القواعد الأساسيّة المعتمدة في هذا التّفسير:

سنعتمد في هذا التّفسير القواعد العلميّة المعتمدة في كلّ التّفاسير:

أوّلاً: تفسير القرآن بالقرآن.

ثانياً: تفسير القرآن بأقوال النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم وأفعاله وسلوكه وسيرته.

ثالثاً: ما اعتُمد من أصول التّفسير وقواعده لدى كبار المفسّرين.

كما أنّنا لن نخرج عن المنهج العلميّ الّذي اعتدنا عليه، ولكن
لا بدّ من مراعاة ما يناسب هذا الزّمان وفق المعايير العلميّة؛ لأنّ القرآن الكريم يشتمل على الآيات الكونيّة العلميّة، والآيات المتعلّقة بالأحكام التّعبديّة، والآيات المتعلّقة بالأخلاق، وآيات القصص القرآنيّ.

وسنتحدّث عن أهميّة كلٍّ من هذه المواضيع في حينها، ولكن السّؤال الّذي يُطرح، لماذا جاء القرآن الكريم على شكل آيات؟ لماذا هو آيات بيّنات؟ ولماذا سمّيت هذه المعجزات بالآيات البيّنات؟

إنّ كلمة (آية) في اللّغة العربيّة تعني المعجزة، فالقرآن الكريم في كلّ كلمة منه بل في كلّ حرف يحمل معجزة، وإذا لم يستطع العقل البشريّ أن يتوصّل إليها فبسبب قصوره وليس قصوراً في القرآن الكريم، وقد يكون قصوراً في التّفسير والمفسّرين وليس قصوراً في القرآن الكريم.

فإن استغلّ بعضهم القرآن الكريم وآياته على غير ما أراد الله سبحانه وتعالى فهذا انحرافٌ بشريٌّ عن فهم النّص الإلهيّ المقدّس المعجز الّذي قال عنه الله عزَّوجل: ﴿لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ۖ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ [فصلت] من عزيزٍ حميد، من عليمٍ قدير، من رحمنٍ رحيم، من كلّ صفات الكمال والجلال لله سبحانه وتعالى فهو الكمال المطلق، وكلامه سبحانه وتعالى لا يأتيه الباطل، وإنّما يأتي الباطل من زيغ العقول.

كيفيّة التّفسير وقواعده:

أوّلاً- تفسير القرآن بالقرآن:

ولا نفسّره مثل الّذين يفسّرون آيات السّيف أو آيات القتال، ويَدّعون زوراً وبهتاناً أنّها تطلب من كلّ مسلم أن يقتل غير المسلمين. حتّى الحديث النّبويّ إذا أردنا أن نشرحه يجب أن نربطه بغيره من الأحاديث، فكيف بكتاب الله سبحانه وتعالى؟ فالقرآن الكريم يفسّر بالقرآن أوّلاً، فمثلاً حين يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ ]البقرة[ فكيف نفسّر هذه الآية بأنّ إبليس كان من الجنّ دون العودة إلى سورة (الكهف): ﴿فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ﴾[الكهف]

فلا بدّ للمفسّر من الإحاطة بالقرآن الكريم كاملاً فلا يمكن تفسير سورة (الفاتحة) مثلاً مع الجهل بتفسير غيرها من السّور؛ لأنّ هناك الكثير من الآيات يفسّر بعضها بعضاً، فبعض الآيات تعطي المدلول للآيات الأخرى، ومثال ذلك: أنّنا لو أخذنا الآية الّتي تقول: ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾ [البقرة: من الآية 191]

أو ﴿وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً﴾ [التّوبة: من الآية 36] فلا يمكن أن نفصل هذه الآيات عن غيرها في التّفسير، ولا بدّ لمن استدلّ بها على معنى مقصود أن يكون ملمّاً بالظّرف الّذي نزلت فيه، والسّياق الّذي جاءت فيه، والمكان والزّمان اللّذين نزلت فيهما. وفي آيات أخرى يقول القرآن الكريم:

﴿مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾ [المائدة: من الآية 32] ويقول سبحانه وتعالى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ [البقرة: من الآية 256] ويقول جلّ وعلا: ﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ [الكهف: من الآية 29] فلا يمكن أن أقتطع الآية القائلة: ﴿وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً ..﴾ [التّوبة: من الآية 36 [وأقول: إنّني أُمِرتُ بقتال المشركين جميعاً، فهذا تحريف للتّفسير عن المنحى الحقيقيّ وعن مقاصد الشّريعة وحقيقة التّشريع الإسلاميّ عندما لا أفسّر القرآن بالقرآن. ويقول رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم  «أمرتُ أن أقاتل النّاس حتّى يشهدوا أن لا إله إلّا الله وأنّ محمّداً رسول الله، ويُقيموا الصّلاة، ويؤتوا الزّكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلّا بحقّ الإسلام، وحسابهم على الله»([1])، فهل معنى هذا بأنّ النّبيّ : أمر بأن يقاتل النّاس؟ وأنّ علينا أن نقتل كلّ من نقابله من غير المسلمين، وأن نرفع السّيف في وجهه حتّى يقول: (لا إله إلّا الله)؟! كيف يكون ذلك ونحن نقول: إنّ الإسلام لا يجبر النّاس على الإيمان؟ لأنّ الإيمان محلّه القلب فهو: «ما وقر في القلب وصدّقه العمل»([2]) كما قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فهو عقيدة؛ والعقيدة تنعقد وتستقرّ في القلب كالعقدة المربوطة، ولا يمكن للإيمان أن ينعقد في القلب إلّا إذا اقتنع به العقل، وقد جعل الله لنا السّمع والأبصار والأفئدة من أجل أن نعقل ثمّ نؤمن نتيجة العلم اليقينيّ الّذي توصلنا إليه. والقرآن الكريم يقول: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون﴾ [النّحل]، ويقول تبارك وتعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء]، ويقول سبحانه وتعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍۢ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلْقَلْبِ لَٱنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَٱعْفُ عَنْهُمْ وَٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى ٱلْأَمْرِ….﴾   [آل عمران: من الآية 159]، ولم يقل: (اقتلهم).