الآية رقم (6) - مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ

فالوسوسة كما هي من الجنّ هي أيضاً من الإنس، وسوسة الجنّ هي مجرّد تزيين الأمر، أمّا وسوسة الإنس فهي أشدّ؛ لأنّ الموسوِس لك من الإنس يُشاركك ما يُزيّن لك به ويدفعك له ويتفنّن في أن تشاركه الإثم والمعصية.

﴿الْجِنَّةِ﴾: جمع جِنّيّ، وكلمة جنّ: تَدُلّ على الاستتار والاختفاء، وهم مخلوقون من مارجٍ من نارٍ، قادرون على التّشكّل بأيّة صورةٍ أرادوا، ولهم ذرّيةٌ، وفيهم الذّكر والأنثى، وهم مكلّفون كالبشر، سُـمّوا بالجنّ؛ لأنّهم مستورون عن أعين البشر، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ﴾ [الأعراف: من الآية 27]، فهم يروننا ولا نراهم، ويمتازون بخفّة الحركة وسرعتها، قانون الجنّ أخفّ من قانون الإنس، وكلّ جنسٍ يستمدّ قانونه من جرثومة تكوينه الأولى، فالإنسان مخلوقٌ من الطّين، والجنّ من النّار، والجنّ فيهم المؤمن والكافر، الطّائع والعاصي، والمتمرّدون من عالم الجنّ هم الـمَرَدة الشّياطين، فكلّ متمرّدٍ على منهج الله سبحانه وتعالى  نسمّيه شيطاناً، أكان من الجنّ أم من الإنس، طائع الجنّ مثل طائع البشر، وعاصي الجنّ مثل عاصي البشر، ومن هؤلاء وهؤلاء مردةٌ، بل شياطين الإنس أشدّ تأثيراً، وأحياناً يكون شياطين الإنس داخل الإنسان، وهو ما تزيّن له نفسه الأمّارة بالسّوء.

الآية رقم (1) - قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ

﴿أَعُوذُ﴾: الاستعاذة تعني طلب العون والملجأ والحفظ، وأنت لا تطلب العون ولا تلجأ ولا تستجير إلّا بمن هو أقوى ممّن يريد أن ينالك بشرٍّ، فحين تستحضر معنى الاستعاذة وأنت مشحونٌ بالإيمان فتلجأ إلى من خلقك وخلق ذلك الشّيطان، عندئذٍ لا بدّ أن يهرب الشّيطان من طريقك؛ لأنّه يعلم أنّك تلجأ إلى القويّ القادر.

﴿النَّاسِ﴾: هم الجنس المنحدر من آدم عليه السَّلام إلى أن تقوم السّاعة.

وقف بعض المستشرقين عند كلمة: ﴿النَّاسِ﴾، وأرادوا أن يُدخلونا من خلالها في متاهات التّشكيك بالقرآن الكريم، وقالوا: إنّ القرآن الكريم فيه تكريرٌ لا لزوم له، فلماذا أعاد كلمة ﴿النَّاسِ﴾ ثلاث مرّات؟ هم فهموا أنّ المعنى لكلمة: ﴿النَّاسِ﴾في كلّ آيةٍ من آيات هذه السّورة واحدٌ؛ لأنّهم لم يتمتّعوا بملكة اللّغة العربيّة، ولم يلتفتوا لمعنى كلمة ﴿النَّاسِ﴾ في كلّ موقعٍ، هو مختلفٌ وضروريٌّ؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى أراد لكلّ كلمةٍ في القرآن الكريم أن تكون جاذبةً لمعناها، وأن يكون كلّ معنىً جاذباً للكلمة المناسبة له، فكلمة ﴿النَّاسِ﴾ عامّةٌ حين يتعلّق الأمر بحُكمٍ عامٍّ، وتكون خاصّةً في مواضع أخرى، كقول الحقّ سبحانه وتعالى: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ﴾ [النّساء: من الآية 54]، فالمقصود بها هنا النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم.

والاستقراء الدّقيق لسورة (النَّاسِ) يدلّ على أنّ قول الحقّ سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾ إعلانٌ للرّبوبيّة للخلق كلّهم، ونحن نستعيذ به، فهو الرّبّ الّذي أوجد وأعطى الصّفات لكلّ مخلوقٍ، فلا يحسب أنّه يستطيع أن يشرد منه سبحانه وتعالى؛ لأنّه:

الآية رقم (2) - مَلِكِ النَّاسِ

أي يملك الخلق كلّهم، وجعل لهم الاختيار في أشياء، ومنع عنهم الاختيار في أشياء، ولم يقل: (مليك النّاس)، فهذا القول يعني أنّهم مجبورون على الإيمان، ولا يسعهم غير هذا، ولكنّ الله سبحانه وتعالى جعلهم مختارين في الأمور الّتي هي مناط التّكليف، وغير مختارين في أمورٍ ليست محلّاً لها.

هكذا نجد الفرق بين أن يقول سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾، وبين أن يقول: ﴿مَلِكِ النَّاسِ﴾، النّاس في الآية الأولى هم المتعلّقون بربوبيّة الله سبحانه وتعالى، وفي الآية الثّانية هم مملوكون لله جلَّ جلاله، فلا أحد يخرج عن قدرة الله سبحانه وتعالى في الأمور القهريّة، وتأتي الثّالثة:

الآية رقم (3) - إِلَهِ النَّاسِ

﴿إِلَٰهِ النَّاسِ﴾: الإله هو المعبود بحقٍّ، وهو الّذي يقيك ممّا سيأتي في الآية الرّابعة.

الآية رقم (4) - مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ

﴿الْوَسْوَاسِ﴾: هو الذي يزيّن لك أفعال الشّرّ في أُذُنك.

﴿الْخَنَّاسِ﴾: الخنوس: الرّجوع والتّأخُّر، فهو يخنس ويتراجع إذا ذُكِر الله سبحانه وتعالى.

والله سبحانه وتعالى سمّى الشّيطان الوسواس الخنّاس؛ لأنّه يوسوس للنّاس، لكنّه يخنس ويختفي إن ذُكر الله سبحانه وتعالى، وينفرد بالإنسان حين يراه منعزلاً عن ربّه.

الآية رقم (5) - الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ

وهو يوسوس في صدور النّاس الموسوَس إليهم.

هكذا نجد أنّ كلمة ﴿النَّاسِ﴾: جاءت للتّعبير عن المربوبين والمملوكين والمألوهين والموسوَس إليهم، وهذا من بلاغة اللّغة العربيّة وروعتها، وأنّ من يوسوس قد يكون من الجنّ وقد يكون من الإنس، فليس هناك تكريرٌ، بل جاءت الكلمة الواحدة بمعنىً يناسب كلّ موضعٍ جاءت فيه.

﴿يُوَسْوِسُ﴾: الوسوسة: لغةً هي الصّوت الّذي يُغري بالكلام المعسول، ولذلك أُخذت كلمة وسوسة الشّيطان من وسوسة حليّ الذّهب، له رنينٌ، يجذب الأسماع ويُغري للتّطلّع إليه، كأنّ الله سبحانه وتعالى يُحذّرنا من أنّ الشّيطان سيدخل لنا من طريق الإغراء والتّزيين، فإذا سهوت عن الله سبحانه وتعالى اجترأ عليك ووسوس لك، وإذا ذكرت الله سبحانه وتعالى خنس وضعُف، فهو لا يدخل مع الله جلَّ جلاله في معركةٍ، وإنّما يدخل مع خلق الله سبحانه وتعالى الّذين ينسونه جلَّ جلاله ويبتعدون عنه سبحانه.

﴿فِي صُدُورِ النَّاسِ﴾: أي في قلوبهم وفي نفوسهم وفي إرادتهم وفي عقولهم، فلا يكون علانيةً كما هي وسوسة النّاس للنّاس.