الآية رقم (76) - قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَاللّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ

ويدلّل الله سبحانه وتعالى على ذلك بأنّ العبادة هي طاعة المخلوق للخالق، وأنّ الله هو السّميع العليم، ولم يقل: السّميع البصير؛ لأنّه عندما قال: ﴿أَتَعْبُدُونَ

 فهذا يحتاج إلى علمٍ.

الآية رقم (77) - قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ

الحديث كما ذكرنا سابقاً يتعلّق باليهود الّذين كانوا يحاولون في المدينة المنوّرة الاتّفاق مع المشركين ضدّ الرّسول صلّى الله عليه وسلّم، وكانوا يغالون في دينهم فهم يريدون نبيّاً من شعب بني إسرائيل، ولا يريدون أن يأتي النّبيّ من العرب، فها هو كعب بن الأشرف -وهو من أثرياء وكبار اليهود- مع أنّ لديه في التّوراة كلّ علامات النّبيّ :، ولديه أنّ هناك إلهاً واحداً، وأنّ التّوراة كتابٌ سماويٌّ، وأنّ موسى عليه السَّلام نبيٌّ من أنبياء الله سبحانه وتعالى ، وأنّ عيسى عليه السَّلام نبيٌّ من أنبياء الله عزَّ وجل، وعندما جاء محمّدٌ صلّى الله عليه وسلّم يدعو لعبادة الله سبحانه وتعالى الواحد الّذي أنزل التّوراة والإنجيل والزّبور، ذهب كعب بن الأشرف إلى مشركي مكّة وقال لهم: أنتم أهدى من محمّدٍ سبيلاً، فاليهود هم الّذين غالوا.

﴿وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا﴾: ضلّوا سابقاً وعبدوا العجل، هذا الضَّلال الأوّل، وأضلّوا كثيراً من خلفهم ممّن سار على نهجهم.

﴿وَضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ﴾: ضلّوا عن الصّراط المستقيم الّذي يؤدّي إلى الغاية وفلاح الدّنيا والآخرة، فشعب بني إسرائيل الّذين وقفوا بوجه سيّدنا موسى عليه السَّلام بعد أن تجرّؤوا وطلبوا رؤية الله سبحانه وتعالى جهرةً، وبعد أن شقّ بعصاه البحر، وبعد أن أنزل الله سبحانه وتعالى عليه المنّ والسّلوى، وبعد كلّ العطايا والآيات الّتي نزلت عليهم ضلّوا، فكان الضّلال ديدنهم في كلّ مكان.

الآية رقم (78) - لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ

﴿لُعِنَ﴾: طُرد من رحمة الله سبحانه وتعالى.

﴿الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾: خصّ الّذين كفروا منهم؛  لأنّه يوجد قسمٌ من بني إسرائيل لم يكفروا، وذلك من أجل قانون صيانة الاحتمال.

﴿عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ﴾: لُعنوا في الزّبور؛ لأنّ سيّدنا داود دعا عليهم يوم اعتدوا في السّبت: ﴿فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾ [البقرة: من الآية 65]، ولعنوا على لسان السّيّد المسيح عليه السَّلام؛ لاتّهامهم العذراء البتول السّيّدة مريم عليها السّلام بالبهتان.

﴿ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾: ما الفرق بين المعصية والاعتداء؟ المعصيّة هي إثمٌ تفعله لوحدك، أمّا إن تعدّى الإثم على الغير فهذا يكون اعتداءً، وما نراه الآن من الاعتداءات التي نراها على المسجد الأقصى وعلى الشّعب الفلسطينيّ وعلى الشّعب السّوريّ وفي كلّ مكانٍ دليلٌ على صدق القرآن الكريم.     

الآية رقم (79) - كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ

﴿كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ﴾: أي قرّروا أن يفعلوه، ومقابل التّناهي عن المنكر التّواصي بالحقّ والتّواصي بالصّبر، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ [العصر].

﴿عَن مُّنكَرٍ﴾: المنكر هو كلّ ما أنكرته الفطرة وأنكره النّاس كالقتل والسّرقة والزّنى والاعتداء.. هنا نقف عند قول النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «من رأى منكم منكراً فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، ومن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان»([1])، فالأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر لا يكون لأقوامٍ محدّدين يأمرون النّاس، ويقولون: نحن سلطة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، بل كلّ النّاس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر بالتّواصي، فأنا اليوم أوصيك بالصّبر وأنت غداً توصيني بالصّبر، يومٌ أنت موصي ويومٌ أنت موصى، يومٌ أنت تنهَى ويومٌ أنت تُنهى، إذاً هي تحصينٌ للمجتمع بأكمله وليست فئةٌ من المجتمع تُختار ويقال عنهم: هؤلاء فئة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، فإن رأيت أحدهم يدخّن السّجائر فهل تضربه لقول النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «من رأى منكم منكراً فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، ومن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان»([2])، مبرّراً ضربي له أنّني قادرٌ على ضربه، هل هذا هو معنى الحديث؟

الآية رقم (80) - تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ

﴿تَرَىٰ كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾: كما فعل اليهود أثناء غزوة الخندق، حيث اتّفق بنو النّضير مع القبائل العربيّة على رسول الله عليه الصّلاة والسّلام ومن معه من المؤمنين.

﴿لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ﴾: والنّتيجة أنّهم أحلّوا لأنفسهم غضب المولى سبحانه وتعالى فطردهم من رحمته لذلك نتيجة المآل أنّهم في العذاب خالدون.

الآية رقم (81) - وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَـكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ

فاليهود الكاذبون خارجون عن المنهج الّذي أراده الله سبحانه وتعالى والّذي نزل على موسى عليه السَّلام.

الآية رقم (71) - وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثُمَّ تَابَ اللّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ

حَسَب: يعني عدّ، وحسِب: يعني ظنّ، إذاً الفارق بالحركة الإعرابيّة بين حسَب وحسِب.

﴿وَحَسِبُوا﴾: أي ظنّوا ألّا تكون فتنةٌ فعموا وصمّوا.

﴿فِتْنَةٌ﴾: يعني اختبارٌ وابتلاءٌ من الله سبحان وتعالى لشعب بني إسرائيل، نتيجةً لقتلهم وتكذيبهم الأنبياء صلوات الله عليهم، فإذاً هم عموا وصمّوا، ووسائل الإدراك أنت مسؤولٌ عنها، جعلها الله سبحانه وتعالى لك من أجل أن تُسأَل عنها، فأوّل قضيّةٍ هم أعموا أبصارهم، فلماذا قدّم العمى هنا على الصّمم؟ رغم أنّ السّمع دائماً يقدّم على البصر، لكن هنا قدّم البصر والعمى وهو عمى القلب؛ لأنّ التّجربة الّتي يراها الإنسان هي أصدق من التّجربة الّتي يسمعها؛ فعندما تكون الفتنة والاختبار يكون أوّلاً بما رأيت أنت، وبعد ذلك بما سمعت، وما بلّغت، وكما هو معلومٌ فإنّهم ارتكبوا كلّ الجرائم، فعبدوا العجل، وطالبوا أن يروا الله سبحانه وتعالى جهراً، وخاصموا الأنبياء وكذّبوهم، بل وقتلوهم، وفي كلّ مرّةٍ كان المولى سبحانه وتعالى يتوب عليهم ويعفو عنهم، ثمّ يعودون إلى نفس ما فعلوه من عمى القلب.

وهنا تأتي آياتٌ متتابعاتٌ تتعلّق بعقيدة النّصارى

الآية رقم (72) - لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ - لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ - أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ

وقد جَمَعتُ الآيات؛ لأنّنا أمام عقيدة النّصارى، وهذه الآيات تبرز عقيدة المسلمين فيما يتعلق بالسّيّد المسيح عليه السَّلام، وحتّى يكون الأمر واضحاً وجليّاً للنّاس جميعاً يجب ألّا نبتر آيات القرآن الكريم، فسنجد كيف أعطانا الله سبحانه وتعالى الحكم الّذي يجب أن يكون سلوكيّاً فيما يتعلّق بالإخوة المسيحيّين، فهناك اختلافٌ في العقيدة بين المسلمين وبين المسيحيّين، وهذا الاختلاف هو في هذه الآيات الثّلاث، فعلينا أوّلاً أن نناقش الأمر العقائديّ بالفكر والعقل وليس بالخصام ولا بالعداوات ولا بالأثر السّلبيّ في الاختلاف بين الدّين الإسلاميّ والدّين المسيحيّ.

نبدأ بموضوع التّكفير: وهو أخطر المواضيع الّتي ابتلي بها المسلمون منذ عصر الخوارج عندما وقفوا في وجه الصّحابة وكفّروا أكبرهم وهو الإمام عليّ كرّم الله وجهه إلى عصرنا الحالي. فكلّ الحركات التّكفيريّة اعتمدت على مبدأ أنّ كلمة كفر يقابلها القتل، وهؤلاء نسمّيهم تكفيريّين: أي أنّهم حوّلوا القضيّة الفكريّة العقائديّة إلى قضيّةٍ سلوكيّةٍ وهي ارتكاب الجرائم، فهم يقولون: إنّ ديننا دين تكفيرٍ، وينسبون للدّين ما أراده أعداء الدّين، ويعاقبون النّاس على القضيّة العقائديّة وكأنّهم وكلاء عن الله عزَّ وجل، وينسَون قول الله عزَّ وجل: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ [البقرة: من الآية 256]، وقوله جلَّ جلاله: ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ﴾ [الغاشية]، فلا يجوز لك أن تحاسب الإنسان غير المسلم، فإنّ الحساب لله عزَّ وجل، وهم يغيّرون الحكم الشّرعيّ. والله سبحانه وتعالى ما أذن للمسلمين أن يقاتلوا الكافرين إلّا إذا كانوا معتدين، فقال تبارك وتعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾ [الحجّ]، كلّ الآيات الكريمة توضّح بأنّ الله سبحانه وتعالى لا يحبّ المعتدين، وتوضّح حرمة النّفس البشريّة، وقد قسّم أهل الكتاب إلى قسمين: اليهود والنّصارى، ووضع الأساس في التّعامل مع اليهود ومع النّصارى بقوله عزَّ وجل: ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ۖ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ﴾ [المائدة]، وقدّم اليهود على الّذين أشركوا، وهم أشدّ النّاس عداوةً للمسلمين.

الآية رقم (75) - مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ

﴿مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ﴾: أي أنّه عليه السَّلام من عباد الله المرسَلين، الّذين ليس لهم من الأمر ولا من التّشريع، إلّا ما أرسلهم به الله سبحانه وتعالى، وهو من جنس الرّسل قبله.

﴿وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ﴾: فالسّيّدة مريم كانت من الصّدّيقين الّذين هم أعلى الخلق رتبةً بعد الأنبياء، والصّدّيقيّة: هي العلم النّافع المثمر لليقين، والعمل الصّالح. وهذا دليلٌ على أنّ السّيّدة مريم لم تكن نبيّةً، بل أعلى أحوالها الصّديقيّة، وكفى بذلك فضلاً وشرفاً، وقد كرّمها القرآن الكريم تكريماً عظيماً بجعل سورة من سور القرآن الكريم باسمها.

﴿كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ﴾: وهذا دليلٌ ظاهرٌ على أنّهما من جنس البشر، محتاجان كما يحتاج بنو آدم إلى الطّعام والشّراب.

﴿انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ﴾: الموضّحة للحقّ، الكاشفة لليقين.

الآية رقم (58) - وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ

﴿وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ﴾: النّداء: هو الدّعوة بجهر, فالأذان هو سنّة عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لكنّه ورد في القرآن الكريم أيضاً؛ لأنّ النّداء للصّلاة هو دعوةٌ بجهرٍ.

﴿اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا﴾: يقولون: ما هذه الأصوات؟ رغم أنّ الأذان عندما يصدح فهو يشرح قلب المؤمن وغير المؤمن، طبعاً لا بدّ أن يكون الصّوت نديّاً وجميلاً حتّى لا تنعكس الصّورة، فالنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم عند الرؤيا المتعلّقة بالأذان قال لعبد الله بن زيد رضي الله عنه: «إنّها لرؤيا حقّ إن شاء الله، فقم مع بلال فألقِ عليه ما رأيت فليؤذّن به فإنّه أندى صوتاً منك»([1]), وعلّل ذلك بأنّه أندى صوتاً, ولذلك ندعو ونعمل على تحسين أداء المؤذّنين في كلّ مكان من أجل أن تكون الأصوات تناسب الكلام الذي ينطلق من حنجرة المؤذّنين الّذين قال عنهم النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «المؤذّنون أطول النّاس أعناقاً يوم القيامة»([2])؛ لأنّ هذا الكلام هو كلامٌ عظيمٌ، هو (الله أكبر) من كلّ همومك ومتاعبك وانشغالاتك في هذه الدّنيا، فإن كنت في همٍّ فالله أكبر منه، وإن كنت في عملٍ فالله أكبر منه, إذاً يجب أن يكون محصّناً بالصّوت الجميل والنّديّ، وأن لا يكون سبباً لإيذاء الأذان.

﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ﴾: كلمة العقل جاءت من: عقل النّاقة، وهو ربط قدمها بحبلٍ لكبح جماحها، وبعض النّاس أراد أن يطلق حريّة الفكر كما شاء من دون ضوابط حسب الأهواء وهذا يتنافى مع العقل, فالعقل يمنع الفكر أن يكون مبرّراً للهوى الّذي هو انحيازٌ عن الطّريق السّليم، والعقل يرشدك ألّا تؤذي جيرانك أو تسرق من مال الغير أو تقتل أو تعتدي، لذلك فالمولى سبحانه وتعالى خاطبهم بموضوع العقل؛ لأنّهم قومٌ لا يعقلون أي أنّ عقلهم لا يمنع أهواءهم، فالعقل يجعل الإنسان لا يرتكب السّيّئة؛ لأنّه يفكّر بعقوبتها وبالجزاء الحسن، والإنسان العاقل لا يعبد هواه بدلاً من الله تبارك وتعالى.

 


(([1] سنن أبي داوود: كتاب الصّلاة، باب كيف الأذان، الحديث رقم (499).
(([2] صحيح مسلم: كتاب الصّلاة، باب فضل الأذان وهرب الشّيطان عند سماعه، الحديث رقم (387).

الآية رقم (59) - قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ

الخطاب للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم, وعندما يقول المولى سبحانه وتعالى للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ﴿قُلْ﴾ كأنّه يخاطب من خلال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم الأمّة كلّها, فإن كان القائل هو الله سبحانه وتعالى فنحن نمتثل لأمر الله عزَّ وجل، والنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لا ينطق عن الهوى.

﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ﴾: الحديث موجّهٌ لليهود.

﴿هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ﴾:  فالنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال لجماعة خيبر وبني قينقاع وبني النّضير واليهود الّذين كانوا موجودين في ذلك الوقت: هل تنقمون لأنّنا آمنّا بالكتب والرّسل وبالتّوراة والإنجيل والزّبور، ومع ذلك تكرهون هذا الأمر؟

﴿وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ﴾: وهنا صيانة الاحتمال، فلم يقل: كلّكم، بل قال: ﴿أَكْثَرَكُمْ﴾ فنحن لا نهاجم اليهود كدينٍ يهوديٍّ.

﴿فَاسِقُونَ﴾: أي خارجون عن طاعة الله سبحانه وتعالى، ولو أنّكم أطعتم الله تبارك وتعالى لكنتم آمنتم بمحمّد صلّى الله عليه وسلّم.

الآية رقم (60) - قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللّهِ مَن لَّعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَـئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ

﴿قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَٰلِكَ﴾: شرّ ممّا تنقمون وتحقّقون من أذى بكراهيتكم وبغضكم وحربكم علينا؟!

﴿مَثُوبَةً عِندَ اللَّهِ﴾: هل الله عزَّ وجل يُثيب اليهود على ما يفعلونه؟ والجواب: هنا الله سبحانه وتعالى يريد أن يقلب المعايير، مثل قوله سبحانه وتعالى: ﴿فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [آل عمران: من الآية 21]، أي فأنذرهم بعذابٍ أليمٍ، فلو كان هذا القرآن من عند غير الله سبحانه وتعالى لكتب: (وأنذرهم)؛ لأنّ العذاب إنذارٌ وليس بشارةً، لكن الله جلّ وعلا أراد من خلال هذه اللّغة الّتي قدّسها القرآن الكريم أن يتهكّم بهم؛ لأنّه قلب المعايير والموازين فقال: ﴿مَثُوبَةً عِندَ اللَّهِ﴾.

﴿مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ﴾: اليهود ملعونون ومغضوبٌ عليهم، فالله جلّ وعلا لعنهم أي طردهم من رحمته، وغضب عليهم بعد أن طردهم، والغضب معناه أنّ اللّعنة لا تنفكّ عنهم أبداً، فالغضب يلاحقهم، فهم إمّا الّذين اعتدوا في السّبت، أو أنّهم الّذين عبدوا العجل، أو الّذين أنكروا وكفروا بالمسيح عليه السَّلام بعد نزول المائدة.

الآية رقم (61) - وَإِذَا جَآؤُوكُمْ قَالُوَاْ آمَنَّا وَقَد دَّخَلُواْ بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ

فهؤلاء كانوا يدخلون على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعلى المؤمنين وقلوبهم محمّلةٌ بالكفر برسول الله صلّى الله عليه وسلّم, لكنّ الله سبحانه وتعالى أعلم بما كانوا يكتمون، وأعلم بكفرهم وحقدهم وبغضهم للإسلام وللرّسول صلّى الله عليه وسلّم الّذي كان يعلم بعضاً منهم.

الآية رقم (62) - وَتَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ

﴿السُّحْتَ﴾: هو كلّ مالٍ أُخِذ بالحرام، كالرَّشوة والسَّرقة والغصب والاحتيال.

الآية رقم (63) - لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ

﴿لَوْلَا﴾: دعوة لأن تفعل ذلك.

﴿الرَّبَّانِيُّونَ﴾: هم الّذين يدّعون بأنّهم ينتسبون للرّبّ.

﴿الْأَحْبَارُ﴾: هم علماء وسدنة الدّين اليهوديّ.

فإذاً لو كانوا يمنعونهم عن قول الإثم وأكلهم السّحت، فأيّ إنسانٍ يعمل بأيّ حقلٍ من الحقول يمكن أن تأخذ بقوله وبنظريّته كعالم الفيزياء والكيمياء والطّبيب والحرفيّ والتّاجر والمزارع والسّياسيّ دون أن تكون لك علاقةٌ بسلوكه، إلّا من يحمل العلم الدّينيّ فلا يجوز أن يقول لك:

خُذْ بِعِلْمِي ولا تركنْ إلى عَمَلي         واجْنِ الثِّمارَ وخَلِّ العُودَ لِلنَّارِ

هذا الكلام غير مقبول؛ لأنّ الرّسول صلّى الله عليه وسلّم ما كان يأمر بأمرٍ إلّا كان أوّل من يمتثل له، فالقضيّة قضيّة سلوكٍ لمن يحمل الرّسالة، إن كانوا أحباراً أو علماءَ، فلا يجوز أن يقول الدّاعي إلى الله سبحانه وتعالى ما لا يعمل، فالأحبار لم ينهوا اليهود عن أكل السّحت وارتكاب الإثم.

﴿لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾: المولى سبحانه وتعالى قال: ﴿يَصْنَعُونَ﴾ ولم يقل: (يعملون)، أو: (يقولون) أو: (يفعلون)، مع أنّه عندما ذكر المؤمنين قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾ [الصّفّ]، بينما هنا قال: ﴿يَصْنَعُونَ﴾؛ لأنّه ليس فقط عملهم بارتكاب السّوء وأكل السّحت، ولكن أيضاً بقولهم، فهم لم يكونوا ينهون عن هذا, فإذاً الصّنع يجمع بين العمل والقول؛ لذلك قال الله سبحانه وتعالى: ﴿لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾.

الآية رقم (64) - وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ

كان اليهود يقولون: يد الله مغلولةٌ عن العطاء، ونحن عندما نقول: يد الله سبحانه وتعالى، نعلم أنّ أيّ صفةٍ يذكرها لنا المولى عزَّ وجل في القرآن الكريم لا تشبه أيّ صفةٍ عند النّاس، بل نضع بين قوسين قوله سبحانه وتعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشّورى: من الآية 11]، يعني هو حيٌّ جلَّ جلاله وأنت حيّ، لكن ليس كمثله شيءٌ، هو قويٌّ وأنت قويٌّ، ولكن ليس كمثله شيءٌ، له يدٌ ولك يدٌ، ولكن ليس كمثله شيءٌ، فإيّاك أن تعتقد أنّ اليد الجارحة المعروفة لنا هي الّتي نتحدّث عنها، وهنا تأتي بمعنى النّعمة، فعندما يقولون: يد الله مغلولةٌ، بمعنى نِعَم الله ممنوعةٌ, وفي قوله سبحانه وتعالى: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ﴾ [الملك: من الآية 1]، أي القدرة والقوّة وليس معناها اليد بالمعنى الحرفيّ.

﴿غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ﴾: أي شلّت أيديهم، والدّعاء هو طلبٌ، فهل يطلب الله سبحانه وتعالى من نفسه وهو الّذي يُجيب الدّعاء؟ والجواب: أنّ من يقول: يد الله مغلولة، فقولوا: غلّت أيديهم.

الآية رقم (65) - وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ

بشكلٍ عامٍّ الإيمان والتّقوى أمران متلازمان، فلا يكفي أن تقول: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله، ولا تقوم بوظائف الإيمان، فتكون كما قال سبحانه وتعالى: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا ۖ قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ۖ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [الحجرات]، والإيمان لم يرد في القرآن الكريم إلّا ومعه العمل الصّالح أو التّقوى، فإن لم يجتمع الإيمان مع التّقوى يعني هذا بأنّ الإيمان غير محقّقٍ، وأنّ الإيمان هو قولٌ باللّسان فقط.

﴿لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ﴾: تكفير السّيئات هو محوها، وكلمة (التّكفير) الّتي ترد في القرآن الكريم ترد بمعنى السّتر، والمعنى هنا: لسترنا عنهم سيّئاتهم.

﴿وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾: فكانت نتيجة تكفير السّيئات أن يدخلوا جنّات النّعيم.

الآية رقم (66) - وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ

﴿لَأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم﴾: يُعبّر عن المال بالأكل، وليس فقط عن الطّعام، فإذاً هو تعبيرٌ عامٌّ وجامعٌ، فعندما يقول:

﴿لَأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ﴾ أي نزلت عليهم الخيرات من فوقهم, فالماء الّذي ينزل من السّماء هو الّذي ينبت الزّرع وهو الّذي يحيي الضّرع.

﴿وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم﴾: أي من الأرض وما تخرج من معادن وذهبٍ ونحاسٍ وبترولٍ ونباتاتٍ, فلو أبقى الإنسانُ الصّلاح على صلاحه وأخذ بما أرسل الله سبحانه وتعالى: ﴿لَأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم﴾ لجاءهم ما يؤدّي إلى استمرار الحياة من خلال ما ينزل من رزقٍ من فوقٍ أو من تحت الأرض، والله سبحانه وتعالى جعل الإنسان يستطيع أن يبقى بلا طعامٍ ثلاثين يوماً، وبلا ماءٍ ثلاثة أيامٍ، وبلا هواءٍ نفساً واحداً، فممكن أن يحتكر البشر الطّعام فتصبر عن الطّعام ثلاثين يوماً، وتصبر عن الماء ثلاثة أيامٍ؛ لذلك هناك من يستطيع أن يحتكر الماء لكنّه أقلّ ممّن يحتكر الطّعام؛ لأنّ الإنسان بحاجة الماء أكثر، أمّا الهواء فلا يستطيع أحدٌ احتكاره إلّا الله سبحانه وتعالى، فلا يستطيع أحدٌ أن يقول: سأمنع عنك الهواء.

﴿مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ﴾: هذا قانون صيانة الاحتمال، فمنهم أمّةٌ مقتصدةٌ أو جماعةٌ مقتصدةٌ، وهم الّذين يسيرون في السّبيل القاصد، أي في السّبيل الّذي يوصل إلى الغاية.

الآية رقم (67) - يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ

﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ﴾: والنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم عمله أن يبلّغ عن الله سبحانه وتعالى، فعندما يقول سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ

أي استمرّ في التّبليغ مهما عادوك ومهما آذوك ومهما ظلموك ومهما قاتلوك.

﴿وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ﴾: لا يمكن للرّسالة أن تتجزّأ، فنأخذ منها ما نريد ونترك ما لا نريد, وعلّة المسلمين في العالم أنّهم يتعاملون مع القرآن الكريم حسب مصالحهم، يأخذون الإباحة ويدعون الإلزام، فمن المباح أن يتزوّج الرّجل أكثر من امرأة، ولكنّ الإلزام أن يكون هناك عدلٌ وألّا يؤذي زوجته الأولى، فيجب أن يعمل بالإلزام ثمّ يأخذ بالإباحة، والقضيّة نفسها بكلّ الأوامر، فأوّل ما يصبح هناك ميراثٌ يسأل فوراً عن حصّته، وهو مكلّفٌ بالنّفقة على أولاد أخيه فيترك الإلزام ويأخذ الإباحة هذا هو معنى: ﴿وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ﴾ فيجب أن تكون الرّسالة كاملةً متكاملةً.

الآية رقم (52) - فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ

يتابع المولى سبحانه وتعالى الحديث عن اليهود وعن المشركين الّذين حاولوا بشتّى الوسائل وبشتّى الطّرق مواجهة الدّعوة الإسلاميّة الّتي دعت إلى الخير وإلى وحدة المجتمع، فكان اليهود دائماً هم أساس البلاء، وخرجت حركة النّفاق الخطرة في المجتمع التي يقودها عبد الله بن أبيّ ابن سلول في مجتمع المدينة المنوّرة، هذه الحركة التي كانت أشدّ خطراً على المسلمين من مشركي مكّة نتيجةً لوجودها داخل الجسد المسلم في مجتمع المدينة المنوّرة.

﴿فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ﴾: وهم المنافقون.

﴿يُسَارِعُونَ فِيهِمْ﴾: المسارعة هي تقليل الزّمن في قطع المسافة الموصلة إلى الغاية, وهناك فارقٌ بين (يسارعون إلى) وبين (يسارعون في)، والمعنى هنا: يسارعون في نفاقهم وفي كفرهم وفي ضلالهم، بينما في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ﴾ [آل عمران: من الآية 133]، وليس: (سارعوا في مغفرةٍ) بينما هنا الآية: ﴿يُسَارِعُونَ فِيهِمْ﴾ أي أنّهم لم يكونوا يستغفرون ويسارعون إلى المغفرة، بل يتقلّبون في نفاقهم وفي كفرهم.