الآية رقم (2) - يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ

﴿يَوْمَ تَرَوْنَهَا﴾: الرّؤية: قلنا قد تكون رؤية علميّة أو رؤية بصريّة، والشّيء الّذي نعلمه إمّا: علمَ اليقين، وإمّا عين اليقين، وإمّا حقيقة اليقين.

علم اليقين: أنْ يخبر مَنْ تثق به بشيء، كما تواترت الأخبار عن الرّحّالة بوجود قارّة بها كذا وكذا، فهذا نسمّيه: (علم يقين)، فإذا ركبت الطّائرة إلى بلد فرأيتها وشاهدت ما بها فهذا: (عين اليقين)، فإذا نزلتَ بها وتجوّلتَ بين شوارعها ومبانيها فهذا نسمّيه: (حقّ اليقين)؛ لذلك حين يخبر الله سبحانه وتعالى الكافرين بأنّ هناك عذاباً في النّار فهذا الإخبار صادق من الله عزَّ وجلّ فعِلْمنا به (علم يقين)، فإذا رأيناها فهذا: (عين اليقين)، كما قال جلَّ جلاله: ﴿ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ﴾[التّكاثر]، فإذا ما باشرها أهلها، وذاقوا حرّها ولظاها -وهذا مقصور على أهل النّار- فقد علموها حَقَّ اليقين، لذلك يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ﴾[الواقعة].

﴿تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ﴾: الذّهول: هو انصراف حاجة عن مهمّتها الحقيقيّة لهوْلٍ رأتْه، فتنشغل بما رأته عن تأديةِ وظيفتها، كما يذهل الخادم حين يرى شخصاً مهيباً أو عظيماً، فيسقط ما بيده مثلاً، فالذّهول سلوك لا إراديّ، قد يكون ذهولاً عن شيء تفرضه العاطفة، أو عن شيء تفرضه الغريزة، فالعاطفة كالأمّ الّتي تذهَلُ عن ولدها، فعاطفة الأمومة تتناسب مع حاجة الولد، ففي مرحلة الحمل مثلاً تجد الأمّ تحتاط في مشيتها، وفي حركاتها، خوفاً على الجنين في بطنها، وهذه العاطفة من الله عزَّ وجلّ جعلها في قلب الأمّ للحفاظ على وليدها، وإلَّا تعرّض لما يؤذيه أو يُودِي بحياته. ولـمّا سألوا المرأة العربيّة عن أحبّ أبنائها، قالت: الصّغير حتّى يكبر، والغائب حتّى يعود، والمريض حتّى يُشْفَى، فحسب الحاجة يعطي الله سبحانه وتعالى العاطفة، فالحامل عاطفتها نحو ولدها قويّة، وهي كذلك في مرحلة الرّضاعة، فلننظر إلى المرضعة، وكيف تذهل عن رضيعها وتنصرف عنه، وأيُّ هول هذا الّذي يشغلها، ويُعطِّل عندها عاطفة الأمومة والحنان، ويُعطِّل حتّى الغريزة؟ وقد أعطانا القرآن الكريم صورة أخرى في قوله سبحانه وتعالى: ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ﴾ [عبس]، ومن عظمة الأسلوب القرآنيّ أنّه يذكر هنا الأخ قبل الأب والأمّ، قالوا: لأنّ الوالدين قد يُوجدان في وقت لا يرى أنّهما في حاجة إليه، ولا هو في حاجة إليهما؛ لأنّه كبر، أمَّا الأخ ففيه طمع المعونة والمساعدة.

﴿كُلُّ مُرْضِعَةٍ﴾: والمرضعة تأتي بفتح الضّاد وكَسْرها: مُرضَعة (بالفتح) هي الّتي من شأنها أن ترضع وتصلح لهذه العمليّة، أمّا مُرضِعة (بالكسر) فهي الّتي تُرضع فعلاً، فانظر إلى مدى الذّهول والانشغال في مثل هذه الحالة.

﴿وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا﴾: بعد أنْ تكلَّم عن المرضع رقَّى المسألة إلى الحامل، ومعلوم أنّ الاستمساك بالحمل غريزة قويّة لدى الأمّ حتّى في تكوينها الجسمانيّ، فالرّحم بمجرّد وصول البويضة المخصّبة إليه، ينغلق عليها، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾[الحجّ: من الآية 5]، فإذا ما جاء وقت الميلاد انفتح له بقدرة الله عزَّ وجلّ، فهذه مسألة غريزيّة فوق قدرة الأمّ ودون إرادتها، فوَضْع هذا الحمل دليل هَوْل كبير وأمر عظيم يحدث.

والحَمْل نوعان: ثقَل تحمله وهو غيرك، وثقل تحمله في ذاتك، ومنه قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا﴾[طه: من الآية 101]، والحِمْل (بكسر الحاء): هو الشّيء الثّقيل الّذي لا يُطيقه ظهرك، أمّا الحَمْل (بالفتح) فهو: الشّيء اليسير تحمله في نفسك.

﴿وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى﴾: سكارى؛ أي: يتمايلون مضطربين، مثل السّكارى حين تلعب بهم الخمر، وتطوح بهم يميناً وشمالاً، وتُلقِي بهم على الأرض، وكلّما زاد سُكْرهم وخروجهم عن طبيعتهم كان النّوع شديداً!! وهكذا سيكون الحال في موقف القيامة لا من سُكْر، ولكن من خوف وهَوْل وفزع: ﴿وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾، لكن، من أين يأتي اضطراب الحركة؟ قالوا: لأنّ الله سبحانه وتعالى خلق الجوارح، وخلق في كلّ جارحة غريزة الانضباط والتّوازن، وعلماء التّشريح يُحدِّدون في الجسم أعضاء ومناطق معيّنة مسؤولة عن حِفْظ التّوازن للجسم، فإذا ما تأثّرتْ هذه الغدد والأعضاء يشعر الإنسان بالدُّوار، ويفقد توازنه، كأنْ تنظر من مكان مرتفع، أو تسافر في البحر مثلاً، فهذا الاضطراب ليس من سُكْر، ولكن من هَوْل ما يرونه يوم القيامة، فيُحدث لديهم تغييراً في الغُدد والخلايا المسؤولة عن التّوازن، فيتمايلون، كمن اغتالتْه الخمر.

﴿وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾: إنّهم لم يَرَوْا العذاب بَعْد، بل مجرّد قيام السّاعة وأهوالها أفقدهم التّوازن؛ لأنّ الّذي يَصْدُق في أنّ القيامة تقوم بهذه الصّورة يَصْدُق في أنّ بعدها عذاباً في جهنّم، فانتهت المسألة، وما كانوا يكذّبون به ها هو ماثلٌ أمام أعينهم.

«يَوْمَ» ظرف زمان متعلق بتذهل

«تَرَوْنَها» مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل والها مفعول به والجملة مضاف إليه

«تَذْهَلُ كُلُّ» مضارع وفاعله

«مُرْضِعَةٍ» مضاف إليه والجملة مستأنفة

«عَمَّا» عن حرف جر وما موصولية متعلقان بتذهل

«أَرْضَعَتْ» ماض وفاعل والجملة معطوفة

«وَتَضَعُ كُلُّ» مضارع وفاعله والجملة معطوفة على تذهل

«ذاتِ» مضاف إليه

«حَمْلٍ» مضاف إليه

«حَمْلَها» مفعول به والها مضاف إليه

«وَتَرَى» مضارع مرفوع بالضمة المقدرة على الألف للتعذر فاعله مستتر

«النَّاسَ» مفعول به

«سُكارى» حال منصوبة والجملة معطوفة على ما سبق

«وَما» الواو حالية وما نافية تعمل عمل ليس

«هُمْ» اسم ما في محل رفع

«بِسُكارى» الباء زائدة وسكارى خبر مجرور لفظا منصوب محلا والجملة في محل نصب على الحال

«وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ» لكن واسمها وخبرها ولفظ الجلالة مضاف إليه والجملة معطوفة على جملة الحال وهي في محل نصب مثلها

{تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} أي تسلو عن ولدها وتتركه.