الآية رقم (63) - لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ

﴿لَوْلَا﴾: دعوة لأن تفعل ذلك.

﴿الرَّبَّانِيُّونَ﴾: هم الّذين يدّعون بأنّهم ينتسبون للرّبّ.

﴿الْأَحْبَارُ﴾: هم علماء وسدنة الدّين اليهوديّ.

فإذاً لو كانوا يمنعونهم عن قول الإثم وأكلهم السّحت، فأيّ إنسانٍ يعمل بأيّ حقلٍ من الحقول يمكن أن تأخذ بقوله وبنظريّته كعالم الفيزياء والكيمياء والطّبيب والحرفيّ والتّاجر والمزارع والسّياسيّ دون أن تكون لك علاقةٌ بسلوكه، إلّا من يحمل العلم الدّينيّ فلا يجوز أن يقول لك:

خُذْ بِعِلْمِي ولا تركنْ إلى عَمَلي         واجْنِ الثِّمارَ وخَلِّ العُودَ لِلنَّارِ

هذا الكلام غير مقبول؛ لأنّ الرّسول صلّى الله عليه وسلّم ما كان يأمر بأمرٍ إلّا كان أوّل من يمتثل له، فالقضيّة قضيّة سلوكٍ لمن يحمل الرّسالة، إن كانوا أحباراً أو علماءَ، فلا يجوز أن يقول الدّاعي إلى الله سبحانه وتعالى ما لا يعمل، فالأحبار لم ينهوا اليهود عن أكل السّحت وارتكاب الإثم.

﴿لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾: المولى سبحانه وتعالى قال: ﴿يَصْنَعُونَ﴾ ولم يقل: (يعملون)، أو: (يقولون) أو: (يفعلون)، مع أنّه عندما ذكر المؤمنين قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾ [الصّفّ]، بينما هنا قال: ﴿يَصْنَعُونَ﴾؛ لأنّه ليس فقط عملهم بارتكاب السّوء وأكل السّحت، ولكن أيضاً بقولهم، فهم لم يكونوا ينهون عن هذا, فإذاً الصّنع يجمع بين العمل والقول؛ لذلك قال الله سبحانه وتعالى: ﴿لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾.

الآية رقم (53) - وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ أَهَـؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ

المنافق من شدّة نفاقه يريد أن يُعتِّم ويُغطّي على ازدواجيّته فيقسم بالله كذباً أنّه مع المؤمنين، فيقول الّذين آمنوا: أهؤلاء الّذين أقسموا بالله جهد أيمانهم؟ أي بتغليظ الأيمان، فأصبح المنافقون خاسرين عندما كُشِف أمرهم.

الآية رقم (64) - وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ

كان اليهود يقولون: يد الله مغلولةٌ عن العطاء، ونحن عندما نقول: يد الله سبحانه وتعالى، نعلم أنّ أيّ صفةٍ يذكرها لنا المولى عزَّ وجل في القرآن الكريم لا تشبه أيّ صفةٍ عند النّاس، بل نضع بين قوسين قوله سبحانه وتعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشّورى: من الآية 11]، يعني هو حيٌّ جلَّ جلاله وأنت حيّ، لكن ليس كمثله شيءٌ، هو قويٌّ وأنت قويٌّ، ولكن ليس كمثله شيءٌ، له يدٌ ولك يدٌ، ولكن ليس كمثله شيءٌ، فإيّاك أن تعتقد أنّ اليد الجارحة المعروفة لنا هي الّتي نتحدّث عنها، وهنا تأتي بمعنى النّعمة، فعندما يقولون: يد الله مغلولةٌ، بمعنى نِعَم الله ممنوعةٌ, وفي قوله سبحانه وتعالى: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ﴾ [الملك: من الآية 1]، أي القدرة والقوّة وليس معناها اليد بالمعنى الحرفيّ.

﴿غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ﴾: أي شلّت أيديهم، والدّعاء هو طلبٌ، فهل يطلب الله سبحانه وتعالى من نفسه وهو الّذي يُجيب الدّعاء؟ والجواب: أنّ من يقول: يد الله مغلولة، فقولوا: غلّت أيديهم.

الآية رقم (54) - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ﴾: أي يتراجع عن الإسلام، وجواب الشّرط: ﴿فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ هذا احتياطٌ مناعيٌّ بأنّ الله سبحانه وتعالى أخبر الرّسول صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين بأنّ هناك من سيتراجع عن الإسلام، وفعلاً حدث ذلك في أيّام الرّسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم، كالأسود العنسيّ في اليمن الّذي تراجع عن الإسلام في ذلك الوقت وقُتل، ومسيلمة الكذّاب في عهد الرّسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم ارتدّ وادّعى النّبوّة، وقُتل في أيّام أبي بكرٍ الصّدّيق رضي الله عنه، وكذلك طليحة وسجاح في ذلك الوقت، إذاً الله سبحانه وتعالى أعطى احتياطاً مناعيّاً فقال مسبقاً في القرآن الكريم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ﴾، وهؤلاء المرتدّون لن ينقصوا المؤمنين؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى سوف يأتي بقومٍ يحبّهم ويحبّونه، طالما أنّ الله سبحانه وتعالى يحبّهم فمن الطّبيعيّ أنّهم يحبّونه، فهو جلّ وعلا يحبّ التّوّابين, ويحبّ المتطهّرين, إذاً الفعل من قِبَلك والمحبّة من الله تبارك وتعالى على عملك، وحسب العقل البشريّ كان بالإمكان أن تكون الجملة: (يحبّهم الله)، لكنّه قال: ﴿يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ وهذا دليلٌ على إعجاز القرآن الكريم، فبالعلم الكاشف يعلم سبحانه وتعالى بأنّ هؤلاء سيكونون على تقوى وعلى صلاحٍ، وبأنّهم سيحبّون الله عزَّ وجل فيحبّهم الله جلَّ جلاله.

الآية رقم (65) - وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ

بشكلٍ عامٍّ الإيمان والتّقوى أمران متلازمان، فلا يكفي أن تقول: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله، ولا تقوم بوظائف الإيمان، فتكون كما قال سبحانه وتعالى: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا ۖ قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ۖ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [الحجرات]، والإيمان لم يرد في القرآن الكريم إلّا ومعه العمل الصّالح أو التّقوى، فإن لم يجتمع الإيمان مع التّقوى يعني هذا بأنّ الإيمان غير محقّقٍ، وأنّ الإيمان هو قولٌ باللّسان فقط.

﴿لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ﴾: تكفير السّيئات هو محوها، وكلمة (التّكفير) الّتي ترد في القرآن الكريم ترد بمعنى السّتر، والمعنى هنا: لسترنا عنهم سيّئاتهم.

﴿وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾: فكانت نتيجة تكفير السّيئات أن يدخلوا جنّات النّعيم.

الآية رقم (55) - إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ

﴿وَلِيُّكُمُ﴾: الّذي يتولّاكم بالعناية والرّعاية والحفظ.

يكفيك أن يكون المولى سبحانه وتعالى هو من يتولّاك بالرّعاية والعناية، وأن يكون إلى جانبك في أوقات شدّتك ومحنتك.

﴿الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ: والصّلاة عماد الدّين، من أقامها فقد أقام الدّين، ومن تركها فقد هدم الدّين؛ لأنّ الصّلاة هي صلةٌ مع الخالق، وخُلُقٌ مع الخَلق، والصّلاة لا تسقط في حالٍ من الأحوال، فمن لم يستطع قائماً فليصلِّ قاعداً، وإن لم يستطع قاعداً فليصلّ مستلقياً، وإن لم يستطع مستلقياً فليصلِّ بعينيه، ويقول :: «العهد الّذي بيننا وبينهم الصّلاة، فمن تركها فقد كفر»([1]).

﴿وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ: إيتاء الزكاة هو ازدياد حركة النّاس من أجل الخير للغير، زدت من مجهودك ليزداد مدخولك، فتزداد حصّة المحتاجين من الزكاة.

﴿وَهُمْ رَاكِعُونَ: الرّكوع هو الخضوع.

 


(([1] سنن التّرمذيّ: كتاب الإيمان، باب ترك الصّلاة، الحديث رقم (2621).

الآية رقم (66) - وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ

﴿لَأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم﴾: يُعبّر عن المال بالأكل، وليس فقط عن الطّعام، فإذاً هو تعبيرٌ عامٌّ وجامعٌ، فعندما يقول:

﴿لَأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ﴾ أي نزلت عليهم الخيرات من فوقهم, فالماء الّذي ينزل من السّماء هو الّذي ينبت الزّرع وهو الّذي يحيي الضّرع.

﴿وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم﴾: أي من الأرض وما تخرج من معادن وذهبٍ ونحاسٍ وبترولٍ ونباتاتٍ, فلو أبقى الإنسانُ الصّلاح على صلاحه وأخذ بما أرسل الله سبحانه وتعالى: ﴿لَأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم﴾ لجاءهم ما يؤدّي إلى استمرار الحياة من خلال ما ينزل من رزقٍ من فوقٍ أو من تحت الأرض، والله سبحانه وتعالى جعل الإنسان يستطيع أن يبقى بلا طعامٍ ثلاثين يوماً، وبلا ماءٍ ثلاثة أيامٍ، وبلا هواءٍ نفساً واحداً، فممكن أن يحتكر البشر الطّعام فتصبر عن الطّعام ثلاثين يوماً، وتصبر عن الماء ثلاثة أيامٍ؛ لذلك هناك من يستطيع أن يحتكر الماء لكنّه أقلّ ممّن يحتكر الطّعام؛ لأنّ الإنسان بحاجة الماء أكثر، أمّا الهواء فلا يستطيع أحدٌ احتكاره إلّا الله سبحانه وتعالى، فلا يستطيع أحدٌ أن يقول: سأمنع عنك الهواء.

﴿مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ﴾: هذا قانون صيانة الاحتمال، فمنهم أمّةٌ مقتصدةٌ أو جماعةٌ مقتصدةٌ، وهم الّذين يسيرون في السّبيل القاصد، أي في السّبيل الّذي يوصل إلى الغاية.

الآية رقم (56) - وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ

من يتولّ الله ورسوله حتماً هو الغالب؛ لأنّ الّذي يتولّاه هو الغالب الّذي لا يُغلب، ولكن المهمّ أن تُبادر أنت، فالفعل الأوّل بيدك، كما قال الله سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ [محمّد].

﴿فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ: أي الجماعة الّذين يمثّلون منهج الله سبحانه وتعالى، فالفئة المؤمنة ستنتصر، ولكن هذه ليست قاعدةً، ففي معركة أُحُد كان الرّسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم معهم في المعركة، ولم يحقّق جيش المسلمين الانتصار؛ لأنّهم خالفوا أمر الرّسول صلّى الله عليه وسلّم ، فليس معنى قوله سبحانه وتعالى: ﴿إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ﴾ [محمّد: من الآية 7ٍ، بأنّ المؤمن لن يتعرّض للابتلاءات والانكسارات، وإنّما يتبعها دائماً النّصر الّذي وعد الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين عندما قال عزَّ وجل: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الرّوم: من الآية 47].

الآية رقم (35) - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ

﴿اتَّقُوا اللَّهَ﴾:  وتقوى الله سبحانه وتعالى هي الالتحام بمنهجه عزَّ وجل، والخوف منه جلّ وعلا، وهي كلّ جوامع الخير الّتي أمر بها الله جل جلاله، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الحجّ]، فدعوة الإسلام هي دعوة خيرٍ وعطاءٍ.

﴿وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ﴾: الوسيلة هي الطّاعة والالتزام بالمنهج، ويقول النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إذا سمعتم المؤذّن فقولوا مثل ما يقول، ثمّ صلّوا عليّ فإنّه من صلّى عليّ صلاة صلّى الله عليه بها عشراً، ثمّ سلوا الله لي الوسيلة فإنّها منزلةٌ في الجنّة لا تنبغي إلّا لعبدٍ من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلّت له الشّفاعة»([1])، وهنا يتبيّن أنّ الوسيلة تأتي أيضاً بمعنى المنزلة الرّفيعة في الجنّة وهي خاصّةٌ برسول الله عليه الصّلاة والسّلام، فلذلك عندما نسمع المؤذّن نصلّي على سيّدنا رسول الله : ونسأل الله عزَّ وجل له الوسيلة: «اللّهمّ ربّ هذه الدّعوة التّامّة والصّلاة القائمة آت محمّداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الّذي وعدته»([2]).

الآية رقم (46) - وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ

﴿وَقَفَّيْنَا﴾: أي أتبعنا، فقد جاء سيّدنا عيسى ابن مريم عليه السَّلام بعد سيّدنا موسى عليه السَّلام.

﴿مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾: وكلّ الرّسالات تأتي مصدّقةً لما قبلها؛ لأنّها من لدن ربٍّ واحدٍ، قال سبحانه وتعالى ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ ۖ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ [الشّورى: من الآية 13] فالعقيدة واحدة.

﴿وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ﴾: لماذا كرّر وصف الإنجيل بأنّه هدى؟ الإنجيل أوّلاً فيه هدى ونورٌ، وكلّ الرّسالات فيها هدى، وهي الطّريق السّليم الموصل لمنهج الحقّ سبحانه وتعالى، والنّور هو نور القيم الضّابطة لحركة الإنسان في المجتمع، وهو النّور الّذي ينير ظلمات المجتمع وظلمات النّفس.. إلخ.

﴿وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ﴾: وصف الله سبحانه وتعالى الإنجيل بأنّه موعظةٌ؛ لأنّه جاء بالرّوحانيّات، أمّا الأحكام فتُؤخذ من التّوراة، لذلك قال سبحانه وتعالى: ﴿وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ﴾.

الآية رقم (36) - إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ

الإنسان في هذه الحياة هو ساعاتٌ فقط، فمهما جمع وفعل فإنّ مسيرته ستنتهي بالموت، فهو يبني القصور ولكن لينظر إلى القبور، وليتذكّر أنّ كلّ ما يبنيه في هذه الدّنيا سيتركه ويموت، وأمّا المكان الّذي سيقيم به طويلاً فهو القبر، فليعمل لهذه المرحلة، فالّذين كفروا بالله سبحانه وتعالى وخالفوه لو أنّ لهم ما في الأرض جميعاً ليفتدوا به فلن يتقبّل منهم، والقرار الإلهيّ أنّ لهم عذاباً أليماً.

نسير إلى الآجال في كلّ لحظةٍ
ولم أرَ مثل الموت حقّاً كأنّما
وما أصعب التّفريط في زمن الصّبا
ترحّل من الدّنيا بزادٍ من التّقى

وأعمارنا تُطوى وهنّ مراحلُ
إذا ما تخطّته الأمانيُّ باطلُ
فكيف به والشّيب للرّأس شاملُ
فعمرك أيّامٌ وهنّ قلائلُ

إذاً مهما فعل الإنسان فإنّ العمر محدودٌ.

الآية رقم (47) - وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ

مرّ بالآيات السّابقة تفسير قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾، ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾، ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾، وبيّنا أن لا علاقة لها باستثمار الحركات الإرهابيّة للآيات القرآنيّة.

الآية رقم (37) - يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ

يتمنّون الخروج من النّار، ولكنّ العذاب مقيمٌ؛ أي لهم إقامةٌ دائمةٌ لا يفارقونها ولا تفارقهم إطلاقاً.

الآية رقم (48) - وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ

﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ﴾: الخطاب هنا للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم.

﴿بِالْحَقِّ﴾: والحقّ هو الشّيء الثّابت الّذي لا يتغيّر، وطالما أنّه من الحقّ سبحانه وتعالى فهو حقٌّ، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم هو حقٌّ، نزل عليه القرآن الكريم.

﴿مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ﴾: إذاً هو مصدّقٌ لما بين يديه من الكتب السّماويّة السّابقة ومهيمناً عليها. والقرآن الكريم هو آخر الكتب السّماويّة، وطالما أنّه آخر الكتب فيجب أن يكون مهيمناً على كلّ ما سبقه لمعالجة كلّ الأدواء الّتي كانت عبر الأزمان، فهو أمينٌ وشاهدٌ وحاكمٌ على كلّ كتابٍ قبله.

﴿فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ﴾: فاحكم يا محمد بين النّاس، عربهم وعجمهم، أميّهم وكتابيّهم بما أنزل الله سبحانه وتعالى إليك في هذا الكتاب العظيم.

الآية رقم (38) - وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ

القرآن الكريم عربيٌّ، يقول سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [يوسف]، وعند الوقوف على هذا النّصّ القرآنيّ نجد أنّ القرآن يخاطب هنا البشريّة كلّها وليس العرب فقط، والعروبة ليست حالةً عنصريّةً كما يقول بنو إسرائيل: إنّهم شعب الله المختار، فاللّغة العربيّة بالنّسبة لنا هي الوعاء الحضاريّ لكلّ الشّعوب الّتي انتمت للإسلام، وهي اللّغة المقدّسة؛ لأنّها الوعاء لكلام الله سبحانه وتعالى، قال :: «أحبّوا العرب؛ لأنّي عربيّ والقرآن عربيّ وكلام أهل الجنّة عربيّ»([1])، واللّغة العربيّة فيها ميّزاتٌ كثيرةٌ، ومعانٍ كبيرة، نزل بها القرآن الكريم فهي مقدّسةٌ بقداسة كتاب الله عزَّ وجل.

وهنا في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا

تقدّم لفظ السّارق عن السّارقة، وأنهى الله تبارك وتعالى الآية بقوله: ﴿وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ إنّ معظم من يقوم بالسّرقة هم رجالٌ، لذلك قدّم الذّكر على الأنثى، أمّا عندما قدّم الزّانية على الزّاني في قوله سبحانه وتعالى: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ﴾ [النّور: من الآية 2]؛ فلأنّ كلّ عمليّة زنا تبدأ بالإغراء.

الآية رقم (49) - وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ

﴿وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ﴾: وهنا تأكيدٌ لما تقدّم من الأمر بذلك. فقد كان اليهود يطلبون من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحكاماً مخففةً عن الحكم الشّرعيّ، ويحاولون الاحتيال على ما جاء في التّوراة وتحريفها.

﴿وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾: أي احذر أعداءك اليهود أن يدلّسوا عليك الحقّ، فلا تغترّ بهم، فإنّهم كذبةٌ كفرةٌ خونةٌ.

﴿فَإِن تَوَلَّوْا﴾: عمّا تحكم به بينهم من الحقّ، وخالفوا شرع الله سبحانه وتعالى.

﴿فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ﴾: فاعلم أنّ ذلك كائنٌ عن قدر الله سبحانه وتعالى وحكمته فيهم أن يصرفهم عن الهدى لما عليهم من الذّنوب السّالفة الّتي اقتضت إضلالهم ونكالهم.

﴿وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ﴾: كثيرٌ من النّاس خارجون عن طاعة ربّهم، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ﴾ [يوسف]، وقال عزّ وجلّ: ﴿وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [الأنعام: من الآية 116].

الآية رقم (39) - فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ

﴿فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ﴾: جاءت هذه الآية بعد الآية المتعلّقة بعقوبة السّرقة، إذ لا بدّ من التّوبة، ولا يمكن للإنسان أن يسرق أو يزني ثمّ يقول: أتوب إلى الله بعدما أرتكب الذّنوب، فالتّوبة الصّحيحة الصّادقة لا تُقبل من الإنسان إلّا بإصلاح ما أفسده، مع النّدم، وعدم مقارعة الإثم مرّةً أخرى، فهي: دعوةٌ متكرّرةٌ لإصلاح ما أفسد والكفّ عن الخطأ، والنّبيّ عليه الصّلاة والسّلام يقول: «كلّ بني آدم خطّاء، وخير الخطّائين التّوّابون»([1])، والخطّاء هو الّذي يُكثر من الخطأ، وهذا من طبيعة بني آدم، وجاء حبيب بن الحارث إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله! إنّي رجل مِقرافٌ، قال: «فتُب إلى الله يا حبيب»، قال: يا رسول الله، إنّي أتوب ثمّ أعود، قال: «فكلّما أذنبت فتب»، قال: يا رسول الله، إذاً تكثر ذنوبي، قال: «عفو الله أكبر من ذنوبك يا حبيب بن الحارث»([2])، المهم بالنّسبة للأعمال بالشّريعة الإسلاميّة هو النّيّة، فعند ارتكاب الخطأ لا بدّ من تحقيق العقوبة، ولا بدّ من التّوبة وإصلاح ما أُفسِدَ، فإن كانت التّوبة صادقةً وعاد الإنسان وأخطأ فباب التّوبة مفتوحٌ باستمرارٍ، أمّا التّوبة مع وجود النّيّة بالعودة إلى الخطأ فهذه ليست بتوبة؛ لأنّه لا يمكن لأحدٍ أن يحتال على علم الله سبحانه وتعالى ولا على قدرته.

﴿وَأَصْلَحَ﴾: لا بدّ من إعادة الشّيء المسروق إلى أصحابه، فإن لم يستطع فعليه أن يؤدّي لصاحبه ثمنه، أو يعدّه كالدّين ويوثّق حقّ صاحبه بعقدٍ، وتوثيق الحقوق أمرٌ ضروريٌّ في الإسلام حتّى لا تضيع. ومن يرتكب جرماً لا يمكن إصلاحه، فعليه التّوبة الصّادقة والنّصوحة لله تبارك وتعالى وعدم مقارعته للإثم، ولكن إن كان فيه ضررٌ على الغير أو ظلمٌ للغير فلا بدّ أن يتحلّل من جريمته وذنبه مع الغير، وعندها يتوب الله جلّ وعلا عليه، وإن لم يحقّق شروط التّوبة فلن يتوب الله عزَّ وجل عليه.

﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾: والتّوبة تكون للجاني والرّحمة للمجني عليه.

 


(([1] المستدرك على الصّحيحين: ج 4، ص 272، الحديث رقم (7617).
(([2] مجمع الزّوائد ومنبع الفوائد: ج 10، الحديث رقم (17531)، ومِقراف: صيغة مبالغة من قارف: يُقال: قارف الخطيئة: أي خالطها.

الآية رقم (50) - أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ

﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ﴾: هناك فارقٌ بين الجاهل والأمّيّ، فالأمّيّ الّذي لا يعرف تعلّمه فتستقيم الأمور، أمّا الجاهل فهو يعرف قضيّةً مخالفةً للواقع ومخالفة للحقّ ويتشبّث بها، ولا يريد أن يتخلّى عنها مهما بيّنت له الحقّ، فهذا أصعب بكثيرٍ من الأمّيّ؛ لأنّ الأمّيّ يمكن أن تعلّمه وتصلح حاله بالعلم أمّا الجاهل فلا، ولذلك يقول المولى سبحانه وتعالى: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ﴾، فهم تركوا التّوراة الّتي أنزلها الله سبحانه وتعالى وأخذوا من أحكام الجاهليّة.

الآية رقم (40) - أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ

﴿أَلَمْ تَعْلَمْ﴾: هذا استفهامٌ تقريريٌّ، وجوابه أن تقول: بلى، أعلم.

﴿لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾: فكلّ ما في الدّنيا هو ملكٌ لله عزَّ وجل.

﴿يُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ﴾: قدّم الله عزَّ وجل العذاب على المغفرة، ودوماً تأتي رحمة الله عزَّ وجل ومغفرته قبل عذابه سبحانه وتعالى، ولكن هنا قدّم الله تبارك وتعالى العذاب على المغفرة؛ لأنّ التّعقيب كان على جريمة السّرقة، فعند ارتكاب الجرم يأتي العذاب أوّلاً ومن ثمّ المغفرة، والغاية هنا ليست هي القطع، بل الرّدع عن ارتكاب الجريمة.

﴿وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾: مشيئة الله سبحانه وتعالى مطلقةٌ، وهو سبحانه وتعالى قادرٌ على كلّ شيءٍ، وهو تبارك وتعالى قادرٌ على أن يعذّب من يشاء وقادرٌ على أن يغفر لمن يشاء، وكلّ شيءٍ خاضعٌ لملكيّة الله تبارك وتعالى وقدرته وعلمه.

الآية رقم (51) - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ

سبب النّزول: قيل: نزلت في عبادة بن الصّامت وعبد الله بن أبيّ ابن سلول; فتبرأ عبادة رضي الله عليه من موالاة اليهود، وتمسّك بها ابن أبيّ وقال: إنّي أخاف أن تدور الدّوائر.

وكان هذا التّحذير الإلهيّ للمنافقين في المدينة المنوّرة الّذين كانت ولايتهم الحقيقيّة لليهود يصطفّون معهم ضدّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وبالتّالي فموالاتهم انتماءٌ لليهود وليس للمسلمين.

﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾: لأنّهم ظلموا فلم يكن لهم هداية معونةٍ من الله سبحانه وتعالى، أمّا هداية الدّلالة فهي لكلّ البشر.