﴿يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ﴾: أي: واذكروا يوم القيامة الّذي يجمع الله سبحانه وتعالى فيه أهل المحشر من الأوّلين والآخرين في صعيد واحد للجزاء، ويجمع فيه بين كلّ عامل وعمله، وبين كلّ نبيّ وأمّته، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ﴾[هود: من الآية ١٠٣]، وقال سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ﴾ [الواقعة]، ذلك اليوم وهو يوم القيامة يوم التّغابن الّذي يظهر فيه غبن الكافر بتركه الإيمان، وغبن المؤمن بتقصيره في الإحسان، فكلّ من الفريقين تظهر له الخسارة الفادحة، فكأنّ أهل النّار استبدلوا بالخير الشّرّ، وبالجيّد الرّديء وبالنّعيم العذاب، وأهل الجنّة على العكس ممّا ذكر، ومع ذلك يشعرون بالنّقص والخسارة؛ لأنّهم لم يقدّموا عملاً صالحاً أكثر ممّا قدّموه، وجاء في الحديث الصّحيح: «لَا يَدْخُلُ أَحَدٌ الجَنَّةَ إِلَّا أُرِيَ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ لَوْ أَسَاءَ، لِيَزْدَادَ شُكْراً، وَلَا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ إِلَّا أُرِيَ مَقْعَدَهُ مِنَ الجَنَّةِ لَوْ أَحْسَنَ، لِيَكُونَ عَلَيْهِ حَسْرَةً»([1]).
وأصل التّغابن: مأخوذٌ من الغبن: وهو أخذ الشّيء من صاحبه بأقلّ من قيمته في عقود التّجارة والمعاوضات، وبما أنّه لا معاوضة في الآخرة، فيكون إطلاق التّغابن على العمل المقدّم في الدّنيا وجزائه في الآخرة من قبيل الاستعارة، للدّلالة على النّقص على البائع.
والخلاصة: أنّ يوم القيامة يوم التّغابن الجائز، فيه يغبن بعض أهل المحشر بعضاً، فيغبن فيه أهل الحقّ أهل الباطل، وأهل الجنّة يغبنون أهل النّار.
ثمّ فصّل الله سبحانه وتعالى التّغابن وبيّنه، فقال:
﴿وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾: أي: ومن يصدّق بالله سبحانه وتعالى تصديقاً صحيحاً، ويصدّق بما جاءت به الرّسل من الحشر والنّشر والجنّة والنّار وغير ذلك، ويعمل العمل الصّالح بأداء الفرائض والطّاعات، واجتناب المنهيات، يمحُ الله سبحانه وتعالى سيّئاته وذنوبه، ويُدخله الجنّات الّتي تجري من تحت قصورها وأشجارها الأنهار، ماكثين فيها على الدّوام، وذلك التّكفير للسّيّئات، وإدخال الجنّات هو الظّفر الّذي لا يساويه ظفر، ولا ظفر قبله ولا بعده، وإنّما قال: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ بلفظ الجمع بعد قوله: ﴿وَمَنْ يُؤْمِنْ﴾ بلفظ الواحد؛ لأنّ ذلك بحسب اللّفظ، وهذا بحسب المعنى.
﴿ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾: هذا هو الفوز العظيم، وعظمه يأتي من عظمة الله سبحانه وتعالى.
([1]) صحيح البخاريّ: كتاب الرّقاق، باب صفة الجنّة والنّار، الحديث رقم (6569).