الآية رقم (121) - وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ

﴿ وَقُل لِّلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾: هنا يُخاطب المولى سبحانه وتعالى النّبيّ ﷺ.

﴿ اعْمَلُوا عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ ﴾: أي اصنعوا ما شئتم، معنى ذلك أنّه رسولٌ من الله عزَّ وجلّ له رصيدٌ قويٌّ من الإيمان بإلهٍ قادرٍ على الخصم، فرسول الله ﷺ والّذين آمنوا معه لا يواجهون الخصم بذواتهم، ولا بعددهم وعُدَدهم، وإنّما بالرّكن الرّكين الّذي يستندون إليه، وهو الله عزَّ وجلّ.

نحن نعلم أنّ كلّ كائنٍ منّا له مكانٌ؛ أي له حيّزٌ، يُقال: فلانٌ له مكانةٌ في القوم؛ أي له مركزٌ مرموقٌ إذا خلا منه لا يستطيع أحدٌ أن يشغله، هذه المكانة تدلّ على الشّرف والعَظَمة والسّيادة والوجاهة ونباهة الشّأن، فقول الله سبحانه وتعالى: ﴿ اعْمَلُوا عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ ﴾؛ أي اعملوا على قدر طاقتكم، فإنّ لمحمّدٍ ربّاً سينصره، وهذا تهديدٌ لهم وليس أمراً.

﴿ إِنَّا عَامِلُونَ ﴾: معنى ذلك أنّ قدراتكم كلّها محدودةٌ؛ لأنّكم من الأغيار، أمّا فعل الله سبحانه وتعالى فهو غير محدودٍ.

الآية رقم (122) - وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ

هذا تهديدٌ ووعيدٌ لأولئك الكفّار، فهم ينتظرون وعد الشّيطان لهم، والمؤمنون ينتظرون وعد الرّحمن جلَّ جلاله لهم، لذلك سيقول المؤمنون للكافرين يوم القيامة: ﴿ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا ﴾ {الأعراف: من الآية 44}.

الآية رقم (123) - وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ

﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾: ما جاء من هذه الأنباء هو غائبٌ عنكم، يُخبركم به الله سبحانه وتعالى من خِلال ما يُنزّل على رسوله ﷺ، وإذا أخبرنا في القرآن الكريم بخبرٍ لم يجئ أوانه بعد، فلنفهم أنّه قد أخبر به من له العلم بالكون وما يجري فيه، والإنسان بينه وبين المستقبل حجابٌ، وبينه وبين الماضي حجابٌ، وقد يكون الحجاب حجاب زمنٍ، وقد يكون حجاب مكانٍ، فالغيب لله سبحانه وتعالى، وقد طمر الحقّ سبحانه وتعالى في القرآن الكريم أموراً لو كشف عنها النّبيّ ﷺ لكان الحديث عنها زمن نزولها فوق مستوى العقول والإدراك، فالقرآن الكريم صالحٌ لكلّ زمانٍ ومكانٍ، وفي كلّ زمنٍ يأخذون منه ما تطيقه العقول البشريّة في ذلك الوقت.

﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ ﴾: الأمور كلّها تُرجَع إليه سبحانه وتعالى، وليس الغيب فقط.

﴿ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ۚ ﴾: هذا أمرٌ للنّبيّ ﷺ، ومن خلاله لكلّ المؤمنين، فبما أنّ الأمر يعود إليه سبحانه وتعالى، ولا يستطيع أحدٌ أن يخرج عن إرادته جلّ وعلا فأطعه، فالعبادة هي طاعةٌ.

﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ﴾: التّوكّل هو اطمئنان القلب، مع الأخذ بالأسباب.

﴿ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾: الله سبحانه وتعالى يعلم السّرّ وأخفى، وإن ظنّ الإنسان أنّه سيفلت من عقاب الدّنيا فلن يفلت من عدالة الآخرة.

الآية رقم (117) - وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ

﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ ﴾: أي يستحيل أن يُهلِك الله عزَّ وجلّ القرى بظلمٍ؛ لأنّ مُراد الحقّ سبحانه وتعالى النّفع والخير، لذلك فالظّلم غير واردٍ على الإطلاق في العلاقة بين الخالق سبحانه وتعالى وبين المخلوقات.

﴿ الْقُرَىٰ﴾: حين يورد الله عزَّ وجلّ كلمة القُرى فتعني أماكن السّكن.

﴿ بِظُلْمٍ ﴾: أي أنّه منزّهٌ عن أن يُهلكهم بمجاوزة حدٍّ، لكن لله عزَّ وجلّ أن يُهلكهم بعدلٍ؛ لأنّ العدل ميزانٌ، فإن كان الوزن ناقصاً كان الخُسران، ومن العدل العقاب، وإن كان الوزن مستوفياً كان الثّواب.

﴿ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ﴾: الإصلاح في الكون هو استقبال ما خلق الله سبحانه وتعالى لنا في الكون من ضروريّات لننتفع بها دون إفسادٍ منّا، وقد كفانا الله سبحانه وتعالى ضروريّات الحياة من طعامٍ وماءٍ وهواءٍ، وأمرنا أن نأخذ بالأسباب، وأن نتعلّم ونبحث ونبتكر، فما نصنعه نحن من تجويدٍ لأساليب الحياة ورفاهيّتها فهذا إصلاحٌ مطلوبٌ منّا، فالـمُصلح هو الّذي يترك الصّالح على صلاحه ويزيده صلاحاً يؤدّي إلى رفاهية النّاس وراحتهم، والوصول إلى الغاية بأقلّ مجهودٍ ووقتٍ، والقرى الّتي يُصلح أهلها لا يُهلكها الله سبحانه وتعالى؛ لأنّ الإصلاح يكون نتيجة اتّباع منهج الخير الّذي تتوازن به حركة الإنسان مع حركة الكون.

الآية رقم (118) - وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ

﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾: نحن نعلم أنّ الإنسان قد طرأ على الكون، والله سبحانه وتعالى خلق في الكون مقوّمات الحياة الـمُسخَّرة للإنسان، وكان من الممكن أن يجعل الله سبحانه وتعالى البشر أمّةً واحدةً مُهتديةً لا تخرج عن نظام إرادة الله سبحانه وتعالى، كما لم تخرج الشّمس أو القمر أو الهواء أو الماء أو أيٌّ من الكائنات الأخرى الـمُسخّرة لإرادته جلَّ جلاله.

﴿ وَلَوْ ﴾ تفيد الامتناع؛ أي أنّ الله سبحانه وتعالى لم يجعل النّاس أمّةً واحدةً، بل جعلهم مختلفين، وقد حاول بعض الّذين يريدون أن ينتقدوا الإسلام إثارة شبهةٍ بقولهم: ألا تتعارض هذه الآية مع قول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا﴾ {يونس: من الآية 19}؟ وظنّ أصحاب هذا القول أنّ البشر لم يلتفتوا إلى خالقهم عزَّ وجلّ من البداية، ثمّ بعث الله سبحانه وتعالى الأنبياء ليلفتهم إلى المنهج، نقول لهؤلاء: لقد ضمِن الله سبحانه وتعالى للنّاس قُوتهم وقوام حياتهم، وضمِن لهم المنهج الإيمانيّ منذ أن أمر آدم عليه السّلام وحوّاء بالهبوط إلى الأرض لممارسة مهمّة الخلافة فيها، قال سبحانه وتعالى: ﴿مَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ﴾ {طه: من الآية 123}، فنحن نعلم أنّ الله سبحانه وتعالى أنزل المنهج مع سيّدنا آدم عليه السّلام ثمّ طرأت الغفلة فاختلف النّاس، فبعث الله سبحانه وتعالى الأنبياء عليهم السَّلام ليحكموا فيما اختلف فيه النّاس، فقول الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾ يعني أنّه سبحانه وتعالى لو شاء لجعل النّاس كلّهم على هدايةٍ؛ لأنّه بعد أن خلقهم وأنزلهم إلى الأرض وأنزل لهم المنهج كانوا على هدايةٍ، لكن بحكم خاصيّة الاختيار الّتي منحهم سبحانه وتعالى إيّاها اختلفوا، لذلك يقول سبحانه وتعالى بعدها: ﴿ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118)﴾؛ أي أنّهم سيظلّون على هذا الخِلاف.

الآية رقم (108) - وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ

﴿ غَيْرَ مَجْذُوذٍ ﴾: غير ممنوعٍ ولا مقطوعٍ.

الآية رقم (119) - إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ

﴿ إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ ﴾: أي أنّ الحقّ سبحانه وتعالى قد خلق الخلق للرّحمة والاختلاف، فهذه سنّة الله سبحانه وتعالى في الخلق، فحين نرى اسم إشارةٍ أو ضميراً عائداً على كلامٍ متقدِّمٍ فنحن ننظر إلى ما تقدّمه، والحقّ سبحانه وتعالى حين تكلّم عن خلق الإنسان قال: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)﴾ {الذّاريات}، وهذا هو الـمُراد الشّرعيّ من العبادة، لكن الـمُرادات الاجتماعيّة تحكّمت فيها خاصيّة الاختيار فحدث الاختلاف، ونشأ هذا الاختلاف عن تعدّد الأهواء، فلو أنّ هوانا كان واحداً لما اختلفنا، لذلك يقول الله سبحانه وتعالى:﴿ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ﴾ {المؤمنون: من الآية 71}، وما كان للعالم أن يستقيم لو اتّبع الله سبحانه وتعالى أهواء البشر المختلفة، ولكن أحوال هذا العالم يمكن أن تستقيم إذا صدرت هذه الحركة الاختياريّة عن هوىً واحدٍ، لذلك قال النّبيّ ﷺ: «لا يؤمن أحدكم حتّى يكون هواه تَبَعاً لما جئت به»([1])، وشاء الحقّ سبحانه وتعالى أن يجعل مواهبنا مختلفةً ليرتبط العالم كلّه بعضه ببعض ارتباط تكاملٍ وضرورةٍ، لا ارتباط تفضّلٍ وتفضيلٍ، لذلك يقول المولى سبحانه وتعالى: ﴿ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ۚ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا ۗ ﴾ {الزّخرف: من الآية 32}.

فإن كان الاختلاف في المنهج فهذا ما يولّد الكفر أو الإيمان، وعندما يكون هناك كفرٌ يستشعر المؤمن حلاوة الإيمان، ولو لم يكن للكفر وظيفةٌ لما خلقه الله عزَّ وجلّ فالكفر عندما يكون موجوداً يشتدّ الإيمان في مواجهته، كما يُعاون الألمُ العافيةَ، ولولا الألم ما جاء الإنسان إلى الطّبيب ليُشخّص الدّاء ويصف الدّواء الشّافي بإذن الله سبحانه وتعالى، ولو اتّفقنا جميعاً في الأمزجة لوجدنا التّعاند والتّعارض، وهذا ما ينتشر بين أبناء المهنة الواحدة، والله سبحانه وتعالى عندما يقول: ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ ﴾ ثمّ يقول في الآية ذاتها: ﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) ﴾، فالله جلَّ جلاله عَلِم أزلاً مَن سيختار الإيمان ومَن سيختار الكفر، لسبق علمه الأزليّ بمُرادات عباده واختياراتهم.

([1]) جامع العلوم والحكم: ج1، ص43، الحديث رقم (41).

الآية رقم (109) - فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّمَّا يَعْبُدُ هَـؤُلاء مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُم مِّن قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ

﴿ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّمَّا يَعْبُدُ هَٰؤُلَاءِ ﴾: الخطاب هنا للنّبيّ ﷺ، فهل كان عليه الصّلاة والسّلام في مريةٍ؛ أي في شكٍّ؟ الجواب: إنّ قول الآمر الأعلى سبحانه وتعالى للأدنى؛ أي للنّبيّ ﷺ ينصرف إلى الدّوام؛ أي داوم على الأمر، كقوله سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1)﴾  {الأحزاب}، أليس النّبيّ ﷺ هو أوّل المتّقين؟ الجواب: بلى، وإنّما المراد إدامة التّقوى.

﴿ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُم مِّن قَبْلُ ﴾: فهم عبدوا الأصنام ليس باقتناع عقولهم، إنّما بتقليد الآباء، فإيمانهم إيمان تقليدٍ، وفي التّقليد جفافٌ للفطرة السّليمة.

﴿ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ ﴾: أي سنعطيهم جزاءهم كاملاً؛ لأنّهم يُفسدون في الكون، والله سبحانه وتعالى قد جعل لكلٍّ منهم حقّ الاختيار، وما دام الإنسان له حقٌّ في الاختيار فقد أنزل الله سبحانه وتعالى منهجاً يتضمّن تكاليف إيمانيّةٍ، فرفضوا المنهج وقلّدوا الآباء وساروا في طريق إفساد الكون، لذلك كانت النّتيجة أن يوفّيهم الله سبحانه وتعالى هذا النّصيب، وعندما نجد كلمة (نصيب) فالمقصود فيها الرّزق، وهنا المولى سبحانه وتعالى يقرّر أنّ لهم نصيباً لكن ليس من الرّزق بل مِن العذاب، وهذا تهكّمٌ وسُخريةٌ منهم.

الآية رقم (120) - وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَـذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ

﴿ وَكُلًّا نَّقُصُّ عَلَيْكَ ﴾: المقصود قصّة كلّ رسولٍ ذكرها الله سبحانه وتعالى في هذه السّورة.

﴿ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ﴾: أنباء: جمع نبأ، وهو الخبر العظيم الّذي له أهميّةٌ، والّذي يختلف فيه الحال عند العلم به، وأخبار الرّسل عليهم السَّلام تتناثر بلقطاتٍ مختلفةٍ عبر سور القرآن الكريم، وكلّ رسولٍ يُعالج الدّاء الّذي عانى منه قومه، وكذلك ما عاناه كلّ رسولٍ من عَنَت القوم المبعوث إليهم، وجاء ذِكر تلك الأنباء في القرآن الكريم لتثبيت فؤاد الرّسول ﷺ؛ لأنّ النّبيّ سيُصادف في الدّعوة المتاعب والصّعاب، فإذا ما ذُكِر له أخبار الرّسل والصّعاب الّتي تعرّضوا لها تهون عليه المصاعب.

والفؤاد هو الوعاء الّذي من مهمّته أن يكون مستعدّاً لاستقبال كلمة الحقّ تبارك وتعالى، وليقبل تنبيه الذّكرى وجلال الموعظة وكمال الوارد من الله جلّ وعلا.

﴿ وَجَاءَكَ فِي هَٰذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾: وما يأتي من الحقّ سبحانه وتعالى هو الحقّ أيضاً، والحقّ هو الشّيء الثّابت الّذي لا يطرأ عليه تغيير، والموعظة قد تتطلّب من الإنسان شيئاً فيه التزامٌ.

الآية رقم (110) - وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ

﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ ﴾: سورة (هود) هي السّورة الوحيدة في القرآن الكريم الّتي جاء فيها ذكر موسى عليه السّلام مرّتين، في بدايتها وفي نهايتها، المرّة الأولى ذكر فيها علاقته مع فرعون، والمرّة الثّانية علاقته مع بني إسرائيل.

﴿ فَاخْتُلِفَ فِيهِ ﴾: يصحّ أن يكون الاختلاف في أمر موسى عليه السّلام ويصحّ أن يكون الاختلاف في أمر الكتاب، والنّتيجة واحدةٌ؛ لأنّه لا انفصال بين موسى عليه السّلام وبين الكتاب الّذي هو التّوراة.

قد يسأل سائلٌ: ما دام موسى عليه السّلام قد أوتي الكتاب واختُلف فيه، فلماذا لم يأخذ الحقّ سبحانه وتعالى قوم موسى عليه السّلام بالعذاب كما أخذ قوم نوحٍ أو قوم عادٍ أو قوم ثمود؟ نقول: هم لم ينجوا من عذاب الله عزَّ وجلّ؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى قد جعل عذابهم آجلاً، وهو يوم الحساب، لذلك قال بعدها مباشرة:

﴿ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ﴾: فاختلف الأمر في رسالة موسى عليه السّلام فقد سبق فيه القول بالتّأجيل للحساب إلى يوم القيامة.

  ﴿ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ ﴾: فهم في شكٍّ من يوم القيامة والحساب.

الآية رقم (111) - وَإِنَّ كُـلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ

﴿ وَإِنَّ كُلًّا لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ ﴾: لا تعتقدوا أنّ تأجيل العذاب ليوم القيامة يعني الإفلات من العذاب، بل كلّ واحدٍ سيُوفّى جزاء العمل بالثّواب لمن أطاع، وبالعقاب لمن عصى أمر الله عزَّ وجلّ ونقف هنا وقفةً في أسلوب النّصّ القرآنيّ، فبعض النّاس الّذين لا يفهمون اللّغة العربيّة توقّفوا عند هذه الآية وقالوا: لماذا جاء بالتّنوين في كلمة: ﴿ كُلًّا ﴾ ؟ هم لم يعلموا أنّ التّنوين يُغني عن جملةٍ كاملةٍ، و ﴿ كُلًّا ﴾  هنا في الآية الّتي نحن بصددها توجز أنّ كلّاً من الطّائع المؤمن والعاصي الكافر سيوفّى جزاءه ثواباً أو عقاباً.

﴿ لَّمَّا ﴾: تُستعمل في اللّغة بمعنى الحين والزّمان، كقول الحقّ سبحانه وتعالى: ﴿وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ﴾  {الأعراف: من الآية 143}، وكقول الحقّ جلَّ جلاله: ﴿وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ ۖ لَوْلَا أَن تُفَنِّدُونِ (94)﴾  {يوسف}، فنفهم أنّ ﴿ لَّمَّا ﴾  هنا تخدم فكرة العقوبة الّتي كانت تأتي في الدّنيا، وشاء الله أن يؤجّل العقوبة للكافرين إلى الآخرة.

﴿ لَيُوَفِّيَنَّهُمْ ﴾: اللّام لام القَسَم بأنّ الله سبحانه وتعالى سيوفّيهم حسابهم ثواباً أو عقاباً.

 ﴿ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾: الخبير؛ أي صاحب العلم الدّقيق، والخبير يختلف عن العالِم الّذي قد يعلم الإجماليّات، لكنّ الخبير هو الـمُدرّب على التّخصّص، لذلك غالباً ما تأتي كلمتا اللّطيف والخبير معاً؛ لأنّ الخبير هو من يعلم مواقع الأشياء، واللّطيف هو من يعلم الوصول إلى مواقع تلك الأشياء.

الآية رقم (112) - فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ

﴿ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ ﴾ : الاستقامة معناها عدم الميل أو الانحراف ولو قيد شعرةٍ، وهذا أمرٌ يصعُب تحقيقه؛ لأنّ الفاصل بين الضّدّين أو بين المتقابلَين هو أدّقّ من الشّعرة في بعض الأحيان، وفي الحديث عن أبي عليّ السّريّ قال: رأيت النّبيّ ﷺ فقلت: يا رسول الله، روي عنك أنّك قلت: شيّبتني هودٌ، قال: «نعم»، فقلت: ما الّذي شيّبك, قصص الأنبياء وهلاك الأمم؟ قال: لا، ولكن قوله: ﴿ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ ﴾ ([1])، وعن أبي بكر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، عجّل إليك الشّيب! قال: «شيّبتني هودٌ وأخواتها؛ الحاقّة والواقعة وعمّ يتساءلون وهل أتاك حديث الغاشية»([2])، ولولا أنّ الله سبحانه وتعالى قال في كتابه الكريم: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾  {التّغابن: من الآية 16}، لتعب المسلمون كثيراً، فالأمر بالاستقامة هو أمرٌ بدقّة الأداء المطلوب لله سبحانه وتعالى أمراً ونهياً، بحيث لا نميل إلى جهةٍ دون جهةٍ، فتتطلّب الاستقامة كامل اليقظة وعدم الغفلة، والاستقامة هي عنوان الدّين.

﴿ وَمَن تَابَ مَعَكَ ﴾: يتحدّث المولى سبحانه وتعالى هنا عن صفةٍ من صفات المؤمن وهي التّوبة، والتّوبة هي أن تعقد العزم على ألّا تعود إلى الذّنب؛ لأنّ كلّ بني آدم خطّاء، وما دام يتحدّث عن الاستقامة فأتى بالتّوبة معها، فالاستقامة قِيمٌ كاملةٌ، وقيمٌ ضابطةٌ لحركة الإنسان في الحياة.

﴿ وَلَا تَطْغَوْا ﴾: أي ألّا تتجاوزوا الحدّ، فالإيمان قد جعل لكلّ شيءٍ حدّاً، إلّا أنّ حدود الأوامر تختلف عن حدود النّواهي، فالحقّ سبحانه وتعالى إن أمرك بشيءٍ فهو يطلب منك أن تلتزمه ولا تتعدّاه، يقول سبحانه وتعالى: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا ۚ﴾  {البقرة: من الآية 229}، هذا القول في الأوامر، أمّا في النّواهي فيقول جلّ وعلا: ﴿لْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا﴾  {البقرة: من الآية 187}؛ أي ابتعدوا عنها تماماً، ويقول النّبيّ ﷺ : «إنّ الحلال بيّنٌ وإنّ الحرام بيّنٌ وبينهما مشتبهاتٌ لا يعلمهنّ كثيرٌ من النّاس، فمن اتّقى الشّبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشّبهات وقع في الحرام كالرّاعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإنّ لكلّ ملك حمىً، ألا وإنّ حمى الله محارمه»([3])، فينهانا الله عزَّ وجلّ عن الاقتراب من شيءٍ من هذه النّواهي، وهذه اسمها استقامة الاحتياط، وهي تمنعك أن تدخل في الحرام، وجعل الله سبحانه وتعالى الاستقامة أيضاً في مسائل الطّاعة، فقال جلَّ جلاله: ﴿۞ وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ ۚ كُلُوا مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ۖ وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141)﴾  {الأنعام: من الآية 141}، فهنا نهيٌ عن الإسراف، فقد يُسرف الإنسان لحظة الحصاد لكثرة ما عنده، ثمّ تأتيه ظروفٌ صعبةٌ فيندم على إسرافه، فيعصمنا الحقّ سبحانه وتعالى من هذا الموقف، ويقول رسول الله ﷺ: «سدّدوا وقاربوا، واعلموا أنّه لن يدخل أحدكم عمله الجنّة، وأنّ أحبّ الأعمال أدومها إلى الله وإن قلّ»([4])؛ لأنّ الدّين قويٌّ متينٌ، لذلك أمرنا الله سبحانه وتعالى بالاستقامة وعدم الطّغيان.

﴿ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾: يعلم حركة العباد، فهذه الحركة مرئيّةٌ.

([1]) شعب الإيمان: بابٌ في تعظيم القرآن، باب ذكر سورة هود، الحديث رقم (2439).

([2]) كنز العمّال: كتاب الأذكار من قسم الأفعال من الكتاب الثّاني من حرف الهمزة، باب البقرة، الحديث رقم (4092).

([3]) صحيح مسلم: كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشّبهات، الحديث رقم (1599).

([4]) صحيح البخاريّ: كتاب الرّقاق، باب القصد والمداومة على العمل، الحديث رقم (6099).

الآية رقم (113) - وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ

﴿ وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ﴾ : الرّكون: هو الـمَيل والسّكن والمودّة، والرّكون يعني مجاملة المشركين والظّالمين وإعانتهم، وهذا يشجّعهم على التّمادي في الاستشراء بالظّلم والجحود.

﴿ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ﴾: فتصيبكم النّار بفعلكم هذا.

﴿ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ ﴾: يتخلّى الله سبحانه وتعالى عنكم، ولن ينصركم أحدٌ، فلا وليٌّ ولا ناصر إلّا الله سبحانه وتعالى.

الآية رقم (114) - وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ

﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ﴾: الصّلاة هي عماد الدّين، والخطاب هنا موجّهٌ إلى النّبيّ ﷺ، وبعد ذلك من خلال النّبيّ ﷺ لكلّ أمّته، وإقامة الصّلاة تختلف عن أداء الصّلاة، فالإقامة تعني الأداء المطلوب على الوجه الأكمل، ومنه يُقال: أقام الشّيء؛ أي جعله قائماً على الأمر الّذي يؤدّي المهمّة.

﴿ طَرَفَيِ النَّهَارِ ﴾: أي نهايته من ناحيةٍ ونهايته من النّاحية الأخرى؛ لأنّ طرف الشّيء هو النّهاية، تتحدّد نهاية الطّرفين من منطقة الوسط، فهي الفاصل بين الطّرفين، والنّهار عندنا إنّما نتعرّف عليه من بواكير الفجر الصّادق، فهذا أوّل طرفٍ نُقيم فيه صلاة الفجر، ثمّ يأتي الظّهر فإن وقع الظّهر قبل الزّوال حسِبناه من منطقة ما قبل الوسط وإن كان بعد الزّوال حسِبناه من منطقة ما بعد الوسط، وبعد الظّهر هناك العصر، وهو طرفٌ آخر.

﴿ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ ﴾: كلمة زُلَفاً هي جمع زُلفة، مأخوذةٌ من: أزلفه؛ أي قرّبه، والجمع أقلّه ثلاثةٌ، ونحن نعلم أنّ لنا في اللّيل صلاة المغرب وصلاة العشاء، لذلك نجد أنّ الإمام أبا حنيفة النّعمان يعدُّ الوتر واجباً، وهناك فرقٌ بين الفرض والواجب، والصّلاة فيها كلّ الأركان، ففيها صيامٌ؛ لأنّك تمتنع عن الطّعام والشّراب وشهوة البطن والفرج، وفيها الشّهادتان؛ لأنّك تشهد أن لا إله إلّا الله وأنّ محمّداً رسول الله، وفيها حجٌّ؛ لأنّك تتوجّه إلى الكعبة المشرّفة، وفيها زكاةٌ؛ لأنّ الصّلاة اقتطاع جزءٍ من الوقت، والزّكاة هي اقتطاع جزءٍ من المال، وأصل المال العمل، والعمل أصله اقتطاع جزءٍ من الوقت، لذلك فالصّلاة لا تسقط في حالٍ من الأحوال، إن لم تستطعها قائماً صلّيت قاعداً، وإن لم تستطعها قاعداً صلّيت مستلقياً، وهي صلةٌ مع الله عزَّ وجلّ لذلك لم تُفرض عن طريق جبريل عليه السّلام وإنّما فُرضت مباشرةً في رحلة الإسراء والـمِعراج لأهميّتها، وهي مِعراج القلوب إلى حضرة علّام الغيوب، وهي تنهى عن الفحشاء والمنكر.

﴿ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ﴾: هذا التّعقيب يضع الصّلاة في قمّة الحسنات، وقد أوضح هذا ﷺ عندما قال: «الصّلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفّراتٌ ما بينهنّ إذا اجتنب الكبائر»([1])، وقد اختلف المفسّرون في معنى السّيّئات والحسنات، فقال بعضهم: الحسنة هي ما جعل الله سبحانه وتعالى على عملها ثواباً، والسّيّئة هي ما جعل الله سبحانه وتعالى على عملها عقاباً، فبهذا المعنى أوّل الحسنات أن تشهد أن لا إله إلّا الله، فهذه حسنةٌ أذهبت الكفر؛ لأنّ الحسنات يُذهبن السّيّئات، لذلك قال بعض العلماء: إنّ المسلم إذا ارتكب معصيةً أو كبيرةً من الكبائر لا يُخلَّد في النّار؛ لأنّه إذا كانت حسنة الإيمان قد أذهبت سيّئة الكفر أفلا تُذهِب ما دون الكفر؟ فهكذا يُخفّف العقاب على المسلم، فهو ينال عقاباً من النّار، ولكنّه لا يُخلَّد فيه، فلا يمكن أن نساوي بين مَن آمن بالله عزَّ وجلّ وبين مَن لم يؤمن، وكذلك تساءل بعض العلماء: هل الفرائض فقط هي الحسنات الّتي تُذهب السّيّئات؟ الجواب: لا، فهناك أحاديثٌ وردت عن رسول الله ﷺ عن حسناتٍ من غير الفرائض، فقد قال ﷺ: «صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفّر السّنة الّتي قبله والسّنة الّتي بعده»([2])، وقال ﷺ: «من أكل طعاماً فقال: الحمد لله الّذي أطعمني هذا ورزقنيه من غير حولٍ منّي ولا قوّةٍ غفر له ما تقدّم من ذنبه، ومن لبس ثوباً فقال: الحمد لله الّذي كساني هذا من غير حولٍ منّي ولا قوّةٍ غفر له ما تقدّم من ذنبه»([3])، وقال ﷺ: «من قال: سبحان الله وبحمده في يومٍ مائة مرّةٍ حُطَّت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر»([4])، فالحسنات مطلقةٌ سواء كانت فرضاً أم غير فرضٍ، وهي تُذهِب السّيّئات. تساءل بعض العلماء أيضاً بقولهم: إنّ السّيّئة عملٌ، والعمل إذا وقع يُرفع ويُسجّل، فكيف تُذهبها الحسنة؟ وأُجيب عن هذا: إنّ ذهاب السّيّئة يكون إمّا عن طريق مَن يحفظ العمل ويكتبه عليك، فيمحوه الله عزَّ وجلّ من كتاب سيّئاتك، أو أن يعفو الله سبحانه وتعالى عنك فلا يُعاقبك عليه، أو يكون ذهاب العمل في ذاته فلا يرتفع.

وحين ننظر إلى مواقيت الصّلاة نجدها خمسة مواقيت، فمن تعلّق قلبه بالصّلاة إنّما ينشغل هذا القلب طوال وقت حركته بإقامة الصّلاة، ثمّ يأتي وقت اللّيل لينام، وكلّ من يرتكب معصيةً سينشغل فِكره بها لمدّةٍ، ولو لم يأته وقت صلاةٍ لأحسّ بالضّياع، أمّا إذا جاء وقت صلاةٍ فالقلب يتّجه طالباً المغفرة، فهي دعوةٌ متكرّرةٌ للكفّ عن الخطأ، فإذا وقع الإنسان في سيّئةٍ فليُتبعها بالحسنة؛ لأنّ الحسنة الواحدة بعشر أمثالها، وقد يُضاعفها الله تعالى، أمّا السّيّئة فإنّما تُكتب واحدةً، وقد قال ﷺ: «أرأيتم لو أنّ نهراً بباب أحدكم يغتسل منه كلّ يومٍ خمس مرّات هل يبقى من درنه شيءٌ؟»، قالوا: لا يبقى من درنه شيءٌ، قال: «فذلك مثل الصّلوات الخمس يمحو الله بهنّ الخطايا»([5]).

﴿ٰلِكَ ذِكْرَىٰ لِلذَّاكِرِينَ ﴾: أي أنّ إقامة الصّلاة طرفي النّهار وزلفاً من اللّيل هي حسناتٌ تُذهب السّيّئات، وفي ذلك ذكرى وتنبيهٌ للنّفس إلى شيءٍ غفلت عنه؛ أي أنّ هذا الشّيء كان موجوداً من قبل، ولكن جاءت الغفلة لتُنسيه، فالإخبار الأوّل أزال الجهل بهذا الشّيء، والإخبار الثّاني يُذكّرك بالحكم.

([1]) صحيح مسلم: كتاب الطّهارة، باب الصّلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفِّرات لما بينهنّ ما اجتنبت الكبائر، الحديث رقم (233).

([2]) صحيح مسلم: كتاب الصّيام، باب استحباب ثلاثة أيّام من كلّ شهر وصوم يوم عرفة وعاشوراء والاثنين والخميس، الحديث رقم (1162).

([3]) المستدرك على الصّحيحين للحاكم: ج1، ص687، الحديث رقم (1870).

([4]) صحيح البخاريّ: كتاب الدّعوات، باب فضل التّسبيح، الحديث رقم (6042).

([5]) صحيح مسلم: كتاب الدّعوات، باب فضل التّسبيح، الحديث رقم (667)، والدّرن: الوسخ.

الآية رقم (115) - وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ

﴿ وَاصْبِرْ ﴾: جاءت كلمة (اصبر) لتخدم عمليّة الاستقامة، والصّبر نوعان: صبرٌ على مشقّة الطّاعة، كصبرك على أن تقوم من النّوم لتُصلّي الفجر، وصبرٌ عن الشّهوات، وهكذا نعلم أنّ الصّبر على إطلاقه مطلوبٌ في الأمرين.

﴿ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾: المحسنين: هم الّذين أدخلوا أنفسهم في مقام الإحسان، وهو أن تُلزم نفسك بجنس ما فرض الله سبحانه وتعالى عليك من صلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ وحجٍّ؛ لأنّ العبادة ليست اقتراحاً من عابدٍ لمعبودٍ، بل الله جلَّ جلاله المعبود هو الّذي يُحدّد ما يُقرّبك إليه.

الآية رقم (116) - فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ

﴿ فَلَوْلَا ﴾: كلمة (لولا) تحضيضيّة، والتّحضيض إنّما يكون حثّاً لفعلٍ لم يأت زمنه، فإن كان الزّمن قد انتهى ولا يمكن استدراك الفعل فيه تكون (لولا) للتّحسّر والتّأسّف، كقوله سبحانه وتعالى: ﴿لَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ﴾  {يونس: من الآية 98}، وكلمة (لولا) لها استعمالان في اللّغة، فهي إن دخلت على جملةٍ اسميّةٍ فهي تدلّ على امتناع الوجود، كقول إنسانٍ لآخر: لولا أنّ فلاناً أبوك لضربتك على ما أذنبت، وتسمّى (لولا) في هذه الحالة حرف امتناعٍ لوجودٍ، وإذا دخلت (لولا) على جملةٍ فعليّةٍ فهي أداة تحضيضٍ وحثّ مُخاطَبٍ على أن يفعل شيئاً، كمَن يُشجّع طالباً على المذاكرة فيقول له: لولا ذاكرت بجدٍّ واجتهادٍ في العام الماضي لما نجحت ووصلت إلى هذه السّنة الدّراسيّة.

﴿ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ ﴾: بيّن لنا الحقّ سبحانه وتعالى أنّه قد أهلك الأمم الّتي سبقت؛ لأنّه لم توجد منهم فئةٌ تنهى عن الفساد في الأرض، وجاء الإهلاك لامتناع من يُقاوم الفساد بالأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وضرب الحقّ سبحانه وتعالى لنا المثل بالبقيّة في كلّ شيءٍ، وأنّها هي الّتي تبقى أمام الأحداث، ولنا الـمَثل في موقف سيّدنا رسول الله ﷺ مع أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها حينما سألها عن شاةٍ أُهديت له، فعن عائشة رضي الله عنها: أنّهم ذبحوا شاةً، فقال النّبيّ ﷺ: «ما بقي منها؟»، قالت: ما بقي منها إلّا كتفها، قال: «بقي كلّها غير كتفها»([1])، السّيدة عائشة رضي الله عنها نظرت بالمنظور الواقعيّ، فتركت ما يُحبّ النّبيّ ﷺ وهو الكتف وتصدّقت بباقي الشّاة، لكنّ النّبيّ ﷺ لفتَ لفتةً إيمانيّةً عظيمةً، فما تصدّقت به هو الّذي بقي، ويؤيّد هذا حديثهﷺ: «يقول ابن آدم: مالي مالي»، قال: «وهل لك يا ابن آدم من مالك إلّا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدَّقت فأمضيت؟»([2])، ويلفتنا القرآن الكريم إلى المنظور وإلى المدخور، فيقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿لْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾  {الكهف: من الآية 46}، بينما يصف سبحانه وتعالى المدخور بقوله: ﴿وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)﴾  {الكهف: من الآية 46}، وفي آيةٍ أخرى يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَّرَدًّا (76)﴾  {مريم: من الآية 76}، فلا بدّ أن ننظر إلى الباقيات في الأشياء؛ لأنّها هي الّتي يُعوّل عليها، ويلفتنا الله سبحانه وتعالى إلى ذلك في أكثر من موضعٍ في كتاب الله عزَّ وجلّ كقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ (17)﴾  {الأعلى}، وقوله جلَّ جلاله: ﴿وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ﴾  {الشّورى: من الآية 36}، فإيّاك أن تنظر إلى ما ذهب، لكن انظر إلى الباقي.

﴿ فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ ﴾: أي لولا أن كان في النّاس بقيّةٌ من الخير والإيمان واليقين، وكانوا ينهَون عن الفساد في الأرض، لولاهم لخسف الله سبحانه وتعالى الأرض بمن عليها، وهذا نتيجة هذه البقيّة، يقول سبحانه وتعالى: ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ﴾  {الرّعد: من الآية 17}، وفي العصر الحديث نقول: البقاء للأصلح، فالحقّ سبحانه إنّما يحفظ الحياة بهؤلاء الّذين ينهَون عن الفساد في الأرض؛ لأنّهم يعملون على ضوء منهج الاستقامة الّذي أمر به الله سبحانه وتعالى، وهذا المنهج لا يزيد الله جلَّ جلاله مُلكاً، ولا يزيد صفةً من صفات كماله عزَّ وجلّ؛ لأنّه سبحانه وتعالى خلق الكون بكلّ صفات الكمال فيه، وإنّما منهج الله عزَّ وجلّ يُصلح حركة الحياة والأحياء، ويعود بالخير على مخلوقات الله عزَّ وجلّ لا على الله سبحانه وتعالى، فكما رفع الحقّ سبحانه وتعالى السّماء بلا عَمَدٍ وجعل الأمور مستقرّةً متوازنةً فلكم أن تعدِلوا في الكون في الأمور الاختياريّة بميزانٍ دقيقٍ؛ لأنّ اعوجاج الميزان إنّما يُفسد حركة الحياة فيحدث الظّلم والفساد، ومن اعوجاج الميزان أن يأخذ العاطل خير الكادح، ويرى النّاسُ العاطلَ وهو يحيى في ترفٍ من سرقةٍ ورشوةٍ وغيره فيفعلون مثله، فيصير الأمر إلى انتشار الفساد، وينزوي أصحاب المواهب.

﴿ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ ۗ ﴾: وقد أنجى الحقّ سبحانه وتعالى بعضاً ممّن نهوا عن الفساد في الأرض، ونرى أمثلةً على ذلك في القرية الّتي كانت حاضرة البحر وكانت تأتيهم حيتانهم يوم السّبت شُرّعاً، اليوم الّذي منع الله سبحانه وتعالى فيه الصّيد، ويوم لا يسبتون لا تأتيهم، يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا ۙ اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا ۖ قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165)﴾  {الأعراف}، هكذا أنجى الله سبحانه وتعالى الّذين نَهوا عن السّوء في تلك القرية، لذلك نجد في بعض المجتمعات عنصرين، الأوّل: مجموعةٌ تنهى عن الفساد، وعنصرٌ آخر ينفتح على المجتمع بباب التّرف على مِصراعيه، ويكون فيه الرّشوة والسّرقة والفساد والغصب، فلا بدّ من مواجهة هذا الفساد، ولا بدّ من أن يقف المستقيم في وجه الـمُترَف والفاسد حتّى لا يتنعّم هذا بشقاء الآخرين.

﴿ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ ﴾: كلمة ﴿ ظَلَمُوا ﴾  تُبيّن أنّ مادّة التّرف الّتي عاشوا فيها جاءت من الظّلم وأخذ حقوق النّاس، ومادّة ترفٍ تعني نعمةٌ يتنعّم بها الإنسان، ومنها أَترف وأُترف؛ أي أطغته النّعمة وأنسته الـمُنعم، ومدّ الله عزَّ وجلّ له في النّعمة ليأخذه أخذ عزيزٍ مقتدرٍ، قال سبحانه وتعالى: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ (44)﴾  {الأنعام}، والّذين يحدّثنا الله سبحانه وتعالى عنهم في هذه الآية قد فتح سبحانه وتعالى عليهم أبواب الضّرّ؛ لأنّهم غفلوا عنه.

﴿ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ ﴾: أي كانوا يقطعون ما كان يجب أن يوصل، وهو اتّباع الاستقامة والخير والعدل؛ لأنّ كلمة مجرمين مأخوذةٌ من مادّة جُرم، وتعني قَطْع؛ أي قطْع اتّباع منهج الخير من السّماء، والغفلة عن الإيمان بالخالق سبحانه وتعالى، والاستغراق في التّرف الّذي حقّقوه لأنفسهم من ظلم الآخرين.

([1]) سنن التّرمذيّ: كتاب صفة القيامة والرّقائق والورع، باب 33، الحديث رقم (2470).

([2]) صحيح مسلم: كتاب الزّهد والرّقائق، الحديث رقم (2958).

الآية رقم (95) - كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا أَلاَ بُعْدًا لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ

﴿ كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَا ﴾: أي كأنّهم لم يقيموا ولم يستغنوا بهذا المكان عن أيّ مكانٍ آخر.

﴿ أَلَا ﴾: أداة استفتاحٍ ليلتفت السّامع ويُنصت.

﴿ بُعْدًا لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ ﴾: هذا ليس دعاءً على أهل مدين بالبُعد؛ لأنّهم قد هلكوا بالفعل، فكلمة (البعد) يُراد منها الفراق، وهو بينونةٌ قد تكون إلى لقاءٍ مظنونٍ، أمّا إذا كانت بينونةٌ متيقّنةٌ، كما بعدت ثمود، فتدلّ على أنّه بُعدٌ لا لقاء بعده إلى يوم القيامة، وهنا خصّ الحقّ سبحانه وتعالى ثمود بالذّكر؛ لأنّهم عُذِّبوا بالصّيحة أيضاً، فاتّفقوا بطريقة العذاب.

الآية رقم (106) - فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ

﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ ﴾: حكموا على أنفسهم بالشّقاء لخروجهم عن منهج الله سبحانه وتعالى، ويدخلون النّار أفراداً وزمراً، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ جَهَنَّمَ زُمَرًا ۖ﴾  {الزّمر: من الآية 71}، وفي موضعٍ آخر يقول سبحانه وتعالى: ﴿كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا﴾  {الأعراف: من الآية 38}، هكذا نفهم هذا الوصف الثّابت للشّقاء، فهم يجتمعون في الشّقاء لكنّهم يختلفون في نوع وكميّة العذاب، كلٌّ حسْب ذنوبه، والله سبحانه وتعالى جاء هنا بالفعل: ﴿ شَقُوا ﴾ ، ليبيّن لنا أنّهم هم الّذين اختاروا الشّقاء، فالله سبحانه وتعالى خلق العباد وترك لهم حقّ الاختيار، وأنزل لهم المنهج، وأعان مَن اختار الإيمان على الطّاعة.

﴿ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ﴾: نحن نعلم أنّ الّذي يتنفّس في النّار سيخرج الهواء من صدره ساخناً مثلما يأخذ الشّهيق ساخناً.

الآية رقم (96) - وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ

﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ ﴾: ينتقل السّياق القرآنيّ إلى موسى عليه السّلام شيخ أنبياء بني إسرائيل، وهو أكثر الأنبياء ذكراً في كتاب الله سبحانه وتعالى.

﴿ بِآيَاتِنَا ﴾: آياتٌ تدلّ على صدق موسى عليه السّلام وهي المعجزات.

﴿ وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ﴾: وسلطانٍ ظاهرٍ، وهو سلطان الحُجّة والإقناع بالعقل والعلم؛ لأنّ سلطان القوّة قد يكون فيه قهرٌ للغالِب لكنّه لا يقهر القلب، والله سبحانه وتعالى يريد قلوباً لا يريد قوالباً، ولم يكن لسيّدنا موسى عليه السّلام سلطانٌ من القوّة أمام فرعون، بل كان له سلطان الحُجّة.

الآية رقم (107) - خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ

﴿ خَالِدِينَ فِيهَا ﴾: كلمة الخلود تفيد المكث الطّويل، مكوثٌ له ابتداءٌ وليس له انتهاءٌ.

﴿ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ ﴾: الجنّة والنّار لا بدّ أن يوجد لهما ما يعلوهما ويظلّلهما، ولا بدّ أن يوجد لهما أرضٌ، وقد ذكر سبحانه وتعالى في القرآن الكريم أنّ السّماء سوف تمور وتتحرّك وتتشقّق، لكنّه قال سبحانه وتعالى: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ ۖ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48)﴾  {إبراهيم}، فتُبدّل الأرض والسّماوات بأخرى تتعلّق باليوم الآخر.

﴿ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ ﴾: عذاب الكافرين لا نهاية له، أمّا عذاب العاصي المؤمن على ما ارتكب من آثامٍ فهو لفترةٍ على قدر معاصيه ثمّ يعود ويدخل الجنّة، وبذلك يتحقّق أيضاً نقص الخلود في الجنّة؛ لأنّه لا يدخلها إلّا بعد أن يستوفي العقاب في النّار.

﴿ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ ﴾: الله جلَّ جلاله فعّالٌ لما يريد، ولا يحكُمه أيّ شيءٍ، ولا يسأله أحدٌ عمّا يفعل.