﴿الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ﴾: فلو أنّهم أُخْرِجوا بحقٍّ، لفعلهم شيئاً يستدعي إخراجهم من ديارهم، كأنْ خدشوا الحياء، أو هدّدوا الأمْن، أو أجرموا، أو خرجوا على قوانين قبائلهم لكانَ إخراجهُم بحقٍّ، إنّما الواقع أنّهم ما فعلوا شيئاً، وليس لهم ذَنْب: ﴿إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ﴾، هذه المقولة عدّها المشركون جريمة تستحقّ أنْ يخرجوهم بها من ديارهم، كما قال سبحانه وتعالى في أهل الأخدود: ﴿وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾[البروج]، وفي آية أخرى: ﴿هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ﴾[المائدة: من الآية 59]، وفي قصّة لوط عليه السّلام: ﴿قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾ [النّمل: من الآية 56]، فهم أخرجوهم، لا لأنّهم أهل نجاسة ومعصية، إنّما لأنّهم أناسٌ يتطهَّرون، فالطّهارة والعفّة جريمتهم الّتي يُخْرَجُون من أجلها!! كما تقول: لا عيْبَ في فلان إلّا أنّه كريم، فهذه صفة تُمدَح لا تُذَمّ، لقد قلب هؤلاء الموازين، وخالفوا الطّبيعة السّويّة بهذه الأحكام الفاسدة الّتي تدلّ على فساد الطّباع، وأيّ فساد بعد أنْ قَلَبوا المعايير، فكرهوا ما يجب أنْ يُحبّ، وأحبّوا ما يجب أن يُكره؟ ولا أدلَّ على فساد طبائعهم من عبادتهم لحجر، وترْكهِم عبادة خالق السّموات والأرض.
﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ﴾: وفي آية أخرى يُبيِّن الحقّ سبحانه وتعالى نتيجة انعدام هذا التّدافع: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ﴾[البقرة: من الآية 251]، والفساد إنْ حدث بين النّاس في حركة الحياة فيمكن أنْ يُعوَّض ويُتدارك، أمّا إنْ تعدّى الفساد إلى مُقوِّمات اليقين الإيمانيّ في الأرض فَكرِه النّاس ما يربطهم بالسّماء، وهدموا أماكن العبادة، فهذه الطّامّة والفساد الّذي لا صلاحَ بعده، فكأنّ الآيتين تصوّران نوعاً من الإيغال في الفساد، والغلوّ في الجرائم.
ولكن كيف تفسد الأرض حين ينعدم التّدافع؟ هَبْ أنّ ظالماً مُسْتبدّاً يمتصّ خيرات جيرانه ودماءهم دون أنْ يردَّه أحد، لا شكَّ أنّ هذا سيُحدث في المجتمع تهاوناً وفوضى، ولن يجتهد أحد فوق طاقته، ولمن سيعمل وخيره لغيره؟ فهذا بداية الفساد في الأرض، فإنْ قُلْنا: هذا فساد بين النّاس في حركة حياتهم يمكن أنْ يصلح فيما بعد، فما بالنا إن امتدَّ الفساد إلى أماكن الطّاعات والعبادات، وقطع بين النّاس الرّباط الّذي يربطهم بالسّماء؟ إنْ كان الفساد الأوّل قابلاً للإصلاح، ففساد الدّين لا يصلح؛ لأنّه قد خُرِّبَت الموازين الّتي كانت تُنظِّم حركة الحياة، فأصبح المجتمع بلا ميزان وبلا ضوابط يرجع إليها، والضّوابط الأخلاقيّة مرتبطة بالدّين، فلا يمكن أن نقول: نضع أخلاقاً ولا علاقة للدّين بالموضوع؛ لأنّ القيم الأخلاقيّة الموضوعة بعيداً عن الدّين تسقط مباشرة في أوّل محطّة، فالآداب العامّة والسّلوكيّات والأخلاقيّات في المجتمعات الغربيّة عندما يهتزّ الوضع القائم، ويتحوّل الإنسان من الرّفاه ومن حالة الرّكون إلى حالة الفقر والضّعف يدوس عليها وعلى كلّ شيء، ولا تبقى موازين ولا ضوابط؛ لأنّ هذه الأخلاق لا ترتبط بالآخرة، ولا ترتبط بحساب وعقاب، ولا ترتبط برقابة، رقابة الضّمير بأن يشعر الإنسان أنّ الله سبحانه وتعالى يراه، وأنّه مراقب، ويشعر بقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ﴾ [الانفطار]، يشعر بهذه الرّقابة الإلهيّة؛ لأنّ هناك فساداً وأموراً لا يمكن أن يطالها القانون الوضعيّ، من الحقد والكراهية والحسد.. إلخ.
﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ﴾: جاءت قضيّة عامّة للنّاس كلّهم، فلم يخصّ مجموعة دون أخرى، فلم يَقُلْ مثلاً: (لولا دَفْع الله الكافرين بالمؤمنين)، إنّما قال: مُطلْق النّاس؛ لأنّها قضيّة عامّة يستوي فيها الجميع في المجتمعات كلّها، كذلك جاءت كلمة: (بعض) عامّة؛ لتدلّ على أنّ كِلَا الطّرفين صالح أن يكون مدفوعاً مرّة، ومدفوعاً عنه أخرى، فَهُمْ لبعض بالمرصاد: مَنْ أفسد يتصدّى له الآخر لِيُوقِفه عند حَدِّه، فليس المراد أنّ مجموعة تدفع مجموعة على طول الخطّ، ومثال ذلك قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ﴾ [الزّخرف: من الآية 32]، دون أنْ يُحدِّد أيّهما مرفوع، وأيّهما مرفوع عليه؛ لأنّ كلّاً منهما مرفوع في شيء، ومرفوع عليه في شيء آخر؛ ذلك لأنّ العباد كلّهم عيال الله سبحانه وتعالى، لا يُحابي منهم أحداً على أحد، ومن رحمة الله سبحانه وتعالى بالمؤمنين أنْ يكيد الظّالمين بالظّالمين بألوانهم وفنونهم كلّها، ويؤدِّب الظّالم بمَنْ هو أشدّ منه ظُلماً؛ ليظلّ أهلُ الخير بعيدين عن هذه المعركة، لا يدخلون طَرَفاً فيها؛ لأنّ الأخيار لا يصمدون أمام هذه العمليّات؛ لأنّهم قوم رِقَاق القلوب، لا تناسبهم هذه القسوة وهذه الغِلْظة في الانتقام، فلنقرأ قول الحقّ سبحانه وتعالى: ﴿وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [الأنعام]، وهكذا يُوفِّر الله سبحانه وتعالى أهل الخير، ويحْقِن دماءهم، ويُريح أولياءه من مثل هذه الصّراعات الباطلة. فكيف دخل النّبيّ عليه السّلام مكّة بعد أنْ أخرجه قومه منها، وبعد أنْ فعلوا به وبأصحابه الأفاعيل؟ كيف دخلها وهو القائد المنتصر الّذي تمكَّن من رقاب أعدائه؟ دخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم مُطأطىء الرّأس، حتّى لتكاد رأسه تلمس قربوس السّرج الّذي يجلس عليه، تواضعاً منه عليه السّلام، ومع ذلك قال أبو سفيان لـمّا رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف، قال للعبّاس: لقد أصبح مُلْك ابن أخيك عظيماً، وبعد أن تمكَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم من كفّار مكّة، وكان باستطاعته القضاء عليهم جميعهم، قال: «مَا تَرَوْنَ أَنِّي صَانِعٌ بِكُمْ؟»، قَالُوا: خَيْراً، أَخٌ كَرِيمٌ وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ، قَالَ: «اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ»([1])، فأيُّ رحمة هذه؟ قال سبحانه وتعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ﴾ [آل عمران: من الآية 159]، وأيُّ لين هذا الّذي جعله الله سبحانه وتعالى في قلوب المؤمنين؟ وهل مِثْل هذا الدّين يُعارَض ويُنْصَرف عنه؟ فالحقّ سبحانه وتعالى يُسلِّط الأشرار بعضهم على بعض، وهذه آية نراها في الظّالمين في كلّ زمان ومكان.
﴿لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ﴾: صوامع: جمع صومعة، وهي مكان خاصٌّ للعبادة عند النّصارى، وعندهم مُتعبَّد عامّ يدخله الجميع هو الكنائس، أمّا الصَّومعة فهي مكان خاصّ لينفرد فيه صاحبه وينقطع للعبادة، ولا تكون الصَّوْمعة في حضر، إنّما تكون في الجبال والأودية، بعيداً عن العمران ينقطع فيها الرّاهب عن حركة حياة النّاس، وهي الّتي تُسمّى الأديرة.
﴿وَبِيَعٌ﴾: البِيَع: هي الكنائس.
وقد أباح الإسلام التّرهُّب والانقطاع للعبادة، لكن شريطة أن تكون في جَلْوة، يعني: بين النّاس، لا تعتزل حركة الحياة.
﴿وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا﴾: وهذه لليهود يُسمُّون مكان التّعبّد: صَالوتاً، لكن لماذا لم يرتّبها القرآن الكريم ترتيباً زمنيّاً، فيقول: لهدّمت صلوات وصوامع وبيع؟ قالوا: لأنّ القرآن الكريم يُؤرِّخ للقريب منه فالأبعد.
﴿وَمَسَاجِدُ﴾: وهذه للمسلمين، وما دام الحقّ سبحانه وتعالى ذكر المساجد بعد الفعل: ﴿لَهُدِّمَتْ﴾ فهذا دليل على أنّه لا بُدَّ أن يكون للمسلمين مكان يُحيَّز للعبادة، وإنْ جُعِلَتْ الأرض كلّها لهم مسجداً وطَهُوراً، ومعنى ذلك أنْ تصلّي في أيِّ بقعة من الأرض، وإنْ عُدِم الماء تتطهّر بترابها، وبذلك تكون الأرض مَحَلّاً للعبادة ومَحَلّاً لحركة الحياة وللعمل والسَّعْي، فيمكنك أن تباشر عملك في مصنعك، وفي مزرعتك، وفي حقلك، وفي وظيفتك مثلاً وتُصلِّي، لكنّ الله سبحانه وتعالى يريد منّا أن نُخصِّص بعض أرضه ليكون بيتاً له تنقطع منه حركة الحياة كلّها، ويُوقَف فقط لأمور العبادة، وهذه هي المساجد؛ لذلك قال عليه السّلام: «مَنْ بَنَى مَسْجِداً لِلَّهِ كَمَفْحَصِ قَطَاةٍ، أَوْ أَصْغَرَ، بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتاً فِي الـجَنَّةِ»([2])، فقوله سبحانه وتعالى: ﴿لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ﴾ تدلّ على مكان خاصّ للعبادة، وإلَّا لو اعتُبرَتْ الأرضُ كلّها مسجداً، فإنّها لا تُهدَم، فالمساجد هي الأماكن الّتي تُزاوَل فيها الصّلاة، الّتي تتّخذ حيّزاً في المسجديّة، وبيت الله الحرام هو البيت الأوّل الّذي جُعل قبلة لبيوت الله سبحانه وتعالى كلّها في الأرض.
﴿يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا﴾: المساجد هي لذكر الله عزَّ وجلّ، من صلاة وقراءة قرآن كريم.. إلخ؛ لأنّ ذكر الله عزَّ وجلّ في المساجد دائم لا ينقطع، ونحن لا نتحدّث عن مسجد، ولا عن مساجد بلد من البلدان، إنّما المراد مساجد الدّنيا كلّها من أقصى الشّرق إلى أقصى الغرب، ومن الشّمال إلى الجنوب، ولو نظرنا إلى أوقات الصّلوات لرأينا أنّها مرتبطة بحركة الفلك وبالشّمس في الشّروق، وفي الزّوال، وفي الغروب، وباعتبار فارق التّوقيت في بلاد الله سبحانه وتعالى كلّها تجد أنّ ذِكْر الله عزَّ وجلّ دائمٌ لا ينقطع أبداً في ليلٍ أو نهار، فأنت تُؤذِّن للصّلاة، وغيرُك يُقيم، وغيركما يُصلّي، أنت تصلّي الظّهر، وغيرك ببلد آخر يصلّي الصّبح أو العصر، بل أنت في الرّكعة الأولى من الصّبح، وغيرك في الرّكعة الثّانية، أنت تركع وغيرك يسجد، فهي منظومة عباديّة دائمة في كلّ وقت، ودائرة في كلّ مكان من الأرض، فلا ينفكّ الكون ذاكراً لله جلَّ جلاله، أليس هذا ذِكْراً كثيراً؟ فكلمة: (الله أكبرُ) دائرة على ألسنة الخلق لا تنتهي أبداً، يُرفَع الأذان هنا، ويُرفَع هناك بعد دقيقة.. وهكذا، ثمّ لـمّا كان دَفْع الله سبحانه وتعالى النّاسَ بعضهم ببعض ينتج عنه معركة بين الحقّ والباطل جاءت نهاية الآية:
﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ﴾: فإنْ كان التّدافع بين المشركين فإنّه لا ينتهي، وإنْ كان بين حقٍّ لله سبحانه وتعالى وباطل حكم الله عزَّ وجلّ بأنّه باطل لا بُدَّ أن تنتهي بنُصْرة الحقّ، وغالباً لا تطول هذه المعركة؛ لأنّ الحقّ دائماً في حصانة الله جلَّ جلاله.
﴿إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾: يختم الله سبحانه وتعالى بأنه قادر على كل شيء، عزيز: يعني لا يُغلب، والعزيز أيضاً هو المستغني عن خلقه وعن غيره، فالله سبحانه وتعالى قويّ عزيز يُعطي النّصر لمن يشاء، ويشفي صدور قوم مؤمنين.
([1]) السّنن الكبرى للبيهقيّ: جماع أبواب السّير، باب فتح مكّة حرسها الله تعالى، الحديث رقم (18275).
([2]) سنن ابن ماجه: كتاب المساجد والجماعات، باب من بنى للَّه مسجداً، الحديث رقم (738).