الآية رقم (112) - وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا

﴿الصَّالِحَاتِ﴾: هي الأعمال الّتي تعود بالخير على الإنسان أو على مجتمعه، أو على وطنه، وأضعفُ الإيمان في عمل الصّالح أن تترك الصّالح في ذاته على صلاحه؛ لذلك إزالة الأذى عن الطّريق شعبة من شعب الإيمان، كأن تجد بئراً يشرب منه النّاس فلا تطمسه ولا تلوّثه فهذا من العمل الصّالح، ومن رحمة الله عزَّ وجلَّ بنا أنّه سبحانه وتعالى حينما حثَّنا على العمل الصّالح قال:

﴿مِنَ الصَّالِحَاتِ﴾: و﴿مَنْ﴾ هنا للتّبعيض، فيكفي أنْ تفعل بعض الصّالحات؛ لأنّ طاقة الإنسان لا تسع الصّالحات كلّها ولا تقوى عليها، فحسْبُنا أن نأخذ منها طرفاً، وآخر يأخذ طرفاً، فإذا ما تجمّعتْ هذه الأطراف كلّها من العمل الصّالح من الخلق كوَّنَتْ لنا الصّلاح الكامل، كما سبق أن ذكرنا أنّه ليس بوسع أحدٍ منّا أن يجمع الكمال المحمّديّ في أخلاقه، ففي كلّ فرد من أفراد الأمّة خصلة من خصال الخير، بحيث إذا تجمّعت خصال الكمال في الخلق جميعاً أعطتنا الكمال المحمّديّ.

ﳊ ﳋ: لأنّ الإيمان شرطٌ في قبول العمل الصّالح، فإنْ جاء العمل الصّالح من غير المؤمن أخذ أجره في الدّنيا ذِكْراً وشُهْرة وتخليداً لذكراه، فقد عمل ليُقال، وقد قيل، وانتهتْ المسألة.

﴿فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا﴾: والظّلم هنا غير الظّلم في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا﴾ [طه: من الآية 111]، فالظّلم هنا من الإنسان لنفسه أو لغيره، إنّما ﴿فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا﴾؛ أي: ظُلْماً يقع عليه، بألَّا يأخذ حقّه على عمله، بمعنى أنّنا لا نعاقبه على سيّئة لم يعملها، ولا نضيع عليه ثواب حسنة عملها؛ لأنّ الحقّ سبحانه وتعالى لا يظلم النّاس مثقال ذرّة.

﴿وَلَا هَضْمًا﴾: الهَضْم يعني النّقصان، فلا ننقصه أجره وثوابه، ومنه هضم الطّعام، فكمّيّة الطّعام الّتي نأكلها تُهضَم ثمّ تُمتصّ، وتتحوّل إلى سائلٍ دمويّ، فتأخذ حَيِّزاً أقلّ، ومنه أيضاً قولنا: فلان مهضوم الحقّ، يعني: كان له حقّ فلم يأخذه.

لكن ما فائدة عطف ﴿هَضْمًا﴾ على ﴿ظُلْمًا﴾، فنَفْي الظّلم نَفْي للهضم؟ نقول: لأنّه مرّة يُبطل الثّواب نهائيّاً، ومرّة يُقلِّل الجزاء على الثّواب.

الآية رقم (113) - وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا

﴿وَكَذَلِكَ﴾: أي: كالإنزال الّذي أنزلناه إلى الأمم السّابقة، فكما أرسلنا إليهم رُسُلاً أرسلنا إلى الأمم المعاصرة لك رسلاً، إلّا أنّ فارق الرّسالات أنّهم بُعِثُوا لزمانٍ محدود، في مكان محدود، وبُعثْتَ للنّاس كافّة، وللزّمان كافّة إلى أنْ تقوم السّاعة.

ونفهم من كلمة: ﴿أَنْزَلْنَاهُ﴾ أنّ الـمُنزَّل أعلى من الـمُنزَّل عليه، فالإنزال من شيء عالٍ، وكأنّ الحقّ تبارك وتعالى يلفت أنظارنا ويُصعِّد هممنا، فيقول: لا تهبطوا إلى مستوى الأرض؛ لأنّه يُقنِّن للحاضر ويجهل المستقبل، ويتحكّم فيه الهوى فتغيب عنه أشياء فيحتاج إلى استدراك، لذلك حين ينادينا إلى منهجه العلويّ يقول: ﴿قُلْ تَعَالَوْا﴾[الأنعام: من الآية 151]، يعني: اعلوا وخُذُوا منهجكم من أعلى، لا من الأرض.

﴿قُرْآنًا﴾: يعني: مقروء، كما قال: ﴿كِتَابًا﴾ [الأنبياء: من الآية 10]، يعني: مكتوب، ليُحفظ في الصّدور وفي السّطور.

وقال: ﴿قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾: مع أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم مُرْسَل إلى النّاس كافّة في امتداد الزّمان والمكان، والقرآن الكريم نزل معجزة للجميع، ولكنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم هو المباشر لهذه الأمّة العربيّة الّتي ستستقبل أوّل دعوة له، فلا بُدَّ أنْ تأتي المعجزة بلسانها؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾[إبراهيم: من الآية 4]، كما أنّ معجزة القرآن الكريم ليستْ للعرب وحدهم، إنّما تحدٍّ للإنس والجنّ على امتداد الزّمان والمكان، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ﴾ [الإسراء: من الآية 88]، وذلك لأنّ العرب قديماً كانوا يعتقدون أنّ لكل شاعرٍ أو خطيبٍ مفوّه شيطاناً يمُدُّه ويُوحِي إليه؛ لذلك أدخل الجنّ أيضاً في هذا المجال، وأدخل الله سبحانه وتعالى هذه الأكوان كلّها بإعجاز القرآن الكريم، لكنّه نزل بلسان عربيّ مبين، فهو حجّة على العرب أكثر من غيرهم؛ لأنّهم الحمَلة الأساسيّون لهذه الدّعوة الإسلاميّة، وإعجاز القرآن الكريم من حيث أسلوبه العربيّ وأدائه البيانيّ يختصّ بالعرب، لكنّ إعجاز القرآن الكريم للّغات كلّها في المنهج والعلوم والإخبار عن المستقبل..، وعندما نزل القرآن الكريم كانت البشريّة بين حضارتين معاصرتين، هما حضارة فارس في الشّرق، وحضارة الرّوم في الغرب، ثمّ الكونيّات الّتي تحدَّث القرآن الكريم عنها منذ ما يزيد على أربعة عشر قرناً، وما زال العلم الحديث يكتشفها الآن، فطبيعيّ أن يأتي القرآن الكريم عربيّاً؛ لأنّه نزل على رسولٍ عربيّ، وفي أمّة عربيّة، والحقّ سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾[إبراهيم: من الآية 4]، فهم الّذين يستقبلون الدّعوة، وينفعلون لها، ويقتنعون بها، ثمّ ينساحون بها في شتَّى بقاع الأرض، ومن العجيب أنّهم بدعوة القرآن الكريم أقنعوا الدّنيا الّتي لا تعرف العربيّة بالمبادىء والمناهج الّتي جاء بها القرآن الكريم؛ لأنّها مبادىء ومناهج لا تختلف عليها اللّغات.

ماذا تعني كلمة: ﴿عَرَبِيًّا﴾ في الآية؟ من أغرب ما نسمعه الآن تلك المؤامرة الكبيرة الّتي تُحاك على هذه الأمّة، حيث يحاولون الفصل بين القرآن الكريم وبين عروبة القرآن الكريم، ويحاولون الفصل بين الإسلام وبين العروبة، والتّشكيك بعروبة القرآن الكريم من أجل التّشكيك بالقرآن الكريم، والتّشكيك بنبوّة سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فظهر بعض أدعياء الثّقافة الّذين يلقون في وجوهنا أقذار الغرب، بأنّ ﴿عَرَبِيًّا﴾ في قوله سبحانه وتعالى: ﴿قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾ تعني التّمام والكمال والخلوّ من النّقص والعيب، وليس لها علاقة بالعرب كقوميّة أو كعروبة، فمعنى: ﴿قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾ على حسب أقوال هؤلاء الّذين فُتنوا بالغرب وبمؤامراته: قرآناً تامّاً خالياً من النّقص والعيب، واستدلّوا على ذلك بآية أخرى في القرآن الكريم يقول فيها سبحانه وتعالى: ﴿عُرُبًا أَتْرَابًا﴾[الواقعة]، (بضم العين والرّاء وفتح الباء) الّتي وردت كصفة للحور في الجنّة، فوصفت الآية الحور بالتّمام والخلوّ من العيب والنّقص، فـ ﴿عَرَبِيًّا﴾ هي التّمام ولا علاقة لها بالعروبة ولا بالقوميّة العربيّة ولا باللّسان العربيّ، ومن المؤسف أن نضطرّ إلى توضيح ما هو واضح لكلّ ذي لبّ وعقل، فمن أبسط قواعد التّفسير المعروفة لدى صغار طلّاب العلم فضلاً عن العلماء أنّ القرآن الكريم يفسّر بعضه بعضاً، وهذه الآية والآية في سورة (يوسف) تؤازرها آيات كثيرة تُظهر المضمون بجلاء ووضوح، لا يشذّ عنه إلّا جاهل لا علاقة له بالقرآن الكريم، أو مَن له مآرب أخرى من تشكيك وطعن بعروبة القرآن الكريم، ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾ [الشّعراء]، فالحديث هنا عن اللّسان؛ أي: اللّغة، ومن هذه الآيات: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ﴾[النّحل]، وهنا تُظهر الآية بوضوح أنّ من يدّعون أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قد نقل القرآن الكريم من غيره ، فإنّما ادّعاؤهم باطل؛ لأنّ باقي الكتب الّتي يمكن النّقل منها أعجميّة، والنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لا يعرف اللّغات الأعجميّة وهو كذلك أمّيّ، أمّا القرآن الكريم فمختلف عنها بكونه بلغة عربيّة واضحة، ومن الآيات أيضاً: ﴿لَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ﴾ [فصّلت: من الآية 44]، وهذه الآية تُظهر أنّ كلمة (عربيّ) هي الكلمة المعاكسة لـ (أعجميّ)؛ أي: من الواضح جدّاً أنّ المقصود هو اللّغة، أمّا قياس ﴿قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾ على ﴿عُرُبًا أَتْرَابًا﴾ فهو منتهى الجهل باللّغة العربيّة وبالقرآن الكريم؛ لأنّ كلمة ﴿عُرُبًا أَتْرَابًا﴾ [الواقعة] الّتي جاءت وصفاً للحور في الجنّة لا علاقة لها لغويّاً بالموضوع، فالكلمة هي ﴿عُرُبًا﴾ بضمّ العين والرّاء، وليست (عَرَباً)، ولا علاقة للكلمتين ببعضهما من حيث المعنى أبداً، فكلمة ﴿عُرُبًا﴾ هي جمع لكلمة عُرُوب؛ أي: الّتي تُحبّ زوجها، وهو وصفٌ للزّوجة في الجنّة، أمّا ﴿عَرَبِيًّا﴾ فهي لا ريب وصف للّغة العربيّة.

إنّ التّشكيك بعروبة القرآن الكريم الهدف والغاية النّهائيّة منه هو الزّعم بأنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم محمّد نقل القرآن الكريم من الكتب السّابقة، وأنّ القرآن الكريم أصله غير عربيّ، وذلك أنّ التّوراة والإنجيل لم تكن مترجمة للعربيّة أيّام النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فالقرآن الكريم العربيّ معجزة ظاهرة للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم؛ لأنّه عرف قصص الكتب السّابقة كلّها وهو لا يعرف لغتها، لذلك فإنّ من يضرب عروبة القرآن الكريم يريد أن يصل إلى هذه النّتيجة أنّ القرآن الكريم ليس عربيّاً، وبالتّالي يصبح التّشكيك في كون النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ناقلاً من الكتب الأخرى تشكيكاً قويّاً ومعتبراً، بالإضافة إلى ذلك كلّه أنّ هذا التّفسير بأنّ ﴿عَرَبِيًّا﴾ لا يعني اللّغة العربيّة، وإنّما يعني التّمام والكمال، لم يقل به عبر القرون وإلى يومنا هذا أيّ مفسّر أو نحويّ أو لغويّ أو عالم أو طالب علم ولا أيّ مُعجم أو قاموس عند تعرّضه لهذه الآيات، فمن أين استقى هؤلاء تفسيراتهم الجديدة؟ إلّا أن تكون وحياً جديداً يوحى إليهم أو ديناً جديداً تمليه عليهم دوائر المخابرات الغربيّة والأميركيّة والصّهيونيّة اليهوديّة الّتي دأبت على تشويه الإسلام إمّا باتّهامه بالتّطرّف أو بالتّحلّل الآن، أو تشويه الإسلام من خلال فصله عن العروبة، صحيح أنّ العربيّة ليست عرقاً ولا جنساً، لكن كما قيل عن العروبة: “إنّما العربيّة اللّسان”، يعني الّذي يتكلّم العربيّة فقط هو عربيّ، ومَن يدّعون أنّ العربيّ تعني (واضح) فهذا كلام غير دقيق؛ لأنّه عندما تكون: ﴿بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾[الشّعراء]، كلمة: ﴿مُبِينٍ﴾ معناها: واضح، فإذا كانت كلمة: ﴿عَرَبِيٍّ﴾ بمعنى واضح أصبحت الآية: (بلسان واضح واضح)!! وهذا تكرار لا يحصل في القرآن الكريم، وإذا كان المقصود بالعربيّة هو اللّغة الواضحة فالسّؤال هنا: هي واضحة لمن؟ مفهومة لمن؟ هل هي مفهومة للبشر كلّهم؟ أو هي مفهومة لمجموعة بشريّة محدّدة هم العرب؟! إضافة إلى أنّ كلام المتكلّم الّذي يحاول التّشكيك يتضمّن جهلاً واضحاً بالمعنى اللّغويّ والاصطلاحيّ لأيّ كلمة، وهذا أمر معروف لدى العرب، فعندما نقول كلمة: صلاة، فالصّلاة باللّغة هي الدّعاء، لكن تمّ تخصيص هذا المعنى للتّعبير عن شعيرة وركن الصّلاة، وإذا أطلقنا لفظ الصّلاة لا يفهم أحدٌ من لفظ الصّلاة أنّها دعاء وإنّما الصّلاة المعروفة بالنّسبة إلى العرب والعربيّة، فكلمة (العربيّة) المقصود بها اللّغة العربيّة تحديداً، ولا يمكن أن يُفهَم منها إلّا الإشارة لهذه اللّغة، لذلك من يريد ليّ عُنُق الآيات وتحميل النّصوص ما لا تحتمله فلا يوجد لديه دليل عقليّ ولا نقليّ.

﴿وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ﴾: أي: حينما ينذر القرآن الكريم بشيء يُصرف هذا الإنذار على أوجه مختلفة، ويُكرَّر الإنذار لينبّه أهل الغفلة، يعني: لوَّنا فيه أساليب الوعد والوعيد كلّها.

والتّصريف: يعني التّحويل والتّغيير بأساليب شتَّى لتناسب استقبال الأمزجة المختلفة عند نزول القرآن الكريم لعلّها تصادف وَعْياً واهتماماً.

﴿لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا﴾: الاتّقاء عادة يكون للشّرّ والمعاصي المهلكة، أو يُحدِث لهم الذّكْر والشّرف والرّفعة بفعل الخيرات، وهذا من ارتقاءات الطّاعة؛ ذلك لأنّ التّكليف قسمان: قسم ينهاك عن معصية، وقسم يأمرك بطاعة، فينهاك عن الزّنا وشُرْب الخمر، ويأمرك بالصّلاة، فهم يتّقون الأوّل، ويُحدِث لهم ذِكْراً يوصيهم بعمل الثّاني.

وما دام القرآن الكريم نازلاً من أعلى فلا بُدَّ أن يقول بعدها:

الآية رقم (114) - فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا

﴿فَتَعَالَى﴾: تنزّه وارتفع عمّا يُشبه الحادث كلّه، تعالى ذاتاً، فليستْ هناك ذاتٌ كذاته، وتعالى بالصّفات فليست هناك صفة كصفاته، فإنْ وُجِدَتْ صفة في الخَلْق تشبه صفة في الخالق سبحانه وتعالى، فنأخذها في ضوء: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾[الشّورى: من الآية 11].

﴿فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ﴾: تلفتنا إلى ضرورة التّطلّع إلى أعلى في الأخذ بالهداية، وكلّ ما جاء من عند الله سبحانه وتعالى هو حقّ، ومن ألفاظ تنزيه الله سبحانه وتعالى الّتي لا تُقال إلّا له سبحانه وتعالى كلمة: (سبحان الله)، أسمعتَ بشراً يقولها لبشر؟ وهناك كفرة وملاحدة ومنكرون للألوهيّة ومعاندون، ومع ذلك لم يقُلْها أحدٌ مَدْحاً في أحد، كذلك كلمة: (تعالى وتبارك) لا تُقال إلّا لله عزَّ وجلَّ، فنقول: (تباركت ربّنا وتعاليت)؛ أي: وحدك لا شريك لك.

﴿فَتَعَالَى اللَّهُ﴾: علا قَدْره وارتفع التّنزيه ارتفاعاً لا يصل إليه أحد، وتعالي الحقّ سبحانه وتعالى من مصلحة الخلق والكون، أمّا التّعالي في البشر فيما بينهم فأمْرٌ ممقوتٌ.

﴿الْمَلِكُ الْحَقُّ﴾: هناك ملوك كثر في الدّنيا، أثبتَ الله سبحانه وتعالى لهم الملْك وسمَّاهم مُلُوكاً، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ﴾[يوسف: من الآية 50]، وقال: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ﴾[البقرة: من الآية 258]، لكنّهم ليسوا مُلوكاً بحقّ، الملك بحقّ هو الله جل جلاله؛ لأنّ ملوك الدّنيا ملوك في مُلْكٍ موهوب لهم من الله عزَّ وجلَّ، فيمكن أن يفوت مُلْكَه، أو يفوته الـمْلكُ فيموت، وإنْ ملَّك بعض الخلق شؤون بعض لمصلحتهم، فهو سبحانه وتعالى الّذي يهَب الملْك، وهو الّذي ينزعه إن أراد: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾[آل عمران]، فالحقّ سبحانه وتعالى له الملْك الحقّ، ويهَبُ مَنْ يشاء مُلْكاً، لكن يظلّ الـمُلك في قبضة الله عزَّ وجلَّ؛ لأنّه سبحانه وتعالى قيُّوم.

ومن معاني ﴿الْمَلِكُ الْحَقُّ﴾؛ أي: الثّابت الّذي لا يتغيّر.

فالحقّ تبارك وتعالى أنزل القرآن الكريم عربيّاً، وصرَّف فيه من الوعيد لعلّهم يتّقون أو يُحدث لهم ذكراً؛ لأنّه من حقّه أن يكون له ذلك؛ لأنّه مَلِك حقّ ليس له هوى فيما شرع.

﴿وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ﴾: وهذه مُقدِّمات ليطمئنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على حِفْظ القرآن الكريم؛ لأنّه صلّى الله عليه وسلّم عندما كان ينزل عليه الوحي، يحاول إعادته كلمة كلمة، ويتعجّل حتّى لا ينسى من شدّة حرصه على القرآن الكريم، فنهاه الله عزَّ وجلَّ عن هذه العجلة:

﴿وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ﴾: أي: لا تتعجّل، ولا تنشغل بالتّكرار والتّرديد، فسوف يأتيك نُضْجها حين تكتمل، فلا تَخْشَ أنْ يفوتك شيءٌ منه طالما أنّني تكفَّلْتُ بحِفْظه؛ لذلك يقول له في موضعٍ آخر: ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى﴾[الأعلى]، فاطمئنّ ولا تقلق على هذه المسألة.

﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾: هذه الآية تحثّ المؤمنين على الازدياد من طلب العلم، وأن يكون هذا الدّين كما أراده الله سبحانه وتعالى دين العقل والعلم، وهذا توجيه للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم للاستزادة من العلم، والله سبحانه وتعالى هو الحافظ الّذي يأمرك أن تدعو: ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾، ونحن نحتاج إلى علوم الحياة أيضاً، عِلْمٌ يشمل الأزمنة والأمكنة، فلا بُدَّ من أنْ يكون هناك إعداد لهذه المهمّة، لذلك قال نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم: «طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ»([1])، والازدياد في طلب العلم، لم يحدّد نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم أنّ العلم هو العلم الشّرعيّ، وإنّما علوم الحياة في مجالاتها كلّها، حتّى يكون الإنسان خليفة ومستخلفاً في الأرض بما أراده الله سبحانه وتعالى، ونجد أيضاً أنّ الإمام الشّافعيّ رضي الله عنه يقول: طريق العلم ثلاثة أشبار، من اجتاز الشّبر الأوّل تكبّر، ومن اجتاز الشّبر الثّاني تواضع، ومن اجتاز الشّبر الثّالث قال: كلّما ازددت علماً زادني علمي بجهلي.

وقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾، هو شعار بالنّسبة إلينا، أن نطلب العلم، ونكون دائماً على قمّته، فقد تخلّفنا عن ركب الحضارة وأصبحنا في ذيل الأمم؛ لأنّنا تخلّينا عن العلوم الكونيّة، والعلوم الّتي تُفيد الإنسان في شتّى المجالات.

([1]) سنن ابن ماجه: افتتاح الكتاب في الإيمان وفضائل الصّحابة والعلم، بَابُ فَضْلِ الْعُلَمَاءِ وَالْحَثِّ عَلَى طَلَبِ الْعِلْمِ، الحديث رقم (224).

الآية رقم (115) - وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا

كأنّ الحقّ تبارك وتعالى يُعزِّي رسوله صلّى الله عليه وسلّم ويُخفِّف عنه ما يعانيه من كفر القوم وعنادهم بقوله له: اقبلهم على عِلَّاتهم، واقبل نسيانهم، فهُمْ أولاد آدم، والعصيان أمر وارد فيهم، وسبق أن عهدنا إلى أبيهم فنسي، لذلك إذا أوصيتَ أحداً بعمل شيء فلم يَقُمْ به فلا تغضب، وأَرْجِع الأمر إلى هذه المسألة، والتمس له عُذْراً.

﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ﴾: أي: أمرنا ووصَّيْنا ووعظنا، وقلنا كلّ شيء.

﴿مِنْ قَبْلُ﴾: هذه الكلمة لها دَوْر في القرآن الكريم، وقد حسمتْ لنا مواقف عدّة، منها قوله هنا عن آدم عليه السلام، والمراد: خُذْ لهم أُسْوة من أبيهم الّذي كلّفه الله سبحانه وتعالى مباشرة، ليس بواسطة رسول من الله عزَّ وجلَّ، وكلّفه بأمر واحد، ثمّ نهاه أيضاً عن أمرٍ واحد: (كُلْ من الجنّة كُلِّها إلّا هذه الشّجرة)، هذا هو التّكليف، ومع ذلك نسي آدم ما أُمِر به.

كذلك جاءتْ ﴿مِنْ قَبْلُ﴾في قوله سبحانه وتعالى: ﴿فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ﴾ [البقرة: من الآية 91].

﴿فَنَسِيَ﴾: أي: نسي العَهْد، هذه واحدة.

﴿وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا﴾: ليس عنده عزيمة قويّة تُعينه على المضيِّ والثّبات في الأمر.

فالحقّ تبارك وتعالى يريد أن يعطينا فكرة بأنّه سبحانه وتعالى حين يأمر بأمْر فيه نفع لنا نتهافت عليه، أمّا إذا أمر بشيء يُقيِّد شهواتنا تأبَّيْنا وخالفنا، ومن هنا احتاج التّكليف إلى عزيمة قويّة تعين على المضيّ فيه والثّبات عليه، والله سبحانه وتعالى سمَّى الرّسل أصحاب الدّعوات والرّسالات المهمّة في تاريخ البشريّة: ﴿أُولُو الْعَزْمِ﴾[الأحقاف: من الآية 35]؛ لأنّهم سيتحمّلون مشاقَّ ومهامَّ صعبة تحتاج إلى ثباتٍ وصبرٍ على التّكليف.

ومن ذلك أيضاً قوله سبحانه وتعالى: ﴿خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ﴾ [البقرة: من الآية 63]؛ أي: عزيمة تدفع إلى الطّاعات، وتمنع من المعاصي.

والعهد الّذي أخذه الله عزَّ وجلَّ على آدم أنْ يأكل رَغَداً من نعيم الجنّة كلّها كما يشاء إلّا شجرة واحدة حذَّره من مجرّد الاقتراب منها هو وزوجه: ﴿وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾[البقرة: من الآية 35]، وهذه المسألة تلفتنا إلى أنّ الحلال كثيرٌ جدّاً لا يُعَدُّ ولا يُحْصَى، أمّا المحرّمات فقليلة معدودة محصورة.

الآية رقم (116) - وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى

الحقّ تبارك وتعالى يقصُّ علينا قصّة آدم عليه السلام، لكن نلاحظ أنّه سبحانه وتعالى أعطانا مُجْمل القصّة ومُوجزها في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا﴾، وأصلْ القصّة وترتيبها الطّبيعيّ أنّه سبحانه وتعالى يقول: خلقْتُ آدم بيديّ وصوَّرته، ثمّ أمرْتُ الملائكة بالسّجود له ثمّ قلت له: كذا… وعَرْض القصّة بهذه الطّريقة أسلوبٌ من أساليب التّشويق، ومن ذلك أسلوب القرآن الكريم في قصّة أهل الكهف، حيث ذكر القصّة مُوجَزة فقال: ﴿أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا ﴾[الكهف]، ثمّ أخذ في عَرْضها تفصيلاً: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ﴾[الكهف: من الآية 13]، وقد جاء هذا الأسلوب كثيراً في قَصَص القرآن الكريم، ففي قصّة لوط عليه السّلام يبدأ بنهاية القصّة وما حاق بهم من العذاب: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ﴾ [القمر]، ثمّ يعود إلى تفصيل الأحداث: ﴿وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ﴾[القمر]، ومن أبرز هذه المواضع قوله سبحانه وتعالى في قصّة موسى وفرعون: ﴿ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ﴾[الأعراف]؛ أي: من بعد موكب الرّسالات إلى فرعون وقومه فظلموا بها، فانظر كيف كان عاقبة المفسدين، هذا مُجمل القصّة، ثمّ يأخذ في قَصِّ الأحداث بالتّفصيل: ﴿وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأعراف]، وهكذا أسلوب القرآن الكريم في قصّة آدم عليه السلام، يعطينا مُجْمل القصّة، ثمّ يُفصِّلها:

﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ﴾: يعني: اذكر إذ قُلْنا للملائكة: ﴿اسْجُدُوا لِآدَمَ﴾، وقبل أن نخوضَ في قصّة أبينا آدم عليه السلام يجب أن نشير إلى أنّها تكرّرتْ كثيراً في القرآن الكريم، لكنّ هذا التّكرار مقصود لحكمة، ولا يعني إعادة الأحداث، بل هي لقطاتٌ لجوانب مختلفة من الحدَث الواحد تتجمّع في النّهاية لتعطينا القصّة الكاملة من جميع زواياها.

كما أنّ الهدف من قَصَص القرآن الكريم تثبيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم؛ لأنّه سيمرُّ بكثير من الأحداث والشّدائد، سيحتاج في كلّ منها إلى تثبيت، وهذا الغرض لا يتأتَّى إذا سردنا القصّة مرّةً واحدة، كما في قصّة يوسف عليه السلام مثلاً.

﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا﴾: بعضهم يعترض فيقول: كيف تسجد الملائكة لبشر؟ نعم، هم سجدوا لآدم، لكن لم يسجدوا من عند أنفسهم، بل بأمر الله عزَّ وجلَّ لهم، فالمسألة ليستْ سجوداً لآدم، بقدر ما هي إطاعة لأمر الله جل جلاله، وما معنى السّجود؟ السّجود معناه: الخضوع، كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا﴾ [يوسف: من الآية 100]؛ أي: سجودَ تعظيم وخضوع، لا سجودَ عبادة.

وآدم عليه السّلام هو خليفة الله عزَّ وجلَّ في الأرض، لكنّه ليس الوحيد عليها، فعلى الأرض مخلوقاتٌ كثيرة منها المحَسّ، كالشّمس والقمر والنّجوم والهواء والماء والأرض والجبال، وكُلّ ما فيه مصلحة لهذا الخليفة، ومنها ما هو خفيّ كالملائكة الّتي تدير الأمور بخفاء في هذا الكون، ومنهم الحفظة والكتبة، ومنهم المكلَّفون بالرّيح وبالمطر.. إلى آخره من الأمور الّتي تخدم الخَلْق.

وقد يحلو لبعضهم أن يقول: لقد ظَلَمنا آدمُ حين عصى الله عزَّ وجلَّ، فأنزَلَنا من الجنّة إلى الأرض، وإلّا لبقينا في الجنّة! نقول: يجب أن نفهم عن الله سبحانه وتعالى، فالحقّ تبارك وتعالى لم يخلق آدم للجنّة الّتي هي دار الخُلْد، إنّما خلقه ليكون خليفةً له في الأرض، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة]، فقد خلق آدم عليه السّلام للأرض وليس للجنّة، والجنّة -وإن كانت تُطلَق على دار الخُلْد ودار النّعيم الأُخْرويّ- فهي تُطلَق أيضاً على حدائق وبساتين الدّنيا، كما جاء في قول الحقّ سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ﴾[القلم]، فقد تحدّث الله سبحانه وتعالى عن آدم عليه السلام وعن علاقة الملائكة بآدم، وأنّ الله سبحانه وتعالى أمر مجموعة من الملائكة وكان إبليس من بينهم بالسّجود له، والجنّة الّتي كان فيها آدم هي مكان لتدريبه قبل أنْ يباشر مهمّته كخليفة لله عزَّ وجلَّ في الأرض، فأدخله الله جل جلاله في هذه التّجربة التّطبيقيّة، وأعطاه فيها نموذجاً للتّكليف بالأمر والنّهي، وحذَّره من عدوّه الّذي سيتربّص به وبذرّيّته من بعده، وهو إبليس الّذي رفض السّجود، ولكن كيف كان إبليس مع الملائكة؟ الجواب: لقد كان إبليس من الجنّ الطّائع.

وخلاصة منهج الله عزَّ وجلَّ في الأرض: أمر، ونهي، وتكليف، وتحذير من الشّيطان ووسوسته.. فهذه الأمور كلّها تتعلّق بجنّة التّجربة الّتي أُدخِلَها آدم عندما أُمِرَ ألّا يأكل من الشّجرة.

وبعضهم يقول: كيف عصى آدم عليه السّلام وهو نبيّ؟ ويذكرون قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى﴾[طه: من الآية 121]، نقول: ما دام أنّ آدم عليه السلام هو خليفة الله عزَّ وجلَّ في أرضه، ومنه أَنْسَالُ النّاس جميعاً إلى أنْ تقوم السّاعة، ومن نَسله الأنبياء وغير الأنبياء، من نسله الرّسل والمرسل إليهم، فهو بذاته يمثّل الخَلْق الآتي كلّه، كما أنّ آدم عليه السلام مرَّ بهذه التّجربة قبل أن يُنبّأ، بدليل قوله جلّ جلاله: ﴿وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى﴾ [طه: من الآية 121- الآية 122]، فكان الاجتباء والعصمة بعد التّجريب، ثمّ لـمّا أُهبِط آدم وعدوّه إلى الأرض خاطبه ربّه جل جلاله: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾[البقرة: من الآية 38].

وهكذا بدأت مرحلة جديدة في حياة آدم عليه السلام، ومثَّل آدم الدَّوْرَيْن: دَوْر العصمة والنّبوّة بعد ما اجتباه ربّه، ودَوْر البشر العاديّ غير المعصوم والمعرَّض للنّسيان وللمخالفة كأيِّ إنسانٍ من أناس الأرض، فينبغي أن نفهم أنّ آدم عليه السلام خُلِق للأرض وعمارتها، وقد هيَّأها الله سبحانه وتعالى لآدم وذرّيّته من بعده، وأعدَّها بمقوِّمات الحياة كُلِّها ومُقوِّمات بقاء النّوع.

لقد ذكرنا أنّ في الكون مُلكاً وملكوتاً: الملْك هو الظّاهر الّذي نراه ونشاهده، والملكوت ما خفي عنّا وراء هذا الملْك، الملكوت كالملائكة والجنّ لا نراهم، فمن الملكوت مثلاً الملائكة الموكّلون، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ﴾[الرّعد: من الآية 11]، ومنهم الكَتَبة: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾[ق]، فلمّا خلق الله سبحانه وتعالى آدم، وخلق الملائكة الموكّلين بمصالحه في الأرض أمرهم بالسّجود له؛ لأنّهم سيكونون في خدمته، فالسّجود طاعة لأمر الله عزَّ وجلَّ، وخضوع للخليفة الّذي سيعمر الأرض.

﴿إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى﴾: وفي آيةٍ أخرى: ﴿إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ﴾[ص: من الآية 74].

وقد أوضح الله سبحانه وتعالى سبب رَفْض إبليس للسّجود لآدم بقوله: ﴿أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ﴾[ص: من الآية 75]؛ أي: لا سبب لامتناعك إلّا الاستكبار على السّجود، أو تكون من العالين؛ أي: الملائكة الّذين لم يشملهم الأمر بالسّجود، غير المكلّفين بالأرض.

ومَن أثار مشكلة أنّ إبليس مع الملائكة قوله مردود عليه؛ لأنّ الأمر يصدر للمجموع العامّ الأعلى ويشمل الأدنى، والله سبحانه وتعالى خلق الثَّقليْن: الجنّ والإنس، وإبليس كان من الطّائعين، لكنّه من الجنّ، وليس من الملائكة، وقد حسم القرآن الكريم هذه القضيّة حين قال: ﴿إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ﴾ [الكهف: من الآية 50]، وهذا نصٌّ صريح لا جدال حوله، فإنْ قُلْتَ: فلماذا شمله الأمر بالسّجود، وهو ليس مَلَكاً؟ نقول: لأنّ إبليس قبل هذا الأمر كان طائعاً، وقد شهد عمليّة خَلْق آدم، وكان يُدْعَى: (طاووس الملائكة)؛ لأنّه ألزم نفسه في الأمور الاختياريّة فكان معهم في ذلك المجلس، فلمّا جاء الأمر للملائكة بالسّجود لآدم شمله الأمر ولزمه من ناحيتين: الأولى: إنْ كان أعلى منهم منزلةً بسبب أنّه ألزم نفسه الطّاعة مع اختياره، والملائكة ليس لهم اختيار، فهو أَوْلَى بطاعة الأمر منهم، ولماذا يعصي هذا الأمر بالذّات؟

الأخرى: أنّ الأمر للأعلى يشمل الأدنى.

الآية رقم (106) - فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا

﴿قَاعًا صَفْصَفًا﴾: أرضاً مستوية مَلْساء لا نباتَ فيها ولا بناء، والضّمير في: ﴿فَيَذَرُهَا﴾، يعود على الأرض لا على الجبال؛ لأنّ الجبال لا تكون قاعاً صفصفاً، أمّا الأرض مكان الجبال فتصير ملساء مستوية، لا بناءَ فيها ولا جبال، فالأرض شيءٌ والجبال فوقها شيء آخر.

وقد حُذِف العائد في ﴿فَيَذَرُهَا﴾ اعتماداً على ذِهْن السّامع ونباهته إلى أنّه لا يكون إلّا ذلك، كما في قوله سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ [الإخلاص]، فلم يذكر عائد الضّمير ﴿هُوَ﴾؛ لأنّه إذا قيل لا ينصرف إلّا إلى الحقّ سبحانه وتعالى، وإنْ لم يتقدّم اسمه.

الآية رقم (107) - لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا

أي: كأنّها مُسْتوية على ميزان الماء، لا ترى فيها اعوجاجاً ولا:

﴿أَمْتًا﴾: منخفض ومرتفع، فهي مستوية استواءً تامّاً، كما نفعل نحن في الجدار، ونحرص على استوائه.

الآية رقم (108) - يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا

﴿يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ﴾: الدّاعي: المنادي، كالمؤذِّن الّذي كثيراً ما دعا النّاس إلى حضرة الله سبحانه وتعالى في الصّلاة، فمنهم مَنْ أجاب النّداء، ومنهم مَنْ تأبَّى وأعرض، أمّا الدّاعي في الآخرة، وهو الّذي ينفخ في الصّور فلن يتأبَّى عليه أحد، ولن يمتنع عن إجابته أحد.

﴿لَا عِوَجَ لَهُ﴾: لأنّنا نرى داعي الدّنيا حين يُنادِي في جَمْع النّاس، يتّجه يميناً ويتّجه يساراً، ويدور ليُسمع في الاتّجاهات كُلِّها، فإذا لم يَصِلْ صوته إلى الآذان كلّها استيعاباً يستعمل مُكبِّر الصّوت مثلاً، أمّا الدّاعي في الآخرة فليس له عوج هنا أو هناك؛ لأنّه يُسمِع الجميع، ويصل صوته إلى الآذان كلّها، دون انحرافٍ أو ميْل.

﴿وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا﴾: هذا الهمْسُ الّذي قال عنه في الآيات السّابقة: ﴿يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ﴾[طه: من الآية 103]، ونعرف أنّ كل تجمُّع كبير لا تستطيع أنْ تضبط فيه جَلبة الصّوت، فما بالك بجَمْع القيامة من لَدُنْ آدم عليه السلام حتّى قيام السّاعة، ومع ذلك: ﴿وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا﴾، فلماذا كتمت هذه الأصوات الّتي طالما قالتْ ما تحبّ، وطالما كان لها جلبة وضجيج؟ الموقف الآن مختلف، والهَـوْل عظيم، لا يجرؤ أحد من الهَوْل على رَفْع صوته، وكُلٌّ منشغل بحاله، مُفكّر فيما هو قادم عليه، فإنْ تحدّثوا تحدّثوا سِرّاً: ماذا حدث؟ ماذا جرى؟

الآية رقم (109) - يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا

﴿يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ﴾: والشّفاعة تقتضي مشفوعاً له وهو الإنسان، وشافعاً وهو الأعلى منزلةً، ومشفوعاً عنده: وهو المولى سبحانه وتعالى، والمشفوع عنده لا يسمح بالشّفاعة هكذا، إنّما لا بُدَّ أنْ يأذنَ لك بها، وأنْ يضعَك في مقام ومرتبة الشّفاعة، وهذا شَرْطٌ في الشّافع.

﴿وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا﴾: هذه للمشفوع له، أن يقول قولاً يرضى الله سبحانه وتعالى عنه، يقول سبحانه وتعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾ [البقرة: من الآية 255]، والنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول: «مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ: اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ، وَالصَّلَاةِ القَائِمَةِ آتِ مُحَمَّداً الوَسِيلَةَ وَالفَضِيلَةَ، وَابْعَثْهُ مَقَاماً مَحْمُوداً الَّذِي وَعَدْتَهُ، حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ القِيَامَةِ»([1]).

([1]) صحيح البخاريّ: كِتَابُ الأَذَانِ، بَابُ الدُّعَاءِ عِنْدَ النِّدَاءِ، الحديث رقم (614).

الآية رقم (110) - يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا

﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ﴾: ما أمامهم، ويعلم ما خلفهم، أمّا نحن فلا نحيط به عِلْماً، ولا نعرف إلّا ما يُخبرنا به، إلّا أن تكون هناك مقدّمات نستنبط منها؛ لأنّ ما ستره الحقّ جل جلاله في الكون كثير، منه ما جعل له مقدّمات، فمَنْ ألـمَّ بهذه المقدّمات وصل إلى النّتائج، لكن هناك أشياء استأثر الله سبحانه وتعالى بعلمها، وقد يعطيها لمن أحبَّ من عباده، ويُطلِعهم عليها، أو تظلّ في علم الله عزَّ وجلَّ لا يعرفها أحد.

الآية رقم (101) - خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاء لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا

﴿وَسَاءَ﴾: قبح ذلك الحمل يوم القيامة؛ لأنّ الحمل قد لا يكون قبيحاً إنْ كان خيراً، وإن كان شرّاً فقد يحمله صاحبه في الدّنيا ويزول عنه، أمّا الوزر فحِمْل سيّىء قبيح؛ لأنّه في دار الخُلْد الّتي لا نهايةَ لها، فمتى يكون ذلك؟

الآية رقم (102) - يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا

﴿يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ﴾: وهو يوم القيامة.

﴿الصُّورِ﴾: هو البوق الّذي يُنفخ فيه النّفخة الأولى والثّانية، كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ﴾[الزّمر].

﴿وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا﴾: أي: نجمعهم ونسوقهم زُرْقاً، والزُّرْقة هي لونهم، كما ترى شخصاً احتقن وجهه، وازرقَّ لونه بسبب شيء تعرَّض له، هذه الزُّرْقة نتيجة لعدم السّلام والانسجام في كيميائيّة الجسم من الدّاخل، فهو انفعال داخليّ يظهر أثره على البشرة الخارجيّة، فكأنّ هَوْلَ القيامة وأحداثها تُحدِث لهم هذه الزّرقة.

وبعضهم يفسّر: ﴿زُرْقًا﴾؛ أي: عُمْياً، ومن الزُّرْقة مَا ينشأ عنها العمى، ومنها المياه الزّرقاء الّتي تُصيب العين.

الآية رقم (103) - يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا

﴿يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ﴾: أي: يُسِرُّون الكلام، ويهمس بعضهم إلى بعض، لا يجرؤ أحدٌ منهم أنْ يجهر بصوته من هَوْل ما يرى، فبِمَ يتخافتون؟

﴿إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا﴾: يقول بعضهم لبعض: ما لبثنا في الدّنيا إلّا عشرة أيّام، ثمّ يُوضِّح القرآن الكريم بعد ذلك أنّ العشرة هذه كلامهم السّطحيّ، بدليل قوله سبحانه وتعالى في الآية بعدها: ﴿إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا﴾، فانتهت العشرة إلى يوم واحد، ثمّ ينتهي اليوم إلى ساعة في قوله سبحانه وتعالى حكاية عنهم: ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ﴾[الرّوم: من الآية 55]، فكُلُّ ما ينتهي فهو قصير، فأقوال متباينة تميل إلى التّقليل، كأنّ الدّنيا على سَعة عمرها ما هي إلّا ساعة: ﴿كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ﴾[الأحقاف: من الآية 35]، وما هذا التّقليل لمدّة لُبْثهم في الدّنيا إلّا لإفلاسهم وقِلَّة الخير الّذي قدَّموه فيها، لقد غفلوا فيها، فخرجوا منها بلا ثمرة؛ لذلك يلتمسون لأنفسهم عُذْراً في انخفاض الظّرف الزّمنيّ الّذي يسَع الأحداث، كأنّه لم يكُنْ لديهم وقت لعمل الخير.

الآية رقم (104) - نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا

الحقّ تبارك وتعالى يقصُّ على رسوله صلّى الله عليه وسلّم في الدّنيا ما سيكون من أمر هؤلاء المجرمين في الآخرة، فإذا ما وقعتْ القيامة جاءت الصّورة كما حكاها الله سبحانه وتعالى لرسوله صلّى الله عليه وسلّم، وهذا القول الّذي حكاه القرآن الكريم عنهم أمر في اختيارهم، وقد سمعوا ذلك من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وبوسعهم ألَّا يقولوا، لكن إذا جاءت القيامة فسوف يقولونه بالحرف الواحد لا يُغيِّرون منه شيئاً.

﴿أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً﴾: يعني: أحسنهم حُكْماً.

الآية رقم (105) - وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا

تكلّمنا عن: ﴿يَسْأَلُونَكَ﴾ في قوله سبحانه وتعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ﴾[البقرة: من الآية 219]، والسّؤال استفهام، يعني: طلب فَهْم يحتاج إلى جواب، والسّؤال إمّا أن يكون من جاهل لعالم، كالتّلميذ يسأل أستاذه ليعلم الجواب، أو: من عالم لجاهل، كالأستاذ يسأل تلميذه ليمتحنه.

وقد كانوا يسألون النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أسئلة كثيرة، مثل: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى﴾ [البقرة: من الآية 222]، وحينما استعرضنا ﴿يَسْأَلُونَكَ﴾  في القرآن الكريم وجدنا جوابها مسبوقاً بـ ﴿قُلْ﴾، كما في قوله سبحانه وتعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾[البقرة: من الآية 219]، وقوله جلّ جلاله: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ﴾ [البقرة: من الآية 189]، وهكذا في الآيات كلّها، ما عدا قوله سبحانه وتعالى هنا: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا﴾، فاقترن الفعل ﴿قُلْ﴾ بالفاء، لماذا؟ قال العلماء: لأنّ السّؤال في كُلِّ هذه الآيات سؤال عن شيء وقع بالفعل، فكان الجواب بـ ﴿قُلْ﴾، مثل: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى﴾ [البقرة: من الآية 222]، أمّا: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ﴾، قال في الجواب: ﴿فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا﴾؛ لأنّه حَدَثٌ لم يقع بَعْد، والحقّ سبحانه وتعالى يُخبر رسوله صلّى الله عليه وسلّم أنّه سيُسأل هذا السّؤال، فكأنّ (الفاء) هنا دَلَّتْ على شرط مُقدّر، بمعنى: إنْ سألوك بالفعل، فقُلْ: كذا وكذا، فالسّؤال عن الجبال لم يكُنْ وقت نزول الآية، أمَّا الأسئلة الأخرى فكانت موجودة، وسُئِلت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل نزول آياتها.

وقد تأتي إجابة السّؤال دون: ﴿قُلْ﴾، كما في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾[البقرة: من الآية 186]، ولم يقُلْ هنا: ﴿قُلْ﴾ أو ﴿فقُلْ﴾؛ لأنّها تدلُّ على الواسطة بين الله سبحانه وتعالى وبين عباده، وكأنّ الحقّ سبحانه وتعالى يُوضّح أنّه قريب من عباده.

والنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم نهاهم عن السّؤال، فقال: «دَعُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِسُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ»([1]).

﴿فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا﴾: تكلّمنا عن هذا المعنى في قوله سبحانه وتعالى: ﴿لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا﴾[طه: من الآية 97]، فالمراد: نُفتِّتها ونذروها في الهواء، وأكَّد النّسف، فقال: ﴿نَسْفًا﴾ [طه: من الآية 97]، ليؤكّد أنّ الجبل سيتفتّت إلى ذرّات صغيرة يذروها الهواء، فقد يتصوَّر بعضهم أنّ الجبال تُهَدُّ، وتتحوّل إلى كُتَل صخريّة كما نُفجِّر الصّخور الآن إلى قطع كبيرة؛ لذلك أكّد على النّسف، وأنّ الجبال ستكون ذرّات تتطاير؛ لذلك قال في آيةٍ أخرى: ﴿وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ﴾[القارعة]؛ أي: كالصّوف المندوف، لكن لماذا ذكر الجبال بالذّات؟ الجبال يُضرب بها المثل في الثّبات، كما في قوله الحقّ سبحانه وتعالى: ﴿وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ﴾[إبراهيم]، فالجبال مظهر للثّبات، وقد يتساءل الإنسان عن هذا الخلْق الثّابت المستقرّ، ماذا سيفعل الله سبحانه وتعالى به؟

([1]) صحيح البخاريّ: كِتَابُ الِاعْتِصَامِ بِالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، بَابُ الِاقْتِدَاءِ بِسُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم، الحديث رقم (7288).

الآية رقم (95) - قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ

﴿قَالَ فَمَا خَطْبُكَ﴾: أي: ما شأنك؟ وما قصّتك؟ والخَطْب: يُقال في الحدَث المهمّ الّذي يُسمُّونه الحدَث الجلَل، وليس الحدث العابر الّذي لا يقف عنده أحد، ومن ذلك قوله سبحانه وتعالى: ﴿قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ﴾[يوسف: من الآية 51]، وما حكاه القرآن الكريم من قول موسى عليه السلام لابنتَيْ شعيب: ﴿مَا خَطْبُكُمَا﴾[القصص: من الآية 23]. ثمّ يقول الحقّ سبحانه وتعالى عن السّامريّ:

الآية رقم (96) - قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي

﴿قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ﴾: مادّة: (بَصُر) منها أبصرت للرّؤية الحسّيّة، وبصرت للرّؤية العلميّة؛ أي: بمعنى علمتُ.

فمعنى: ﴿بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ﴾: يعني: اقتنعتُ بأمرٍ هم غير مقتنعين به، فأنا فعلتُ وهم قَلَّدوني فيما فعلتُ من مسألة العِجْل، وقد أدَّى به اجتهاده إلى صناعة العجل؛ لأنّه رأى قومه يحبّون الأصنام، وسبق أنْ طلبوا من موسى عليه السلام أن يجعل لهم إلهاً لـمّا رأوا قوماً يعبدون الأصنام، فانتهز السّامريُّ فرصة غياب موسى عليه السلام، وقال لهم: سأصنع لكم ما لم يستطع موسى صناعته، بل وأزيدكم فيه، لقد طلبتم مجرّد صنم من حجارة، إنّما أنا سأجعل لكم عِجْلاً جَسَداً من الذّهب، وله صوت وخُوَار مسموع.

﴿فَقَبَضْتُ قَبْضَةً﴾: قبض على الشّيء: أخذه بجُمْع يده، ومثلها: قَبصَ.

﴿مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ﴾: للعلماء في هذه المسألة روايات متعدّدة، منها: أنّ السّامريّ حين كان جبريل عليه السلام يتعَهَّده وهو صغير، كان يأتيه على جواد فلاحظ السّامريّ أنّ الجواد كلّما مَرَّ على شيء اخضرّ مكان حافره، ودَبَّتْ الحياة فيه، لذلك: فأصحاب هذا القول رأوا أنّ العجل كان حقيقيّاً، وله صوت طبيعيّ، وليس مجرّد مرور الهواء من خلاله.

ورَأْي آخر يقول: ﴿مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ﴾: الرّسول كما نعلم هو المبلِّغ لشرع الله عزَّ وجلَّ المباشر للمبلَّغ، أمّا جبريل عليه السّلام فهو رسول للرّسول، ولم يَرَه أحد فأُطلِقت الرّسول على حامل المنهج إلى المتكلّم به، لكنّها قد تُطلق ويُراد بها التّهكّم، كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: ﴿الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ﴾[المنافقون: من الآية 7]، فيقولون: ﴿رَسُولِ اللَّهِ﴾ تهكّماً لا إيماناً بها، وكذلك في قوله عزَّ وجلَّ: ﴿وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ﴾ [الفرقان: 7]، فقد يُرَاد بها التّهكّم، لكن ما المراد بأثر الرّسول؟ الرّسول موسى عليه السلام جاء لِيُبلِّغ شرعاً من الله عزَّ وجلَّ، وهذا هو أثره الّذي يبقى من بعده، فيكون المعنى: قبضتُ قبضة من شرع الرّسول، قبضة من قمّته، وهي مسألة الإله الواحد الأحد المعبود، لا صنمَ ولا خلافه.

﴿فَنَبَذْتُهَا﴾: أي: أبعدتُها وطرحتها عن مُخيِّلتي، ثمّ تركتُ لنفسي العنان في أن تفكّر فيما وراء هذا، بدليل أنّه قال بعدها:

﴿وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي﴾: أي: زيَّنتها لي، وألجأتني إلى معصية، فلا يقال: سوَّلَتْ لي نفسي الطّاعة، إنّما المعصية وهي أن يأخذ شيئاً من أثر الرّسول ووَحْيه الّذي جاء به من الله عزَّ وجلَّ، ثمّ يطرحه عن منهجه ويُبعده عن فِكْره، ثمّ يسير بِمَحْض اختياره.

الآية رقم (97) - قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَّنْ تُخْلَفَهُ وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا

﴿قَالَ فَاذْهَبْ﴾: كان ردّ موسى عليه السلام على هذه الفعْلة من السّامريّ: جزاؤك أن تذهب، ويكون قولك الملازم لك:

﴿لَا مِسَاسَ﴾: والـمِسَاس؛ أي: المسّ، المعنى يحتمل: لا مساس مِنّي لأحد، أو لا مساسَ من أحد لي، ذلك لأنّ الّذين يفترون الكذب ويدَّعُون أنّ لهم رسالة ولهم مهمّة الأنبياء، حظُّهم من هذا كلّه أن يكون لهم أتباع ومكانة في قلوب النّاس، فعندما قال له: ﴿لَا مِسَاسَ﴾؛ أي: لا تستطيع أن تخالط النّاس أبداً، بل تصبح منبوذاً، وهكذا كانت نهاية السّامريّ أن ينعزل عن مجتمعه، ويهيم على وجهه في البراري، ويفرّ من النّاس، فلا يمسّه أحد، بعد أنْ صدمه الحقّ، وواجهتْه صَوْلته، فكأنّ الحقّ تبارك وتعالى قال للسّامريّ: ستُعاقب بالمجتمع نفسه الّذي كنت تريد منه العِزّة والسُّلْطة والسّيطرة والذّكر، فتتبرّأ أنت منهم وتفرّ من جوارهم، ولا تتحمّل أنْ يمسَّك أحد منهم، فهم سبب بلائك، ومصدر فتنتك، كما قال جل جلاله: ﴿الأَخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ ﴾[الزّخرف].

﴿وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ﴾: أي: ما ينتظرك من عذاب الآخرة.

﴿وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا﴾: (عَاكِفاً)؛ أي: مقيماً على عبادته، والاعتكاف: الإقامة في المسجد، والانقطاع عن المجتمع الخارجيّ.

﴿لَنُحَرِّقَنَّهُ﴾: أي: نُصيِّره كالمحروق، بأنْ نبردَه بالمبرد حتّى يصبح فُتاتاً وذرّات متناثرة، بحيث يمكن أن نذروه في الهواء.

﴿ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا﴾: أي: نذروه كما يفعل الفلّاحون حين يذرون الحبوب لفَصْل القِشْر عنها بآلة تسمّى (المنسف) تشبه الغربال، ذلك لأنّ إلهَ السَّامريّ كان هذا العجل الّذي اتّخذه من ذهب، فلا يناسبه الحرق في النّار، إنّما نريد له عمليّة أخرى، تذهب به من أصله، فلا نُبقِي له على أثر، وهذا هو إلهك الّذي عبدته إنْ أفلح كان يدافع عن نفسه.

وبعد أن بَيَّن الحقّ سبحانه وتعالى وَجْه البطلان فيما فعله السّامريّ، ومَنْ تبعه من القوم، عاد لِيذكِّرهم بمنطق الحقّ وجادّة الطّريق، وأنّ كلَّ ما فعلوه هراء في هراء:

الآية رقم (98) - إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا

الحقّ تبارك وتعالى حينما يقول: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾: نقولها نحن هكذا، ونشهد بها، فقد تعلَّمناها من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الّذي سمعها من ربّه عزَّ وجلَّ ونقلها إلينا، فهي الشّهادة بالوحدانيّة الحقّة، شهادة من الله سبحانه وتعالى لذاته أوّلاً: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ﴾ [آل عمران: من الآية 18]، فهذه شهادة الذّات للذّات قبل أنْ يخلق شاهداً يشهد بها، ثمّ شهدتْ له بذلك الملائكة شهادةَ المشهد أنّه لا إله غيره، ثمّ شهد بذلك أولو العلم شهادة استدلال بالمخلوقات الّتي رأوْها على أبدع نظام وأعجبه، ولا يمكن أن ينشأ هذا كلّه إلّا عن إله قادر، وقد سلمتْ لله سبحانه وتعالى هذه الدَّعوْى؛ لأنّها قضيّة صادقة شَهِد بها سبحانه وتعالى لنفسه، وشَهِد بها الملائكة وأولو العلم ولم يَقُمْ لها معارض يدِّعِيها لنفسه، وإلّا -والعياذ بالله- أين ذلك الإله الّذي أخذ الله جلّ جلاله منه الألوهيّة؟ وكأنّ الحقّ سبحانه وتعالى قال: لا إله إلّا أنا، وأنا خالق الكون كلّه ومُدبِّر أمره، ولم يَأْتِ أحد حتّى من الكفّار يدَّعي شيئاً من هذا.

ونلحظ هنا في قوله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ﴾ أنّ كلمة (إله) لا تعني (الله)، وإلّا لو كان إلهاً بمعنى (الله) لأصبح المعنى: إنّما الله الله، فهناك فَرْقٌ بين اللّفظين: (الله) عَلَم على واجب الوجود الأعلى، أمّا (الإله) فهو المعبود المطاع فيما يأمر، فالمعنى: أنّ المعبود المطاع فيما يأمر به هو الله سبحانه وتعالى خالق هذا الوجود، وصاحب الوجود الأعلى، فالله سبحانه وتعالى هو المعبود المطاع بحقٍّ؛ لأنّ هناك معبوداً ومطاعاً لكن بالباطل، كالّذين يعبدون الشّمس والقمر والأشجار والأحجار ويُسمُّونهم: آلهة، فإذا كانت العبادة إطاعة أمر ونهي المعبود، فبماذا أمرتْهم هذه الآلهة؟ وعن أيِّ شيء نهتْهم؟ وماذا أعدَّتْ لمن عبدها أو لمن كفر بها؟ فهي معبودة، لكن بالباطل؛ لأنّها آلهة بلا منهج.

وكلمة: ﴿إِنَّمَا﴾: لا تأتي إلّا استدراكاً على باطل، وتريد أن تُصوِّبه، كأن تقول: إنّما الّذي حضر زيد، فلا تقولها إلّا لمن ادَّعى أنّ الّذي حضر غير زيد، فكأنّك تقول: لا، فلان لم يحضر، إنّما الّذي حضر زيد، فلا بُدَّ أنّ قوله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ﴾ جاء ردّاً على كلام قيل يدَّعي أنّ هناك إلهاً آخر، وهنا يقول: ﴿إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ﴾؛ لأنّ السّامريَّ لـمّا صنع لهم العجل قال: ﴿هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى﴾، فكذَّبه الله سبحانه وتعالى واستدرك بالحقِّ على الباطل: ﴿إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾. ثمّ أضاف الحقّ تبارك وتعالى ما يُفرِّق بين إله الحقّ وإله الباطل، فقال:

﴿وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾: لأنّه سبحانه وتعالى هو الإله الحقّ، وهذه أيضاً رَدٌّ على السّامريّ وما اتّخذه إلهاً من دون الله سبحانه وتعالى، فالعجل الّذي اتّخذه لا عِلمَ عنده، وكذلك السّامريّ الّذي أمر النّاس بعبادته، فلو كان عنده علم لعرفَ أنّ عِجْله سيُحرق ويُنسَف وتذروه الرّياح، ولعرفَ العاقبة الّتي انتهى إليها من قوله للقوم: ﴿لَا مِسَاسَ﴾، وأنّه سينزل به عذاب الدّنيا قبل عذاب الآخرة، فلو علم هذه الحقائق ما أقدمَ على هذه المسألة.

ثمّ يُبيِّن الحقّ سبحانه وتعالى حكمة القَصَص في القرآن الكريم، والقَصَص لونٌ من التّاريخ، وليس مطلق التّاريخ، القصص تاريخ لشيء مشهود يهمّ وتُفيد معرفته، وإلّا فمن التّاريخ أن نقول: كان في مكان كذا رجل يبيع كذا، وكان يفعل كذا أو كذا، فالقصص حدثٌ بارز، وله تأثيره فيمَنْ سمعه، وبه تحدث الموعظة، ومنه تؤخذ العبرة.

والتّاريخ هو ربط الأحداث بأزمنتها، فحين تربط أيَّ حدث بزمنه فقد أرَّخْتَ له، فإذا كان حَدَثاً متميّزاً نسمّيه قصّة تُروَى، فإنْ كانت قصّة شهيرة تعلو على القصص كلّها نسمّيها سيرة، لذلك خُصَّ باسم السّيرة تاريخ قصّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ لأنّ القَصَص شيء مميّز، أمّا السّيرة فهي أميز، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم خاتم الأنبياء؛ لذلك نقول عن تاريخه: سيرة، ولا نقول: قصّة؛ لأنّ واقعه في الحياة كان سَيْراً على منهج الله عزَّ وجلَّ، وعليه نزل القرآن الكريم، وكان خُلقه القرآن، والقصص يأتي مرّة بالحدث، ثمّ تدور حوله الأشخاص، أو يأتي بشخصيّة واحدة تدور حولها الأحداث، فإذا أردتَ أن تؤرّخ لثورة ما من الثّورات الّتي حدثت في التّاريخ الماضي وضعت الحدث أوّلاً، ثمّ ذكرتَ الأشخاص الّذين يدورون حوله، فإنْ أردتَ التّأريخ لشخصيّة البطل وضعت الشّخصيّة أوّلاً، ثمّ أدرت حولها الأحداث.

وقَصص القرآن الكريم تختلف عن غيرها من القصص الّتي نسمعها ونحكيها من وضع البشر وتأليفهم، فهي قصص مُخْتَرعة تُبنى على عُقْدة وَحلِّها، فيأخذ القاصُّ حدثاً، ثمّ ينسخ حوله أحداثاً من خياله، وبذلك يكونون قد أخذوا من القصص اسمه، وعدلوا عن مُسمَّاه، فهم يُسمُّون هذا النّسيج قصّة، وليست كذلك؛ لأنّ (قصّة) من قصَّ الأثر؛ أي: مشى على أثره وعلى أقدامه، لا يميل عنها ولا يحيد هنا أو هناك، فالقصّة التزام حدثيٌّ دقيق لا يحتمل التّأليف أو التّزييف، وهذا هو الفَرْق بين قَصَص القرآن الكريم الّذي سمّاه الحقّ سبحانه وتعالى: ﴿الْقَصَصُ الْحَقُّ﴾[آل عمران: من الآية 62]، و﴿أَحْسَنَ الْقَصَصِ﴾ [يوسف: من الآية 3]، وبين قَصَص البشر وتآليفهم.

القصص الحقُّ وأحسن القصص؛ لأنّه ملتزم بالحقيقة لا يتجاوزها، وله غاية سامية أَسْمى من قَصَص دنياكم، فقَصَص الدّنيا غايتها وخلاصتها إن أفلحت أن تحمينا من أحداث الدّنيا، أمّا قصص القرآن الكريم فحمايتها أوسع؛ لأنّها تحمينا في الدّنيا والآخرة، فإنْ رأينا في قصص القرآن الكريم تكراراً فلنعلم أنّه لهدف وغاية، وأنّها لقطات شتَّى لجوانب الحدَث الواحد، فإذا ما تجمّعتْ لدينا اللّقطات كلّها أعطتنا الصّورة الكاملة للحدث.

الآية رقم (99) - كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْرًا

وفي موضعٍ آخر قال سبحانه وتعالى: ﴿وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ﴾ [هود: من الآية 120]، فكأنّ فؤاده صلّى الله عليه وسلّم كان في حاجة إلى تثبيت؛ لأنّه سيتناول أحداث الحياة كلّها، وسيتعرّض لما تشيب لهَوْله الرّؤوس، ألم يَقُلْ الحقّ سبحانه وتعالى عن الرّسل قبله: ﴿وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ﴾[البقرة: من الآية 214].

﴿كَذَلِكَ﴾: أي: كما قصصنا عليك قصّة موسى وهارون وفرعون والسّامريّ نقصُّ عليك قصصاً أخرى من أنباء مَنْ سبقُوك من الرّسل.

﴿أَنْبَاءِ﴾: جمع نبأ، وهو الخبر المهمّ العظيم، فلا يُقال للأمر التّافه: نبأ، ومن ذلك قوله سبحانه وتعالى عن يوم القيامة: ﴿عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ﴾ [النّبأ].

﴿وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا﴾: وأكّد الإتيان بأنّه: ﴿مِنْ لَدُنَّا﴾؛ أي: من عندنا، فلم يَقُلْ مثلاً: (آتيناك ذِكْراً)، وهذا له معنى؛ لأنّ الكتب كلّها الّتي نزلت على الرّسل السّابقين نزلت ورُويتْ بالمعنى، ثمّ صاغها أصحابها بألفاظ من عند أنفسهم، أمَّا القرآن الكريم فهو الكتاب الوحيد الّذي نزل بلفظه ومعناه؛ لذلك قال: ﴿مِنْ لَدُنَّا﴾؛ أي: مباشرة من الله سبحانه وتعالى لرسوله صلّى الله عليه وسلّم.

﴿ذِكْرًا﴾: للذّكْر معان متعدّدة، فيُطلق الذّكر، ويُراد به القرآن الكريم، كما في قوله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾[الحجر]، ويُطلَق ويُراد به الصِّيت والشَّرف والجاه في الدّنيا، كما في قوله سبحانه وتعالى: ﴿لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾[الأنبياء: من الآية 10]؛ أي: شرفكم ورِفْعتكم بين النّاس، وقال جلّ جلاله: ﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ﴾[الزّخرف: من الآية 44].

وقد يقول قائل: كيف يكون القرآن الكريم ذكراً وشرفاً للعرب، وقد أبان عجزهم، وأظهر ما فيهم من عيٍّ؟ وهل يكون للمغلوب صِيت وشَرف؟ نقول: كونهم مغلوبين للحقّ شهادة بأنّهم أقوياء، فالقرآن الكريم أعجز العرب وهم أمّة فصاحة وبلاغة وبيان، والحقّ سبحانه وتعالى حين يتحدّى لا يتحدّى الضّعيف، إنّما يتحدّى القويّ، فكان البيان في القرآن الكريم مُعجِز.

وكذلك يُطلَق الذّكْر على كلّ كتاب أنزله الله سبحانه وتعالى، كما قال لرسوله صلّى الله عليه وسلّم: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾[النّحل: من الآية 43]؛ أي: أهل الذّكر قبلكم، وهم أهل التّوراة وأهل الإنجيل.

ويُطلَق الذّكر، ويُراد به فعل العمل الصّالح والجزاء من الله سبحانه وتعالى عليه، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾[البقرة: من الآية 152]؛ أي: اذكروني بالطّاعة أذكركم بالخير.

ويأتي الذّكْر بمعنى التّسبيح والتّحميد، وبمعنى التّذكُّر والاعتبار، فله معانٍ متعدّدة يُحدِّدها السّياق.

لكن لماذا اختار سبحانه وتعالى كلمة: ﴿ذِكْرًا﴾، ولم يقل مثلاً: كتاباً؟ قال العلماء: لأنّ الذّكْر معناه أن تذكر الشّيء بداية؛ لأنّه أمر مهمّ لا يُنسَى، وهو ذِكْر؛ لأنّه يُسْتلهم، ومن الذّكر الاعتبار والتّذكير، والشّيء لا يُذكر إلّا إذا كان له أهمّــيّة، هذه الأهمّــيّة تتناسب مع الأمر من حيث مُدّة أهمّــيّته ومقدارها، وكلّ ذكر لشيء في الدّنيا قصارى أمره أنْ يعطيك خير الدّنيا، أمّا القرآن الكريم فهو الذّكر الّذي يعطيك خيري الدّنيا والآخرة؛ لذلك فهو أهمّ ذكر يجب أنْ يظلَّ على بال الإنسان لا يُنسى أبداً، فالقرآن الكريم ذِكْر ذُكر أوّلاً، وذِكْر يُذكَر ثانياً، ويستلهم ذكراً يشمل الزّمن كلّه في الدّنيا وفي الآخرة.