﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا﴾: بعد أنْ تكلَّم الحقّ سبحانه وتعالى عن الإيمان بالله عز وجل والإيمان بصدق رسوله صلى الله عليه وسلم في البلاغ عنه، واستقبال منهج الله سبحانه وتعالى في الكتاب والسّنّة، وتكلّم عن المقابل لذلك من الكفر واللّجاج والعناد لله سبحانه وتعالى وللرّسول صلى الله عليه وسلم وللمنهج، أراد سبحانه وتعالى أنْ يعطينا واقعاً ملموساً في الحياة لذلك كلّه، فضرب لنا هذا المثل، ومعنى المثل: أن يتشابه أمران تشابهاً تامّاً في ناحيةٍ معيّنةٍ بحيث تستطيع أن تقول: هذا مثل هذا تماماً، والهدف من ضرب الأمثال أنْ يُوضِّح لك مجهولاً بمعلومٍ، فإذا كنتَ مثلاً لا تعرف شخصاً نتحدّث عنه فيمكن أن نقول لك: هو مثل فلانٍ المعلوم لك في الطّول، ومثل فلانٍ في اللّون.. إلى غير ذلك من الصّور المعلومة لك، لذلك فالشّيء الّذي لا مثيلَ له إيّاك أن تضرب له مثلاً، كما قال الحقّ سبحانه وتعالى: ﴿فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ﴾ [النّحل: من الآية 74]؛ لأنّه سبحانه وتعالى لا مثيل له، ولا نظير له، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، وهو جل جلاله الّذي يضرب المثل لنفسه، أمّا نحن فلا نضرب المثل إلّا للكائنات المخلوقة له سبحانه، لذلك نجد في القرآن الكريم أمثالاً كثيرةً توضّح لنا المجهول بمعلومٍ لنا، وتوضّح الأمر المعنويّ بالأمر الحسّيِّ الملموس لنا، ومن ذلك ما ضربه الله سبحانه وتعالى لنا مثلاً في الإنفاق في سبيل الله عز وجل، وأنّ الله سبحانه وتعالى يُضاعف النّفقة، ويُخلِف على صاحبها أضعافاً مضاعفة، فانظر كيف صوَّر لنا القرآن الكريم هذه المسألة: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة]، وهكذا أوضح لنا المثلُ الأمرَ الغيبيَّ المجهولَ بالأمرِ المحسِّ الـمُشَاهَدِ الّذي يعلمه الجميع، حتّى استقرَّ هذا المجهول في الذّهن، بل أصبح أمراً مُتيقّناً شاخصاً أمامنا.
﴿وَضَرَبَ﴾: كلمة: (ضَرَبَ) مأخوذةٌ من ضَرْب العملة، حيث كانت في الماضي من الذّهب أو الفضّة، ولخوف الغشّ فيها حيث كانوا يخلطون الذّهب مثلاً بالنّحاس، فكان الخبراء في تمييز العملة يضربونها؛ أي: يختمون عليها فتصير مُعتمدةً موثوقاً بها، ونافذةً وصالحةً للتّداول، كذلك إذا ضرب الله سبحانه وتعالى مثلاً لشيءٍ مجهولٍ بشيءٍ معلومٍ استقرَّ في الذّهن واعتُمِد، فقال سبحانه وتعالى في هذا المثل: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً﴾، الهدف من ضرب هذا المثل أنّ الحقّ سبحانه وتعالى يريد أن يوضّح لنا أنّ الإنسان إذا أنعم الله سبحانه وتعالى عليه بشتّى أنواع النّعم فجحدها، ولم يشكره عليها، ولم يُؤدِّ حقّ الله سبحانه وتعالى فيها، واستعمل نعمة الله عز وجل في معصيته فقد عرَّضها للزّوال، وعرَّض نفسه لعاقبة وخيمة ونهاية سيّئة، فقيَّد النّعمة بشكرها وأداء حقّ الله سبحانه وتعالى فيها، لذلك قال الشّاعر:
إذَا كُنْتَ في نعمةٍ فَارْعَها
وحَافِظْ عليها بشُكْرِ الإلهِ . |
|
فَإِنَّ الـمَعَاصِي تُزيلُ النِّعَم
فَإنَّ الإلَـــــــهَ شَـــــــــــــدِيدُ النِّــقَم
. |
ولكن، هل القرية الّتي ضربها الله سبحانه وتعالى لنا مثلاً هنا هي قريةٌ معيّنةٌ أو المعنى على الإطلاق؟ قد يُراد بالقرية قرية معيّنة كما قال بعض المفسّرين: إنّها مكّة، أو غيرها من القرى، وعلى كلٍّ فتحديدها أمرٌ لا فائدة منه، ولا يُؤثِّر في الهدف من ضَرْب المثل بها.
والقرية: اسمٌ للبلد الّتي يكون بها سكّان؛ أي: بلد استقرارٍ، وهي اسمٌ للمكان، فإذا حُدِّث عنها يراد المكين فيها، كما في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾ [يوسف: من الآية 82]، فالمراد: اسأل أهل القرية؛ لأنّ القرية كمكانٍ لا تُسأل، هكذا قال علماء التّفسير، على اعتبار أنّ في الآية مجازاً مرسلاً، ولكن مع تقدُّم العلم الحديث يعطينا الحقّ سبحانه وتعالى مدداً جديداً، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ﴾ [فصِّلَت: من الآية 53].
﴿كَانَتْ آمِنَةً﴾: آمنةً: أي: في مَأْمَنٍ من الإغارة عليها من خارجها، والأمن من أعظم نِعَم الله سبحانه وتعالى على البلاد والعباد.
﴿مُطْمَئِنَّةً﴾: أي: لديها مُقوِّمات الحياة، فلا تحتاج إلى غيرها، فالحياة فيها مُستقرَّةٌ مريحةٌ، والإنسان لا يطمئنّ إلّا في المكان الخالي من المنغِّصات، الّذي يجد فيه مقومات الحياة كلّها، فالأمن والطّمأنينة هما سِرُّ سعادة الحياة واستقرارها، وحينما امتنَّ الله سبحانه وتعالى على قريشٍ قال: ﴿لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ﴾ [قريش]، فطالما شبعت البطون، وأمنتْ النّفوس استقرّت بالإنسان الحياة، والرّسول صلى الله عليه وسلم يُعطينا صورةً مُثْلى للحياة الدّنيا، فيقول: «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِناً فِي سِرْبِهِ مُعَافىً فِي جَسَدِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا»([1]).
ويصف الحقّ سبحانه وتعالى هذه القرية بأنّها:
﴿يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ﴾: معلومٌ أنّ النّاس هم الّذين يخرجون لطلب الرّزق، لكن في هذه القرية يأتي إليها الرّزق، وهذا يُرجِّح القول بأنّها مكّة؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى قال عنها: ﴿أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾[القصص: من الآية 57].
﴿فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ﴾: أي: جحدت بهذه النّعم، واستعملتها في مصادمة منهج الله عز وجل، فكانت النّتيجة:
﴿فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ﴾: وكأنّ في الآية تحذيراً من الحقّ سبحانه وتعالى لكلّ مجتمعٍ يكفر بنعمة الله عز وجل، ويستعمل النّعمة في مصادمة منهجه سبحانه وتعالى، فتكون عاقبته كعاقبة هؤلاء.
﴿فَأَذَاقَهَا اللَّهُ﴾: من الذّوق، نقول: ذاق وتذوَّق الطّعام، إذا وضعه على لسانه، والذَّوْق لا يتجاوز حليمات اللّسان، فالذّوْق خاصٌّ بطعْم الأشياء، لكنّ الله سبحانه وتعالى لم يقُلْ: (أذاقها طعم الجوع)، بل قال: ﴿لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ﴾، فجعل الجوع والخوف وكأنّهما لباسٌ يلبسه الإنسان، والمتأمّل في الآية يطالع دقّة التّعبير القرآنيّ، فقد يتحوّل الجوع والخوف إلى لباسٍ يرتديه الجائع والخائف، كيف ذلك؟ الجوع يظهر أوّلاً كإحساسٍ في البطن، فإذا لم يجد طعاماً عوّض من المخزون في الجسم من شحوم، فإذا ما انتهتْ الشّحوم تغذَّى الجسم على اللّحم، ثمّ بدأ ينحت العظام، ومع شدّة الجوع نلاحظ على البشرة شحوباً، وعلى الجلد هُزَالاً وذبولاً، ثمّ ينكمش ويجفّ، وبذلك يتحوّل الجوع إلى شكلٍ خارجيٍّ على الجلد، وكأنّه لباسٌ يرتديه الجائع، ونستطيع أن نتعرّف على الجوع ليس من بطن الجائع، ولكن من هيئته وشُحوب لونه وتغيُّر بشرته، كما قال سبحانه وتعالى عن الفقراء الّذين لا يستطيعون ضرباً في الأرض: ﴿تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا﴾ [البقرة: من الآية 273]، وكذلك الخوف وإنْ كان موضعه القلب، إلّا أنّه يظهر على الجسم، فإذا زاد ترتعد الفرائص ويرتعش الجسم كلّه، فيظهر الخوف عليه كثوبٍ يرتديه، وهكذا جَسَّد لنا التّعبير القرآنيّ هذه الأحاسيس الدّاخليّة لتراها العيون، ولكنّه أدخلها تحت حاسَّة التّذوّق؛ لأنّها أقوى الحواسّ، وفي تشبيه الجوع والخوف باللّباس ما يُوحي بشمولهما الجسم كلّه، كما يلفّه اللّباس، فليس الجوع في المعدة فقط، وليس الخوف في القلب فقط.
﴿بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾: أي: أنّ الحقّ سبحانه وتعالى ما ظلمهم وما تجنَّى عليهم، بل ما أصابهم هو نتيجة عملهم وصدودهم عن سبيل الله سبحانه وتعالى، وكفرهم بأنعمه، فحبسها الله سبحانه وتعالى عنهم، فهم الّذين قابلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصُّدود والجحود والنّكران، وتعرَّضوا له ولأصحابه بالإيذاء وبيَّتوا لقتله، حتّى دعا عليهم قائلاً: «اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ»([2])، فاستجاب الحقّ سبحانه وتعالى لنبيّه صلى الله عليه وسلم، وألبسهم لباس الجوع والخوف، حتّى إنّهم كانوا يأكلون من القاذورات، ويخلطون الشّعر والوبر بالدّم فيأكلونه، وظلّوا على هذا الحال سبع سنين حتّى ضَجُّوا، وبلغ بهم الضَّنْك مُنْتهاه، فأرسلوا وفداً منهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وطلبوا منه العفو والصّفح، فكان صلى الله عليه وسلم يرسل لهم ما يأكلونه من الحلال الطّيّب.
(([1] سنن التّرمذيّ: أبواب الزّهد، باب 34، الحديث رقم (2346).
(([2] صحيح البخاريّ: أبواب الاستسقاء، باب دعاء النّبيّ ,: «اجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ»، الحديث رقم (1006).