعالى.

   – الثّانية: أضلّوا غيرهم بأنّهم صدّوا عن سبيل الله سبحانه وتعالى.

 ﴿قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا﴾: لأنّ البعد بينهم وبين المصدر بُعدٌ زمنيٌّ، مسافةٌ طويلةٌ، فالضّلال يصل للأبناء والأحفاد والأجيال الآتية، لذلك قد ضلّوا ضلالاً بعيداً، فهم لم يكتفوا بأنّهم كفروا وستروا وجود الله سبحانه وتعالى، بل أيضاً أضلّوا غيرهم ومنعوا النّاس عن السّير في سبيل الله سبحانه وتعالى.

الآية رقم (157) - وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا

الواو هنا واو العطف، أي وبكفرهم وبقولهم، يعطف الأمر على أقوال اليهود: ﴿وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ﴾، يردّ المولى سبحانه وتعالى على اليهود بما قالوه وبما ادّعوه من قتلهم وصلبهم للسّيّد المسيح عليه السَّلام، وليس مجالنا هنا أن نحاجج أحداً، ولا أن نتعدّى على عقائد أحدٍ، ولكن نريد أن يتّضح منطق الإيمان، ما نؤمن به ونعتقد به هو تكريمٌ وتعظيمٌ للسّيّد المسيح، فالمسيح عليه السَّلام لم يُصلَب، وليست القضيّة هنا قضيّة نقاشٍ ومحاججةٍ مع العقائد الأخرى، لكن لنبيّن لهم بأنّ عقيدتنا تقول: ﴿شُبِّهَ لَهُمْ﴾ فاعتقدوا أنّهم قتلوه أو صلبوه، ولكنّ الله سبحانه وتعالى رفعه إلى السّماء، وهذا تكريمٌ من العقيدة الإسلاميّة ونظرٌ عظيمٌ لمكانة السّيّد المسيح عليه السَّلام، وقد قال سبحانه وتعالى عنه: ﴿فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا * فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا * فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا ۖ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا * فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ ۖ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ ۖ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا﴾ [مريم]، حملته بالأمر الإلهيّ ﴿كُن

الآية رقم (168) - إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً

لا تقل: الله سبحانه وتعالى لم يهدني ولم يعطني الطّريق ولا يغفر لي، فالّذين ستروا وجود الله سبحانه وتعالى وظلموا أنفسهم وظلموا غيرهم بكفرهم منع الله سبحانه وتعالى الهداية عنهم ولم يعنهم عليها.

الآية رقم (158) - بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا

القرآن الكريم لم يقل: إنّ السّيّد المسيح عليه السَّلام قد مات، قد يقول قائلٌ: كيف يحصل هذا؟ هناك ضجّةٌ في ميلاده فمن الطّبيعيّ أن تكون هناك ضجّةٌ فيما يتعلّق بوفاته، ضجّةٌ في ميلاده حيث كانت ولادته بمعجزةٍ، وارتفع بمعجزةٍ، ارتفع بــــ: ﴿كُن﴾ كما وُلِد بــــ: ﴿كُن﴾، بالنّسبة للمسلمين هذه عقيدةٌ، فكلّنا يعلم أنّ القرآن الكريم ينصّ على أنّ السّيّد المسيح عليه السَّلام رُفع إلى السّماء، وهذا تكريمٌ له، ونحن نعيش مع الإخوة النّصارى كمواطنين متساوين في الحقوق والواجبات، لكن المهمّ هل يوجد انتقاصٌ من قدر السّيّد المسيح عليه السَّلام أو أنّه تعظيمٌ وتكريمٌ وتشريفٌ له بأنّ الله سبحانه وتعالى أثبت غير ما قاله اليهود بافترائهم على السّيّدة مريم وقولهم بهتاناً عظيماً؟ لقد أثبت منذ أن كانت مريم طفلةً كيف كانت قدّيسةً في المحراب، وأثبت أّنها ولدت من دون زوجٍ، فجبريل عليه السَّلام نفخ فيها من روح الله سبحانه وتعالى فكان الميلاد العظيم المعجزة للسّيّد المسيح عليه السَّلام، فنحن آمنّا بالله سبحانه وتعالى وبالقرآن الكريم وبكلّ ما جاء به، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا﴾ [النّساء: من الآية 122]، فعقيدة المسلم بالنّسبة للسّيّد المسيح عليه السَّلام واضحةٌ ولا نخفيها على أحدٍ، وموجودةٌ في القرآن الكريم، والجميع يقدّر ويحترم ما نزل في كتاب الله سبحانه وتعالى.

الآية رقم (169) - إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرًا

إلّا طريقاً واحداً هم الّذين اختاروه وليس الله سبحانه وتعالى الّذي أخذهم إليه، اختاروه بكفرهم وبظلمهم، والله سبحانه وتعالى عندما يتحدّث عن الظّلم يقول في الحديث القدسيّ: «يا عبادي إنّي حرمت الظّلم على نفسي وجعلته بينكم محرّماً فلا تظالموا»([1])، والنّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «ودعوة المظلوم يرفعها فوق الغمام، وتفتح لها أبواب السّماء، ويقول الرّبّ عزَّ وجلّ: وعزّتي لأنصرنّك ولو بعد حين»([2])،  قضيّة الظّلم هي قضيّةٌ كبيرةٌ جدّاً، والظّلم يعني إبعاد الإنسان عن حقّه.

 


([1]) صحيح مسلم: كتاب البرّ والصّلة والآدب، باب تحريم الظّلم، الحديث رقم (2577).
([2]) سنن التّرمذيّ: كتاب صفة الجنّة، باب صفة الجنّة ونعيمها، الحديث رقم (2526).

الآية رقم (149) - إِن تُبْدُواْ خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوَءٍ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا

قد بيّن فوراً قضيّة العفو، ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [آل عمران: من الآية 134]، فالله سبحانه وتعالى لا يحبّ الجهر بالسّوء من القول ومع أنّه أباح ذلك لمن ظُلم حصراً، لكنّه طلب الإحسان، وبيّن بأنّه يحبّه ويحبّ العفو من قِبل الإنسان.

﴿إِن تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ﴾: الظّاهر والخفي هو من الأغيار، ويكون للبشر الّذين يتغيّرون ويتبدّلون وتتبدّل أحوالهم، أمّا على الله سبحانه وتعالى فلا يوجد ما هو ظاهرٌ ولا يوجد ما هو خافٍ، وهو سبحانه وتعالى يعلم السّرّ وأخفى، وهو عليمٌ بما في الصّدور.

﴿أَوْ تَعْفُوا عَن سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا﴾ حبّب الله سبحانه وتعالى إلينا العفو وجعله هو المطلوب، لكن عند القدرة وليس عند المذلّة، فجاء تذييل الآية بالقدرة مع العفو، فعندما يكون الإنسان قادراً على العفو فذلك أقرب للتّقوى، والإسلام دين لطفٍ لا عنفٍ، دينٌ يُطالب بالعفو. وقضيّة العفو لم تكن موجودةً في تاريخ البشريّة قبل النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فالنّزاعات والحروب بين البشر كالفرس والرّوم والقبائل العربيّة كانت تبقى حتّى الإبادة أو أخذ السّبي والعبيد، ولكن عندما جاء الإسلام قال النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «اذهبوا فأنتم الطّلقاء»([1])، وعفا عن الجميع استجابةً لأمر الله سبحانه وتعالى.

 


([1]) سنن البيهقيّ الكبرى: كتاب السّير، باب فتح مكّة حرسها الله تعالى، الحديث رقم (18055).

الآية رقم (148) - لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا

هنا يتبيّن لنا بأنّ الإسلام يحارب كلّ ما يؤذي الإنسان أو يضرّه أو يسيء إليه، سواءً أكان مادّياً بجسده أم بفعلٍ من الأفعال، وحتّى السّوء من القول يحرّمه الإسلام ولا يرضاه لأتباعه.

أراد الله سبحانه وتعالى أن يحمي آذان المجتمع من أقوال السّوء بشكلٍ عامٍّ، وأن يتربّى الطّفل في أسرته وينشأ وهو يستمع دائماً إلى أحسن الأقوال حتّى لا تصدر عنه إلّا أحسن الأفعال. فاللّغة بنت المحاكاة والإنسان لا يتحدّث إلّا بما يسمع، فإذا سمع الطّفل في بيته وأسرته الكلام البذيء والسّيّء فلا بدّ أن ينطق به، ولو عدنا تدريجيّاً حتّى نصل لأبي البشر آدم عليه السَّلام -وهو أوّل مخلوقٍ على وجه الأرض- وتساءلنا: كيف تكلّم؟ لا بدّ أنّه سمع من الله عزَّ وجل عندما قال جلّ وعلا: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ [البقرة], وأوّل ما يتمّ تعلّمه هو الأسماء، فعندما نريد تعليم الكلام للطّفل نقول له: هذا كوبٌ.. هذه شجرةٌ.. هذه محفظةٌ.. هذه نظّارةٌ، وبعدها تلحق بالأسماء الأفعال، والله سبحانه وتعالى علّم آدم عليه السَّلام الأسماء كلّها -هذه شمسٌ، وهذا قمرٌ، هذه سماءٌ، هذه أرضٌ..- وبعد أن سمعها تكلّم عليه السَّلام، والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿لَّا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِمَ ۚ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا﴾، حمايةً للمجتمع من التّعرّض للسّوء من القول، يقول النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت»([1])، فأين أولئك الّذين يتحدّثون بأنّ الإسلام دين إرهابٍ أو دين عنفٍ أو دين قسوةٍ أو دين تطرّفٍ؟! كيف يصحّ ذلك؟ إذا كان الإسلام لم يحرّم فقط الدّماء والأموال والنّفس البشريّة: ﴿مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا﴾ [المائدة: من الآية 32]،  بل حرّم أيضاً الجهر بالسّوء من القول، لكي لا يعتاد الإنسان على كلمة السّوء أو يصدر عنه أيّ فعل سوءٍ بحقّ أحد، حتّى ولو كان بالنّسبة لأقرب النّاس إليه؛ لأنّه بعد ذلك سينسحب إلى باقي المجتمع.

الآية رقم (142) - إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً

يعتقد المنافقون أنّهم يخادعون الله سبحانه وتعالى، وهو خادعهم، هنا استخدم المشاكلة اللّفظيّة، لذلك لا نقول: إنّ الله سبحانه وتعالى خدّاع، لا يسمّى المولى سبحانه وتعالى إلّا بالأسماء الّتي سمّى بها نفسه، كما قال جلَّ جلاله: ﴿وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ [الأنفال: من الآية 30]، فلا تقلْ: إنّ اسماً من أسماء الله سبحانه وتعالى الماكر أو المخادع، هذه باللّغة من جنس المشاكلة اللفظيّة، والمخادعة هي التّبييت بخفاءٍ مع كذبٍ؛ فالمنافقون يخادعون الله سبحانه وتعالى أي يبيّتون بالخفاء ويكذبون، والله سبحانه وتعالى خادعهم أي يبطل تبيّيتهم.

﴿وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى﴾؛ لأنّهم في الأصل لا يهمّهم إلّا الأشكال، أن يُقال عنهم: إنّهم من المسلمين، وهم ليسوا من المؤمنين، يقومون إلى الصّلاة كسالى؛ لأنّهم لا يفهمون معنى الصّلاة بأنّها صلةٌ مع الخالق، وأخلاقٌ مع الخلق، وقد كان النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم يقول عن الصّلاة: «يا بلال، أقم الصّلاة، أرحنا بها»([1])، أمّا هؤلاء فيقولون: أرحنا منها يا بلال.

الآية رقم (143) - مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَـؤُلاء وَلاَ إِلَى هَـؤُلاء وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً

المنافقون مذبذبون؛ لأنّهم يميلون مثلما يميل الهوى معهم، فإذا كانت القوّة في هذا الطّرف فإنّهم يميلون إليه، وإن كانت في الطّرف الآخر يميلون إليه، إن كان المال في هذا الطّرف يذهبون إليه، وإن كان مع الآخر فيذهبون إليه، فهم كما قيل:

رأيتُ النّاسَ قَدْ مَالوا
ومَن لا عِنْدَهُ مالُ
رأيتُ النّاسَ قَدْ ذهَبوا
ومَن لا عِنْدَه ذهَبُ
رأيتُ النّاسَ مُنفضّة
              ومَن لا عِنْدَه فِضّة       

إلى مَن عِنْده مالُ
فعنه النّاسُ قَدْ مَالوا
إِلى مَن عِندَه ذَهَبُ
فعنه النَّاسُ قد ذَهَبُوا
إِلى مَن عِنْده فِضّة
فَعنهُ النَّاسُ مُنفضّة 

مذبذبين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، أين تكون الفضّة، أين يكون الذّهب، أين يكون المال، أين تكون القوّة، أين تكون العزّة كما يعتقدون فإنّهم يذهبون.

وكلمة ذبذب: من الذّباب الّذي يذبّ ثمّ يعود.

﴿وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً﴾؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى هداهم فاختاروا العمى على الهدى: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾ [الإنسان]، وبيّن الله تعالى لنا الطّريق والهداية، وأرشدنا إلى الطّريق، لكن إن اخترت طريق الضّلال فإنّ الله سبحانه وتعالى يعينك عليه، وإن اخترت طريق الهداية فإنّ الله تبارك وتعالى يعينك عليه، وهذا هو المقصود بقول الله جلّ وعلا: ﴿وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً﴾؛ لأنّه هو اختار الضّلال فأضلّه الله تبارك وتعالى على علمٍ.

الآية رقم (144) - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا

يقول الله سبحانه وتعالى لهم: لا تتّخذوا مشركي مكّة أولياء تطلبون الولاية منهم لاعتقادكم أنّ العزّة عندهم من دون المؤمنين.

﴿أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا﴾: سلطاناً: أي حجّةً واضحةً باتّخاذكم المشركين أولياء من دون المؤمنين، فتستوجبوا منه ما استوجبه أهلُ النّفاق الّذين وصف لكم صفتهم، وأخبركم بمصيرهم.

الآية رقم (145) - إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا

في الجنّة درجاتٌ، وللشّرك والنّفاق في النّار دركاتٌ، فالمنافقون في الدَّركِ الأسفل من جهنّم.

﴿وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا﴾: لن تجد لهؤلاء المنافقين -يا محمّد- من الله سبحانه وتعالى إذا جعلهم في الدّرك الأسفل من النّار ناصراً ينصرهم منه، فينقذهم من عذابه، ويدفع عنهم أليمَ عقابه.

الآية رقم (146) - إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا

حتّى لا يعتقد الإنسان بأنّ الأبواب قد أُغلقت، فتح الله سبحانه وتعالى باب التّوبة فقال جلّ وعلا: ﴿إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ﴾، استثنى المولى سبحانه وتعالى الّذين تابوا، لكنّه بيّن علائم التّوبة، وهي الإصلاح، أن تصلح ما أفسدتَ، وأن تكون بقلبك خالصاً لله سبحانه وتعالى ؛ لأنّ الغايات من الأحداث هي الّتي تضفي على الجوارح الإقبال على الأحداث، فيجب أن يكون الإنسان معتصماً بالله سبحانه وتعالى، مخلصاً دينه لله سبحانه وتعالى، وإخلاص الدّين لله عزَّ وجلأن يبتعد عن الرّياء وعن النّفاق بكلّ جوانبه واتّجاهاته؛ لذلك فإنّ الله سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَسَوْفَ يُؤْتِ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ هذا الأجر لن يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلاً في الدّنيا إن كانوا مؤمنين، وفي الآخرة سيكون لهم الجزاء العظيم، سيؤتيهم الأجر العظيم، وهو على قدر الـمُعطي، فدائماً العطاء ينسب إلى من يعطي، فإذا كان هذا العطاء من ربٍّ عظيمٍ كريمٍ، فيكون هذا العطاء وهذا الأجر عظيماً على قدر عظمة الـمُعطي جلَّ جلاله.

الآية رقم (147) - مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا

هنا فتح الله سبحانه وتعالى باب التّوبة؛ لأنّه لا يريد المعصيّة، ولا العصاة، ولا يريد أن يعذّب النّاس.

﴿مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ﴾: فالله سبحانه وتعالى يقول في الحديث القدسيّ: «يا عبادي لو أنّ أوّلكم وآخركم وإنسكم وجنّكم كانوا على أتقى قلب رجلٍ واحدٍ منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي، لو أنّ أوّلكم وآخركم وإنسكم وجنّكم كانوا على أفجر قلب رجلٍ واحدٍ ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، يا عبادي لو أنّ أوّلكم وآخركم وإنسكم وجنّكم قاموا في صعيدٍ واحدٍ فسألوني فأعطيت كلّ إنسانٍ مسألته ما نقص ذلك ممّا عندي إلّا كما ينقص المخيط إذا أُدخل البحر، يا عبادي إنّما هي أعمالكم أحصيها لكم ثمّ أوفيكم إيّاها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلّا نفسه»([1])، فهي ابتلاءاتٌ للنّاس، وهي أعمالٌ، من هذا المنطلق وعلى هذا الأساس: ﴿مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ﴾؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى شاكرٌ عليمٌ، وهو القائل: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ﴾ [إبراهيم: من الآية 7]، أي كلّما شكرتم كلّما زاد عطاؤه سبحانه وتعالى، وهنا قدّم الشّكر على الإيمان؛ لأنّ الشّكر يتعلّق بالنّعمة والإيمان يتعلّق بالمنعم، فالإنسان أوّلاً يرى النّعمة وبعد ذلك يؤمن بالمنعم، والله سبحانه وتعالى أرحم من كلّ البشر بالبشر؛ لأنّه خالقهم وربّهم، وما خلقهم من أجل أن يعذّبهم: ﴿مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ﴾، فالإنسان كلّما شكر كلّما زاد ما يتلقّاه من عطاء الله سبحانه وتعالى.

 


([1]) صحيح مسلم: كتاب البرّ والصّلة والآداب، باب تحريم الظّلم، الحديث رقم (2577).

الآية رقم (127) - وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاء الَّلاتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا

هناك جملتان تردان في كتاب الله سبحانه وتعالى:

– الأولى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ﴾.

– والثّانية: ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ﴾.

ما هو الفارق بينهما؟ يسألونك عن حكمٍ لم ينزل به شرعٌ من الله تبارك وتعالى، كقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ﴾ [البقرة: من الآية 222]،  فيأتي الجواب: ﴿قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ﴾ [البقرة: من الآية 222]، ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ﴾ [البقرة: من الآية 189]، ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ﴾ [البقرة].

أمّا ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ﴾ فهو السّؤال عن حكمٍ قد نزل وهو موجودٌ، ولكنّهم يريدون أن يستوضحوا عن هذا الحكم، ويعلموا عنه بالتّفصيل، فالفارق بين يسأل ويستفتي أنّ السّؤال هو عن أمرٍ لم يرد، أمّا الاستفتاء أو الفُتية تكون في بيانٍ لحكمٍ نازلٍ، لذلك عندما يقال: إنَّ أحدهم أفتى بأمرٍ، يكون قد بيّن حكم الله سبحانه وتعالى في قضيّةٍ ما، والحكم موجودٌ مُسبقاً.

﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء﴾: يسألون عن موضوع النّساء بشكلٍ عامٍّ.

﴿قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ﴾: يبيّن ويوضّح لكم ويرشدكم فيهنّ.

الآية رقم (138) - بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا

المنافق يُظهِر شيئاً، ويبطن غير الحقيقة وغير ما يظهر أمام النّاس، وله اتّجاهان ووجهان، وهو أشدّ إيذاءً وإيلاماً في المجتمع من العدوّ الظّاهر؛ لأنّ العدوّ الظّاهر ترى عداوته، أمّا المنافق فإنّه ذو وجهين، لذلكَ فهو حريٌّ عند الله سبحانه وتعالى ألّا يكون وجيهاً. وقد أفرد القرآن الكريم الكثير من الآيات حول داءٍ عضالٍ يصيب المجتمعات وهو النّفاق، فهو خطرٌ كامنٌ داخل المجتمعات الإنسانيّة، الّتي إمّا أن يكون فيها عدوٌّ أو صديقٌ أو منافقٌ، فالصّديق معروفٌ، والعدوّ عداوته ظاهرةٌ معروفةٌ يحتاط الإنسان منها، أمّا المنافق فهو الخطر الكامن داخل الجسد، والّذي يُبدي شيئاً ويخفي شيئاً آخر.

كلمة منافق جاءت من كلمة حيوانٍ صحراويّ اسمه نافقاء اليربوع، وهو حيوانٌ صحراويٌّ مخادعٌ يدخل من بابٍ ويخرج من بابٍ، ديدنه الخداع، والمنافق يخدع المجتمع، وقبل خداعه للمجتمع فهو يخدع نفسه، لذلك قال المولى سبحانه وتعالى: ﴿بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾: البشارة تكون بالشّيء السّارّ، والإنذار يكون بالشّيء السّيّء، وعندما تبشّر فأنت إذاً تبشّر بخيرٍ، ولكنّ المولى سبحانه وتعالى استخدم هنا أسلوب التّهكّم والسّخريّة بهم؛ لأنّهم يعتقدون أنّهم يخادعون الله سبحانه وتعالى. كما تقول إذا جاءك إنسانٌ معروفٌ بالبخل: أهلاً بك يا حاتم الطّائي، فمن المعروف أنّه تهكّمٌ، وهنا يتهكّم الله سبحانه وتعالى بالمنافقين فيقول: ﴿بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾، أي أنّ العقاب سيكون أليماً في الآخرة على نفاقهم ومخادعتهم.

الآية رقم (128) - وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا

يعالج القرآن الكريم الآن دخائل النّفس والعلاقة الزّوجيّة بين الزّوج والزّوجة، والإسلام وضع عنواناً للزّواج هو من أرقى العناوين الّتي لا يعرفها الغرب المتبجّح الّذي يتحدّث عن حقوق الإنسان، وأولئك الّذين يحاولون أن يتهجّموا على الدّين بحجّة أنّ الدّين هو التّخلّف والإرهاب ومصدر التّطرّف وكلّ الشّرور حسب زعمهم، والحقيقة تختلف تماماً، الإسلام مصدر الخير والأديان جاءت من أجل مصلحة الإنسان، وهنا يضع ضوابط للعلاقة الزّوجيّة بين المرأة والرّجل: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الرّوم]، جعل المودّة في بداية الزّواج وهي الحبّ ووداد القلب، وبعد مرور عدّة سنواتٍ على الزّواج عندما تكبر المرأة وتحمل وتلد وتُرضع وتعمل وتفني نفسها في سبيل زوجها وأولادها، فالرّحمة يجب أن تكون عنواناً للعلاقة الزّوجيّة، والرّحمة هي منطلق كلّ خيرٍ بين الرّجل والمرأة، أن تكون المرأة رحيمةً بزوجها والزّوج رحيماً بزوجته، لذلك وضع الإسلام عدّة قواعد للعلاقة بين الرّجل والمرأة ومنها هذه القاعدة: ﴿وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا﴾، والنّشوز: هو الخروج عن الأمر المألوف، النّفور؛ أي نفور الرّجل من المرأة، ﴿أَوْ إِعْرَاضًا﴾: أعرض عنها، ﴿فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا﴾: بداية للتّفرقة أو الطّلاق أو لنشوز الرّجل عن المرأة أو لإعراض الرّجل عن المرأة أهمّ شيءٍ هو الصّلح.

الآية رقم (139) - الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا

دائماً سبب النّفاق الأساسيّ أنّ المنافقين يبتغون شيئاً ما، يحصلون عليه ممّن ينافقون لهم، ففي المدينة المنوّرة كانت فئة المنافقين الّذين ينافقون لمشركي مكّة يقولون لهم: نحن معكم ولكنّنا داخل الجسد الإسلاميّ لننقلَ لكم أخبارهم، فكانوا يبدون شيئاً ويكتمون أشياء أخرى في أنفسهم، وقد اتّخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين ابتغاءً للعزّة عندهم، والعزّة متعدّدةٌ: إمّا أن تكون العزّة بالأسباب، أو العزّة بالغنى، أو بالقوّة أو الجاه، فينافق الإنسان طمعاً، أو يُنافق بسبب جهله، فنجد أناساً تُنافق للأغنياء، وأناساً تُنافق لأصحاب السّلطات، وأناساً تُنافق لأصحاب الجاه، وأناساً تُنافق لأصحاب القوّة، ماذا يعني أنّهم ينافقون؟ أي أنّهم لا يقولون الحقيقة، ويبدون غير ما يكتمون، والنّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم سهّل لنا مهمّة معرفة المنافقين فقال: «آية المنافق ثلاث، إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان»([1])، وفي روايةٍ: «وإذا خاصم فجر»([2])، فهذه العناصر هي الّتي توضّح طبيعة المنافق، فهو إذا حدّث كذب؛ لأنّه يبتغي العزّة لمن يعتقد أنّه يملك القوّة والجاه والسّلطة، وهو مخطئٌ في ذلك؛ لأنّ الإنسان في الحياة الدّنيا هو من الأغيار، فصاحب السّلطة أو المال أو الجاه أو القوّة اليوم يكون غنيّاً وغداً قد يكون فقيراً، اليوم يكون بصحّة وغداً قد يكون مريضاً، اليوم قد يكون عزيزاً وغداً قد يكون ذليلاً، اليوم قد يكون له منصبٌ وغداً يكون خارج المنصب، بسبب هذه العناصر يبتغي هؤلاء العزّة عند مَن يُنافقون له.

الآية رقم (129) - وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا

كانت الآيات في بداية سورة (النّساء): ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ﴾ [النّساء]، وقد فسّرت هذه الآيات بأنّه يجب علينا ألّا نأخذ إباحةً وندع إلزاماً في الدّين، فمعظم المشكلات الّتي نقع فيها في تعاملنا مع ديننا بأنّنا نأخذ إباحةً وندع إلزاماً، فالله سبحانه وتعالى أباح لك الميراث لكنّه ألزمك بالمساواة والوصاية وغيرها…، وموضوع التّعدّد جاء ضمن حلٍّ لمشكلةٍ كانت قائمةً، وكان التّعدّد كبيراً وتحدّثنا عنه، وهنا يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ﴾  وهذا العدل هو الميل القلبيّ والدّليل على ذلك تتمّة الآية: ﴿فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ﴾ تميلوا ميل قلبٍ، كما كان يقول صلَّى الله عليه وسلَّم: «اللّهمّ هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك»([1]). بالنّسبة للتّعدّد، المطلوب هو العدل، ﴿فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ﴾ أي أن يميل الإنسان كلّ الميل باتّجاه زوجةٍ ويترك الأخرى وهي معلّقةٌ من غير أن يطلّقها.

﴿وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾: نلاحظ التّأكيد وتكرار كلمتين اثنتين وهما تصلحوا وتتّقوا، الإصلاح والتّقوى، التّقوى جماع كلّ خيرٍ، والإصلاح هو رأب ما فسد وإعادة الأمور إلى نصابها ومجراها، فإذاً لا يطلب الدّين من الإنسان العنف وإنّما يطلب منه اللّطف.

 


([1]) سنن أبي داود: كتاب النّكاح، باب في القسم بين النّساء، الحديث رقم (2134).