الآية رقم (92) - فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ

﴿فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ﴾: غرق فرعون بالبحر لكنّ الله سبحانه وتعالى نجّاه ببدنه، فرماه البحر بعد موته على السّاحل حتّى رآه بنو إسرائيل.

﴿بِبَدَنِكَ﴾: نحن نعرف أنّ الإنسان مكوّنٌ من بدنٍ؛ أي الهيكل المادّيّ المصوّر على تلك الصّورة، والرّوح الّتي في البدن، وبهما تكون الحركة والحياة، وحين نقول: بدنٌ، فلنفهم أنّها مجرّدةٌ عن الرّوح، وإذا أُطلقت كلمة جسد معناها الهيكل المادّيّ المجرّد من الرّوح.

﴿لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً﴾: لو أنّ الله سبحانه وتعالى لم يأمر البحر أن يلفظ جثمان فرعون لكان من الجائز أن يقولوا: إنّه إلهٌ، وإنّه سيعود مرّةً أخرى، لكنّ الله سبحانه وتعالى أراد أن يرى الجميع منذ تلك اللّحظة حتّى الآن هذه الجيفة الغارقة، حتّى لا يكون هناك شكٌّ أنّ فرعون قد غرق، فيعرفون أنّه مجرّد بشرٍ ويصبح عبرةً بعد أن كان جبّاراً مسرفاً طاغياً، ويتّعظ كلّ إنسانٍ عندما يرى كيف انهارت حضارة الفراعنة، وكيف بقيت تلك الأبدان آيةً نعتبر بها.

﴿وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ﴾: ليس كلّ النّاس، وهنا قانون صيانة الاحتمال، فبعضهم مؤمن، لكنّ كثيراً منهم عن آيات الله سبحانه وتعالى غافلون، آيات الله سبحانه وتعالى؛ أي الأمور الدّالّة على وجوده جل جلاله.

الآية رقم (93) - وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُواْ حَتَّى جَاءهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ

﴿وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾: كلمة تبوّأ تعني إقامة؛ مَباءة أي البيوت الّتي فيها السّكن الخاصّ، وإذا أُطلقت الكلمة (مبوأ) فهي تعني الإقليم أو الوطن، والحقّ سبحانه وتعالى أتاح لهم السّكن في زمن موسى عليه السلام، فقال لهم:﴿وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ﴾ {الإسراء: من الآية 104}.

﴿مُبَوَّأَ صِدْقٍ﴾: الصّدق تعني جِماع الخير والبرّ، لذلك نجد النّبيّ ﷺ عندما سُئل: أيكون المؤمن جباناً؟ فقال: «نعم»، فقيل له: أيكون المؤمن بخيلاً؟ فقال: «نعم»، فقيل له: أيكون المؤمن كذّاباً؟ فقال: «لا»([1]).

﴿وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ﴾: قال سبحانه وتعالى في آياتٍ أخرى عن شعب بني إسرائيل: ﴿اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ﴾ {البقرة: من الآية 61}؛ أي أنّ الحقّ تعالى أعطاهم ورزقهم وأنجاهم من فرعون.

﴿فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ﴾: كان من المفروض أن تستقيم أمورهم لكنّهم اختلفوا، فهل العلم هنا هو سبب الاختلاف؟ الجواب: إنّ علمهم بمجيء الرّسول أصبح مصدر اختلافٍ بينهم؛ لأنّهم سمعوا وعرفوا علامات الإيمان بالنّبيّ ﷺ واختلفوا في ذلك، مع أنّهم قبل نزول الوحي على النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام كانوا متّفقين، وقد توعّدوا مشركي قريش بأنّ نبيّاً سيأتي، لكنّهم اختلفوا، يأتي عبد الله بن سلام وهو حبرٌ من أحبار اليهود إلى الرّسول ويقول: يا رسول الله، إنّ اليهود قومٌ بهتٌ، وإنّهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم يبهتوني، فجاءت اليهود فقال النّبيّ ﷺ: «أيُّ رجلٍ عبد الله فيكم؟»، قالوا: خيرنا وابن خيرنا وسيّدنا وابن سيّدنا، قال «أرأيتم إن أسلم عبد الله بن سلام»، فقالوا: أعاذه الله من ذلك، فخرج عبد الله فقال: أشهد أن لا إله إلّا الله وأنّ محمّداً رسول الله، فقالوا: شرّنا وابن شرِّنا، وانتقصوه، قال: فهذا الّذي كنت أخاف يا رسول الله([2]).

﴿إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾: أي أنّ الله سبحانه وتعالى يقضي بهذه الأمور، ونلحظ أنّ كلمة ﴿بَيْنَهُمْ﴾ توضّح أنّ الضّمير عامٌّ، والحقّ سبحانه وتعالى يقضي يوم القيامة بين المؤمنين والكافرين، ويقضي بين الكافرين أنفسهم، فمن كان منهم ظالماً لغيره أو مختلساً أو مرتشياً فسيحاسب، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ﴾ {الأنبياء}، والآية هنا تفيد العموم في القضاء ماضياً وحاضراً ومستقبلاً بين كلّ مؤمنٍ وغير مؤمنٍ.

([1]) موطّأ الإمام مالك: كتاب الكلام، باب ما جاء في الصّدق والكذب، الحديث رقم (1795).

([2]) صحيح البخاريّ: كتاب التّفسير، باب سورة البقرة، الحديث رقم (4210).

الآية رقم (94) - فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ

الخطاب هنا لرسول الله ﷺ، ونحن نعلم أنّ الرّسول لا يشكّ على الإطلاق بالرّسالة، وهو القائل ﷺ: «والله لو وضعوا الشّمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر حتّى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته»([1])، فكيف يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ﴾؟ الجواب: هنا يضمر الله سبحانه وتعالى خطاب الأمّة في خطاب رسوله ﷺ؛ لأنّ الأتباع حين يقرؤون ويسمعون الخطاب وهو موجَّهٌ بهذا الأسلوب إلى الرّسول عليه الصّلاة والسّلام فلن يستنكفوا عن أيّ أمرٍ يصدر إليهم، وجاء الأمر هنا للنّبيّ ﷺ لتفهم أمّته أنّه ﷺ: ما كان ليتأبّى على أمرٍ من أوامر الله سبحانه وتعالى أبداً، بل ينفّذ كلّ ما يؤمر به بدقّةٍ.

﴿فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ﴾: هذا القول دليلٌ على أنّ الّذين عندهم علمٌ في الكتاب من السّابقين يعرفون الحقائق الواضحة عن رسالته ﷺ.

﴿لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾: الحقّ القادم من الله سبحانه وتعالى ثابتٌ لا يتغيّر؛ لأنّه واقعٌ، والواقع لا يتعدّد، بل يأتي على صورةٍ واحدةٍ، أمّا الكذب فيأتي على صورٍ متعدّدةٍ.

﴿فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾: مجيء الخطاب بهذا الشّكل موجّهٌ للأمّة المؤمنة في شخص الرّسول ﷺ، كقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ {الزّمر}، هذا القول نزل على الرّسول ﷺ، ومن غير المعقول أن يُشرك النّبيّ ﷺ، فهذه الآيات الّتي تحمل توجيهاً في الأمور المنزّه عنها الرّسول الكريم هي خاصّةٌ بأمّته، فنفهم من قوله سبحانه وتعالى: ﴿فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ أنّ الخطاب للنّاس المؤمنين بالرّسول ﷺ ألّا يشكّوا، أو للّذين يكذّبون بآيات الله سبحانه وتعالى.

([1]) الرّوض الأنف: مج2، ص6.

الآية رقم (95) - وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ

النّبيّ ﷺ هو آيةٌ من آيات الله سبحانه وتعالى، فالخطاب موجّهٌ لأمّة الرّسول عليه الصّلاة والسّلام.

الآية رقم (96) - إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ

إنّ الله سبحانه وتعالى قد عَلِم عِلْماً أزليّاً بأنّهم لن يوجّهوا اختيارهم للإيمان؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى ترك فيهم الاختيار، ثمّ جاؤوا إلى الاختيار فتحقّق علمه سبحانه وتعالى بهم من سلوكهم، فحكمه سبحانه وتعالى مبنيٌّ على الاختيار، وله سبحانه وتعالى تقديرٌ أزليٌّ، وحين يقدّر الحقّ فلا بدّ من وقوع ما قدّر، هنا يجب أن نفرّق بين حكمٍ لازمٍ قهريٍّ ليس للإنسان فيه تصرّفٌ، وبين قدرٍ قُدّر من الله سبحانه وتعالى أن يفعله الإنسان باختياره، مثال ذلك: سلوك أبي لهبٍ الّذي نزل فيه قوله سبحانه وتعالى: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ﴾ {المسد}، فهل قال له أحدٌ: لا تؤمن؟ فلا يقولنّ أحدٌ: إنّ الله سبحانه وتعالى يعاقب بعد أن قدّر مسبقاً؛ لأنّ تقدير الحقّ جل جلاله نابعٌ من علمٍ أزليٍّ، وأنتم تتمتّعون بحقّ الاختيار، وستُحاسبون على الاختيار، وليس على العلم الأزليّ.

الآية رقم (97) - وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ

﴿وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ﴾: فمجيء الآيات لن يفيدهم في الاتّجاه إلى الإيمان؛ لأنّه سبحانه وتعالى يعلم أنّهم سيتوجّهون باختيارهم إلى الكفر، فقد قالوا من قبل ما أورده الله سبحانه وتعالى: ﴿وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93) ﴾ {الإسراء}، وكأنّ الله سبحانه وتعالى يأمر رسوله ﷺ أن يقول موضّحاً: لستُ مَن ينزّل الآيات، بل الآيات من عند الله سبحانه وتعالى، ثمّ يأتي القرآن الكريم بالسّبب الّذي لم تنزل به تلك الآيات الّتي طلبوها، فيقول جل جلاله: ﴿وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ﴾ {الإسراء: من الآية 59}..

الآية رقم (84) - وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ

يوجد شرطان في الآية، فجاء الشّرط الأوّل وهو: ﴿إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ﴾ ومعه الجواب وهو: ﴿فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا﴾، ثمّ جاء شرطٌ آخر، وهو الشّرط الأوّل ذاته، وهو الإسلام؛ لأنّ الإيمان بالله سبحانه وتعالى يقتضي الإسلام، فالإيمان كما نعلم عمليّةٌ وجدانيّةٌ قلبيّةٌ، والإسلام عمليّةٌ ظاهريّةٌ.

﴿فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا﴾: التّوكّل هو مطلوب الإيمان، وأن يسلم الإنسان زمامه في كلّ أمرٍ إلى من آمن به، لذلك لا ينفع الإيمان إلّا بالإسلام، فمع إيمانكم توكّلوا على الله سبحانه وتعالى، لكن إن كنتم قد آمنتم فقط، ولم تُسلموا الزّمام إلى الله سبحانه وتعالى في التّكاليف (افعل) و(لا تفعل)، فهذا التّوكّل لا يصلح، فإذا رأيت أسلوباً فيه شرطٌ تقدّم، وجاء جوابٌ بعد الشّرط، ثمّ جاء شرطٌ آخر، فاعلم أنّ الشّرط الأخير هو الـمُقدّم؛ لأنّه شرطٌ في الشّرط الأوّل، فإنّ التّوكّل لن ينشأ إلّا بالإسلام مع الإيمان.

الآية رقم (85) - فَقَالُواْ عَلَى اللّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ

﴿فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا﴾: إذا تقدّم الجار والمجرور فمعنى ذلك قصر وحصر الأمر؛ أي حصر التّوكّل على الله سبحانه وتعالى فقط، ولا توكّل على سواه.

﴿رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾: الفتنة: اختبارٌ، وهي ليست مذمومةً في ذاتها، بل المذموم هو النّتيجة، وجاءت هذه الكلمة من صهر الذّهب؛ أي استخلصت منه الشّوائب، فعندما يكون الذّهب مخلوطاً بعناصر أخرى يصفّونه، ويسمّى ذلك: فتنةً، كأنّهم يقولون: يا ربّ، لا تسلّط علينا فرعون بعذابٍ شديدٍ يفتننا عن ديننا.

الآية رقم (86) - وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ

يطلبون من الله سبحانه وتعالى ويتضرّعون إليه، والدّعاء هو مخّ العبادة، فيلجؤون إلى الله سبحانه وتعالى أن ينجّيهم من عذاب فرعون برحمته؛ لأنّ رحمة الله وسعت كلّ شيءٍ.

الآية رقم (87) - وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ

﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ﴾: يبيّن لنا الله سبحانه وتعالى أنّ الوحي شمل كلّاً من موسى وهارون، بحيث إذا جاء موقفٌ من المواقف يقتضي أن يتكلّم به موسى فهارون أيضاً يمكن أن يتكلّم في الأمر ذاته؛ لأنّ الشّحنة الإيمانيّة واحدةٌ والمنهج واحدٌ.

﴿أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا﴾: التّبوّء: هو اتّخاذ مكانٍ يُعدّ مباءةً؛ أي مرجعاً يبوء الإنسان إليه، فالتّبوّء هو التّوطّن في مكانٍ ما، والإنسان إذا اتّخذ مكاناً كوطنٍ له، فهو يعود إليه إذا ذهب لأيّ بلدٍ لفترة محدودةٍ.

﴿بِمِصْرَ بُيُوتًا﴾: مصر إن أُطلقت يُفهم منها أنّها الإقليم الممتدّ من البحر المتوسّط إلى حدود السّودان؛ أي وادي النّيل.

﴿وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً﴾: القِبلة: هي الـمُتّجه الّذي نصلّي إليه، ومثال ذلك المسجد، وهو قِبلةٌ لمن هو خارجٌ عنه، فحين ينادي المؤذّن للصّلاة يكون المسجد هو قِبلتنا، وحين ندخل المسجد نتّجه إلى القِبلة الّتي تتحكّم في وضعنا الصّفيّ.

هنا نلحظ أنّ الأمر بالتّبوّء كان لموسى وهارون عليهما السّلام، أمّا الأمر بالجعل فهو مطلوبٌ من موسى وهارون وأتباعهم، لذلك جاء الجعل بصيغة الجمع في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً﴾.

﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾: إقامة البيوت هنا مشروطةٌ بأن يجعلوا بها قِبلةً لإقامة الصّلاة بعيداً عن أعين الخصوم من قوم فرعون الّذين يضطّهدونهم، شأنهم شأن المسلمين الأوائل حينما كانوا يصلّون داخل البيوت، وهذا هو سرّ عدم الجهر بالصّلاة نهاراً، وقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ هذا الأمر نفهم منه أنّ الصّلاة فيها استدامة ولاءٍ لله سبحانه وتعالى، فنحن نشهد أن لا إله إلّا الله مرّةً في العمر، ونزكّي إن كان عندنا مالٌ مرّةً واحدةً في السّنة، ونصوم إن لم نكن مرضى شهراً واحداً هو شهر رمضان، ونحجّ إن استطعنا مرّةً واحدةً في العمر، ويبقى ركن الصّلاة يتكرّر كلّ يومٍ خمس مرّات، وكأنّ الحقّ تعالى ينبّه هنا إلى أنّ الصّلاة هي عماد الدّين.

﴿وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾: هذا تنبيهٌ وإشارةٌ إلى أنّ موسى عليه السلام هو الأصل في الرّسالة، لذلك جاء الأمر أن يحمل موسى البشارة، فلم يقل: (وبشّرا).

الآية رقم (88) - وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ

﴿وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً﴾: الزّينة: هي الأمر الزّائد عن ضرورات ومقوّمات الحياة، فاستبقاء الحياة يكون بالطّعام والشّراب، والزّائد عن الضّرورات هو زينةٌ.

﴿وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾: قيمة المال هو ما يقابله من الذّهب، والفضّة تأخذ المرتبة الثّانية، فالذّهب يُعتبر قيمة الرّصيد لغنى أيّ دولةٍ، ومهما اكتشفوا من أحجارٍ أغلى من الذّهب، كالألماس مثلاً، يبقى الذّهب هو الأساس؛ لأنّه مهما تفتّت يُعاد صهره ويُستخلص منه ذهباً، وقد كان الفراعنة الأقدمون يحكمون مصراً حتّى منابع النّيل، ويُسخّرون النّاس في كلّ الأعمال حتّى استخراج الذّهب من المناجم أو من غربلة رمال بعض الجبال.

﴿لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ﴾: اللّام هنا ليست لام التّعليل، بل لام المآل لام الصّيرورة، هم أخذوا هذه الأموال والزّينة فأصبحوا من خلالها ضالّين، وأضلّوا غيرهم، وحملوا وِزر إضلال غيرهم، فهل أعطاهم الله سبحانه وتعالى المال والزّينة للضّلال والإضلال؟ الجواب: ليس ذلك علّة العطاء، هذه لام العاقبة، مثال: أنت تعطي ابنك مبلغاً من المال، وتقول له: افعل به ما تريد، وأرجو أن تتصرّف به تصرّفاً يعود عليك بالخير، فإن اشترى الابن شيئاً غير مفيدٍ فتكون قد أعطيته قوّةً شرائيّةً، لكنّه لم يُحسن التّصرّف بها، هذا ما يسمّى لام العاقبة.

﴿رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ﴾: الطّمس هو إخفاء المعالم؛ أي إهلاك الصّورة الّتي بها الشّيء، وقد دعا موسى عليه السلام أن تُمسَخ أموالهم، قال بعض الرّواة: إنّها مُسخت، فمن كان يملك سبائك ذهبٍ وجدها حجارةً، ومن كان يملك أحجاراً كريمةً كالألماس وجدها زجاجاً… أو تأتي ﴿رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ﴾ بمعنى: أذهِبها؛ لأنّ الأموال كانت وسيلة إضلالٍ.

﴿وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ﴾: أي احكم يا ربّ الأربطة على تلك القلوب، فلا يخرج ما فيها من كفرٍ، ولا يدخل ما هو خارجها من الإيمان إليها؛ لأنّهم افتروا افتراءً عظيماً، وأن تظلّ هذه الأربطة على قلوبهم حتّى يروا العذاب الأليم في الآخرة، لماذا دعا سيّدنا موسى عليه السلام على آل فرعون هذا الدّعاء، ولم يدع سيّدنا رسول الله ﷺ على قومه، بل قال صلى الله عليه والسلام: «اللّهمّ اغفر لقومي فإنّهم لا يعلمون»([1])؟ الجواب: لا بدّ أنّ الله تعالى قد أطلع موسى عليه السلام أنّهم قومٌ لن تُفلح معهم دعوة الإيمان، وكان خوف موسى عليه السلام من استمرار إضلالهم لغيرهم، لذلك دعا عليهم.

هكذا يتبيّن لنا الفارق بين إيمان الإلجاء والقسر وبين إيمان الاختيار، فحين يأتي الرّسول داعياً للإيمان يصبح من حقّ السّامع لدعوته أن يؤمن أو أن يكفر، أمّا إيمان الإلجاء والقسر فهو لا ينفع الإنسان، مثال ذلك فرعون حين جاءه العذاب وهو يغرق، قال: ﴿آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ {يونس: من الآية 90}، دعا موسى عليه السلام على قوم فرعون، وسبقه سيّدنا نوح عليه السلام: ﴿وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا﴾ {نوح}.

([1]) صحيح البخاريّ: كتاب الأنبياء، باب ﴿أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ﴾، الحديث رقم (3290).

الآية رقم (89) - قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ

﴿قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ﴾: كان موسى عليه السلام يدعو، وكان هارون يقول: آمين، فعندما أمّن على هذا الدّعاء أصبح شريكاً فيه.

﴿فَاسْتَقِيمَا﴾: استمرّا على طريق الاستقامة.

﴿وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾: سيّدنا موسى عليه السلام بقي على دعوته مع كلّ عناد وكفر وإجرام فرعون وقومه، واستقام على هذا السّبيل كما أمره الله سبحانه وتعالى هو وهارون عليهما السّلام.

الآية رقم (74) - ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَآؤُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلوبِ الْمُعْتَدِينَ

﴿ثُمَّ﴾: حرف عطفٍ للتّراخي.

﴿بَعَثْنَا﴾: البعث يكون لشيءٍ كان موجوداً ثمّ انتهى، فيبعثه الله سبحانه وتعالى، وكلمة ﴿بَعَثْنَا﴾ تُشير إلى أنّ الحقّ سبحانه وتعالى عندما خلق الخلق أعطى المنهج القويم لآدم عليه السلام، فأبلغه آدم لأبنائه، وكلّ طمسٍ أو تغييرٍ من البشر للمنهج هو إماتةٌ للمنهج، وحين يُرسل الحقّ سبحانه وتعالى رسولاً فهو لا يُنشئ منهجاً، بل يبعث ما كان موجوداً عند آدم عليه السلامليُذكّر بالفطرة السّليمة، وهذا هو الفارق بين كلمة (البعث) و(الإرسال).

﴿مِنْ بَعْدِهِ﴾: بعد نوحٍ عليه السلام بعث الحقّ سبحانه وتعالى رسلاً، وقد قال العلماء عن نوحٍ عليه السلام، إنّه رسولٌ عامٌّ للنّاس، ولم يُبعث لقومٍ معيّنين، وحجّتهم بذلك أنّه قد صعد إلى السّفينة من كلّ سكّان الأرض، والباقي غرق كلّه، فهو رسولٌ للنّاس كلّهم، لذلك بدأت به سيرة وقصص الرّسالات.

﴿رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ﴾: لم يقصّ الله سبحانه وتعالى علينا كلّ أخبار الرّسل؛ لأنّه قال: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ ﴾

 {غافر: من الآية 78}

فجاء المولى سبحانه وتعالى بقصص أولي العزم من الرّسل؛

لأنّه أرسل بعد ذلك هوداً عليه السلامإلى قوم عاد، وصالحاً عليه السلامإلى ثمود، وشُعيباً عليه السلام إلى مدين، ولم يأت بذكر هؤلاء هنا، بل جاء بعد نوحٍ عليه السلامبخبر قصّة موسى عليه السلام مباشرةً.

﴿فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ﴾: موكب الرّسالات لا يأتي إلّا عندما تحدث الغفلة.

﴿كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ ﴾: طبع الله سبحانه وتعالى على قلوبهم؛ لأنّهم كانوا معتدين، والطّبع هو الختم، فهؤلاء عشقوا الكفر فطبع الله سبحانه وتعالى على قلوبهم، فلا يدخلها الإيمان بعد ذلك، ولا يخرج منها الكفر.

الآية رقم (75) - ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ

الأصل بالرّسالة هو سيّدنا موسى عليه السلام وبُعِث معه أخوه هارون عليه السلامبدليل قوله سبحانه وتعالى مُخاطِباً موسى عليه السلام ﴿وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى﴾ {طه}، وعندما سأل موسى عليه السلام ربّه أن يشدّ عضده بأخيه: ﴿ وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35) ﴾ {طه}، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى ﴾ {طه}، فجاء تكليف هارون عليه السلام بالرّسالة مع موسى عليه السلام، والآيات كانت كلّها بيد موسى عليه السلام كالعصا واليد البيضاء وانفلاق البحر، وهما الاثنان مبعوثان بمهمّةٍ ورسالةٍ واحدةٍ، قال سبحانه وتعالى: ﴿ فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) ﴾ {الشّعراء}.

﴿إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ﴾: الملأ: هم أشراف ووجوه وأعيان القوم، وهم المقرّبون من فرعون.

﴿بِآيَاتِنَا﴾: هي المعجزات الّتي تدلّ على صدق نبوّة موسى وهارون عليهما السّلام، وصدق بلاغهما عن الله سبحانه وتعالى.

﴿فَاسْتَكْبَرُوا ﴾: الاستكبار هو طلب الكِبر.

﴿وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ ﴾: إجرام الإنسان إلى أعدائه أمرٌ غير مقبولٍ، وإذا تعدّى الإجرام إلى النّفس فهذا أمرٌ فظيعٌ، فإجرام فرعون وقومه أودى بهم إلى جهنّم خالدين مُخلّدين ملعونين.

الآية رقم (76) - فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ إِنَّ هَـذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ

﴿فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا﴾: الرّسول هو الـمُبلِّغ عن الله سبحانه وتعالى الّذي بعثه، ويجب أن يعلم الإنسان بأنّ هذا البلاغ هو من الحقّ سبحانه وتعالى، الّذي خلق كلّ شيءٍ بالحقّ، ونجد قوله سبحانه وتعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا﴾ توجيهاً إلى أنّ الحقّ لم يأت من ذوات الرّسل 4، بل جاء من الله سبحانه وتعالى، والرّسل الكرام يتمسّكون بهذا الحقّ، أمّا الباطل فتغلُب عليه المفاسد، وانتشار المفاسد يجعل النّاس يستدعون الحقّ ويتحمّسون له، ويتمسّكون به.

﴿إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ﴾: لأنّهم كانوا مشهورين بذلك الزّمن بالسّحر، فظنّوا أنّ الآيات الّتي جاءت مع موسى عليه السلام هي سحرٌ واضحٌ.

الآية رقم (77) - قَالَ مُوسَى أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءكُمْ أَسِحْرٌ هَـذَا وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ

﴿قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا﴾: هذه الآيات توضّح ردّ سيّدنا موسى عليه السلام عليهم، بعض المشكّكين بالقرآن الكريم يقولون: انظروا لتناقض القرآن، كيف يقول في الآية السّابقة: ﴿ قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ ﴾، بإثباتهم أنّ ما جاء به موسى عليه السلام هو السّحر، ثم يقول في هذه الآية: ﴿ أَسِحْرٌ هَذَا ﴾  بالاستفهام؟ وذلك لأنّهم لا يفهمون اللّغة العربيّة، فعبارة: ﴿ أَسِحْرٌ هَذَا ﴾ بالاستفهام هي من قول موسى عليه السلام، كأنّه تساءل ليعيدوا النّظر في حكمهم، والسّؤال هنا استفهامٌ استنكاريٌّ، أراد أن يؤكّد أنّ هذا ليس سحراً، لكن جاء بصيغة تساؤلٍ؛ لأنّه واثقٌ أنّ الإجابة الأمينة ستقول: إنّ ما جاء به ليس سحراً، وهذا يُفيد إلى ضرورة النّظر إلى الحقّ مجرّداً عن أيّ شيءٍ، فالرّجال يُعرفون بالحقّ وليس الحقّ يُعرَف بالرّجال، فسيّدنا موسى عليه السلام أصدر الحكم بأنّ السّحر لا ينفع، ولكنّ الآيات الّتي جاء بها من الحقّ قد أفلحت، فقد ابتلعت عصاه الّتي صارت حيّةً كلّ ما ألقوه من حِبال، وأراد الحقّ سبحانه وتعالى لعصا موسى أن تكون آيةً معجزةً من جنس ما نبغ فيه القوم.

﴿وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ﴾: هو إشارةٌ إلى أنّ السّحر نوعٌ من التّخييل، وليس حقيقةً واقعةً، ولذلك قال الحقّ سبحانه وتعالى في موضعٍ آخر من القرآن الكريم:﴿ قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ ﴾ {الأعراف}، وقال جل جلاله: ﴿قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى﴾ {طه}، فالسّحر هو تخييلٌ فقط، وليس تغييراً للحقيقة؛ ولأنّ معجزة موسى عليه السلام تحدّت القدرات، لذلك أعلن فرعون التّعبئة العامّة لكلّ مَن له علاقة بالسّحر، وجمع السّحرة، فألقوا الحِبال والعصيّ، وألقى موسى عليه السلام عصاه، فإذا بها قد تحوّلت إلى حيّةٍ تلقف ما صنعوا، يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى﴾ {طه}، فالسّحرة يُخيّلون لأعين النّاس، لكنّهم يعرفون أنّ عصا موسى عليه السلام لم تكن تخييلاً، بل وجدوها حيّةً حقيقيّةً، قد لقفت بالفعل ما صنعوا، لذلك خرّوا ساجدين، وأعلنوا الإيمان بربّ موسى وهارون.

الآية رقم (78) - قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاء فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ

﴿قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾: هنا نجد سحرة فرعون ينسبون معجزة موسى عليه السلام له.

﴿لِتَلْفِتَنَا﴾: والالتفات هو تحويل الوجه عن شيءٍ مواجهٍ له، وما دام الإنسان بصدد الشّيء فكلّ نظر هذا الإنسان واتّجاهه يكون إليه، وقد كان قوم فرعون على فسادٍ وضلالٍ ليس أمامهم غيره، فجاء موسى عليه السلام ليصرف وجوههم عن ذلك الفساد والضّلال، فكان جوابهم: ﴿قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾ فهم يكشفون حقيقة الموقف، فقد كانوا يقلّدون آباءهم، والتّقليد يُريح الـمُقلِّد؛ لأنّه لا يُعمل عقله، بل يبني سلوكه مباشرةً على التّقليد، ولا يختار بين البدائل، ولا يُميّز الصّواب ليفعله، ولا يعترف بالخطأ فيتجنّبه، لقد كانوا في ضلالٍ وهو ما كان عليه آباؤهم، واختاروا الشّهوات العاجلة، لذلك يحثّنا القرآن الكريم على أن نستخدم العقل لنختار بين البدائل، وإذا كان المنهج قد جاء من السّماء فلنهتدي ممّا جاء لنا ممّن هو فوقنا، وهذا هو السّموّ نحو الحياة الفاضلة.

﴿وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ﴾: اتّهموا موسى عليه السلام وأخاه بأنّهما يريدان الكبرياء في الأرض، فهم يعتقدون أنّ الكبرياء الّذي لهم في الأرض قد تحقّق بتقليد الآباء، ويحبّون الحفاظ عليه، فوجدوا في دعوة موسى عليه السلام مصيبةً مركّبةً، أوّلاً ترك عقيدة الآباء، وثانياً سلب الكبرياء؛ أي السّلطة الزّمنيّة والجاه والسّيادة والعظمة والمصالح، فكلّ واحدٍ من بطانة فرعون له حظٌّ من القرب من فرعون، لذلك أعلنوا عدم الإيمان، فقالوا: ﴿وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ﴾.

الآية رقم (79) - وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ

لقد كان العصر عصر السّحر في دولة فرعون، لذلك أعطى أمراً بأن يأتي أعوانه من السّحرة، وفور أمره بذلك جيء بالسّحرة.

الآية رقم (80) - فَلَمَّا جَاء السَّحَرَةُ قَالَ لَهُم مُّوسَى أَلْقُواْ مَا أَنتُم مُّلْقُونَ

﴿فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ﴾: كأنّ المسافة بين نطق فرعون بالأمر وبين تنفيذ الأمر الفرعونيّ أضيق مسافةٍ وقتيّةٍ؛ لأنّها جاءت بالفاء مباشرةً، وليس (ثمّ)، وهذا أمر صاحب السّلطان لا يحتمل التّأجيل أو التّباطؤ بالتّنفيذ، فعندما يعالج القرآن الكريم أمراً من الأمور يُعطي صورةً دقيقةً للواقع، ﴿فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ﴾:  اختصر هنا الموضوع، وقد جاء مُفصّلاً في سورٍ أخرى.

﴿قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ﴾: تلخيصٌ للموقف، فلم يأت سبحانه وتعالى هنا بالتّفصيل الكامل لهذه القصّة، وقد وردت في مواضع أخرى من القرآن الكريم، وكلّ آيةٍ توضّح نقطةً، لذلك لا يوجد تكرارٌ بل أسرارٌ.

الآية رقم (81) - فَلَمَّا أَلْقَواْ قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ

﴿إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ﴾: سيذهب به، فذهب به سبحانه وتعالى بأن سلّط عليه عصا موسى عليه السلام الّتي قُلِبَت ثعبانًا يتلقَّفه، حتّى لم يبق منه شيءٌ.

﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ﴾: الصّلاح لا يمكن أن يحدث على يد المفسد الّذي غيّر وقلب المعايير الصّالحة في الكون، فالفساد الأخلاقيّ يؤدّي إلى الفساد الاقتصاديّ والماليّ وإلى الفساد والشّرور بشكلٍ عامٍّ، لذلك من يعمل على الفساد والإفساد لا يمكن أن يصدر منه الصّلاح والإصلاح حتّى ولو ادّعى ذلك.