يُسلِّي الحقّ سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم ويُطيِّب خاطره، ويبيّن له وهو في شدّةٍ بأنّ سنّته عز وجل في الرّسل جميعاً أنّه جل جلاله ما أرسل رسولاً وخذله أبداً، وأنّ النّاس سيستنكرون ويجحدون، وما كانت الشّدّة في رحلة وموكب الرّسالات إلّا تصفيةً لنفوس المؤمنين، وتمحيصاً لهم، وتصحيحاً للعقيدة، حتّى لا يبقى إلّا المؤمن الحقّ الّذي يتحمّل مسؤوليّة الرّسالة والدّفاع عنها، لذلك يقول سبحانه وتعالى مخاطباً نبيّه صلى الله عليه وسلم:
﴿فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ﴾: لا تحزن يا محمّد، والحزن: أسف النّفس على عدم تحقيق ما يتمنّى الإنسان وطُروء ما يفسد، فَإِنْ حَزِن رسول الله صلى الله عليه وسلم وانقبضَتْ نفسه، يُسلِّيه الّذي أرسله؛ لأنّه سبحانه وتعالى يحصي عليهم كلّ شيءٍ، ويعلم ما يُسِرُّون وما يعلنون.
﴿ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ﴾: لها معنيان:
1- الّذين واجهوا رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا قسمين: القسم الأوّل واجهه بشجاعةٍ، فأعلن بلسانه ما في قلبه من أنّه لا يؤمن به، وهؤلاء هم الكَفَرة، والقسم الثّاني آمن بلسانه وكتم الكفر في قلبه، وهؤلاء هم المنافقون، فمعنى: ﴿مَا يُسِرُّونَ﴾؛ أي من النّفاق، ﴿وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ من الكفر.
2- أو: ﴿مَا يُسِرُّونَ﴾ من الإيمان الحقيقيّ بك، وأنّك رسولٌ وأمينٌ وصادقٌ، ﴿وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ من الكفر، بدليل قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا﴾ [النّمل: من الآية 14]، بدليل أنّهم لم يُكذِّبوا القرآن الكريم، ولم يعترضوا عليه، إنّما اعتراضهم أنْ ينزل على سيّدنا محمّد صلى الله عليه وسلم بالذّات، لذلك قالوا كما حكى عنهم القرآن الكريم: ﴿وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ [الزّخرف: من الآية 31]، لذلك قال سبحانه وتعالى في آيةٍ أخرى: ﴿وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا﴾ [يونس: من الآية 65]، بعضهم فَهِمَ أنّ عبارة: ﴿إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا﴾ هي قول الكافرين، لكن كيف يقولها الكافر؟ إنّما قالها الله سبحانه وتعالى تذييلاً لقوله: ﴿وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ﴾ لماذا؟ لأنّ العزّة لله سبحانه وتعالى جميعاً، وهم ليس لهم أيّ قيمةٍ.
بعد أن تكلّم الحقّ سبحانه وتعالى عن آياته في الآفاق، في الأرض وفي الشّمس والقمر والفُلْك والدّوابّ والأنعام، يتكلّم سبحانه وتعالى عن آياته في النّفس الإنسانيّة، فإذا كانت الآيات في الآفاق من حولهم لم تلفتهم إلى الله عز وجل، فهذه هي آياته في ذات أنفسهم الّتي لا تفارقهم: