هذه مسائل أربع بدأها لقمان بإقامة الصّلاة، والصّلاة هي الرّكن الأوّل بعد أنْ نشهد أن لا إله إلّا الله، وأنّ محمّداً رسول الله، وعلمنا أنّ الصّلاة لأهمّـيّتها فُرِضت بالمباشرة دون وساطة جبريل عليه السّلام، ولأهمّـيّتها جُعلِت ملازمة للمؤمن لا تسقط عنه بحال، أمّا بقيّة الأركان فقد تسقط لسبب أو لآخر، كالصّوم والزكاة والحجّ، فإذا سقطت عنك هذه الأركان لم يَبْق معك إلّا الشّهادتان والصّلاة؛ لذلك جعلها النّبيّ ﷺ عماد الدّين، ولذلك بدأ بها لقمان:
﴿يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ﴾ : فهي استدامة إعلان الولاء لله سبحانه وتعالى خمس مرّات في اليوم واللّيلة، فحين يناديك ربّك: (الله أكبر) فلا ينبغي أن تنشغل بمخلوق عن نداء الخالق، واحذر إذا ناداك ربّك عزَّ وجلَّ ألّا تجيب. ثمّ تأمّل النّداء للصّلاة الّذي اهتدتْ إليه الفطرة البشريّة السّليمة، وأقرّه سيّدنا رسول الله ﷺ: (الله أكبر الله أكبر)، يعني أكبر من كلّ ما يشغلك عنه، فإيّاك أن تعتذر بالعمل في أيّ شيء عن إقامة الصّلاة، وقال: ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ﴾ ؛ لأنّ الصّلاة أوّل اكتمال في الإجماع لمنهج الله عزَّ وجلَّ، وبها يكتمل إيمان الإنسان في ذاته، وسبق أن قلنا: إنّ هناك فرقاً بين أركان الإسلام وأركان المسلم، أركان الإسلام هي الخمسة المعروفة، أمَّا أركان المسلم فهي الملازمة له الّتي لا تسقط عنه بحال، وهي الشّهادتان والصّلاة.
ثمّ يبيّن لقمان لولده: أنّ الإيمان لا يقف عند حدِّ الاستجابة لهذين الرّكنين الأساسيّين، الإيمان وإقام الصّلاة، ونلحظ أنّ هذه الآية لم تقرن إقامة الصّلاة بإيتاء الزكاة كعادة الآيات، فغالباً ما نقرأ: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ [البقرة: من الآية 43]، وعندما نتأمّل، نجد هذا من دقائق الأسلوب القرآنيّ، فالقرآن الكريم يحكي هذه الوصايا عن لقمان لولده، فالأب عندما يعظ ولده ويوصيه لا يطالبه بأداء الزكاة؛ لأنّ الزكاة تكون على الأب، فهو الّذي يزكّي عن المال، لقول النّبيّ ﷺ: «أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ»([1])، لذلك لم تأت هنا الوصيّة بالزكاة.
﴿وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ : انشغل بعد كمالك بإقامة الصّلاة بالأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، فبالصّلاة كملت في ذاتك، وبالأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر تنقل الكمال إلى غيرك، وفي هذا كمال الإيمان، وحين نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر لا نظنّ أنّنا نتصدّق على الآخرين، إنّما نؤدّي عملاً يعود نفعه علينا، فعندما تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، سيكون المجتمع مجتمعاً متواصيا متراحماً، فلا يقصّر غيرك، فمنهج الله عزَّ وجلَّ فيه راحة للمجتمع كلّه، لا يشقى به أحد إلّا من خرج عن منهجه عزَّ وجلَّ، فالأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، يكون كما قال النّبيّ ﷺ: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَراً فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَـمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَـمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ»([2])، والسّؤال هنا: إن جاءك إنسان يُدخّن مثلاً فهل تضربه بيدك، وتقول له: أنا أنهاك عن منكر؟! الجواب: لا، بل تنصحه، فالتّواصي والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ليس كما يعتقد بعض النّاس، فالله سبحانه وتعالى أمرنا أن نغيّر المنكر، لكنّه جعل لهذا التّغيير تقديراً، فالدّين يريد منك أن تُصلِح، لكنّ طريقة الإصلاح تكون بسلطة المغيِّر على المغيَّر، فإذا كان لك ولاية على صاحب المنكر، كأن يكون ابنك، قد تغيِّر المنكر بيدك، أمّا إن لم يكن لك ولاية عليه فهل تضربه؟ بالتّأكيد لا، بل بالكلمة الطّيّبة تداوي بها دون أن تجرح الآخرين، ودون أن يؤدّي النّصح إلى فتنة، فيكون ضرره أكثر من نفعه، فدرء المفاسد مقدَّم على جلب المصالح، فإن لم تستطع باللّسان فليكن التّغيير بالقلب، ولو كنت لا تملك إلّا أن تقول: اللّهمّ إنّ هذا منكر لا يُرضيني، لكن هل يُعَدّ عمل القلب تغييراً للمنكر، وأنت مُطالَب بأنْ تُغيِّره بيدك، يعني: إلى ضدّه؟ وهل هذه الكلمة تغيِّر من الواقع شيئاً؟ قال العلماء: لا يحدث التّغيير بالقلب إلّا إذا كان القالب تابعاً للقلب، فالقلب يشهد أنَّ هذا منكر لا يُرضي الله عزَّ وجلَّ، والقالب يساند حتّى لا تكون منافقاً، فأنت أنكرتَ عليه الفعل، ولا استطاعة لك على أنْ تمنعه، ولا أن تنصحه، فلا أقلَّ من أنْ تعزله عن حياتك وتقاطعه، وإلّا فكيف تُغيِّر بقلبك إنْ أنكرتَ عليه فعله وأبقيتَ على معاملته؟ فلا يكون التّغيير بالقلب إلّا إذا أحسَّ صاحب المنكر أنّه قد عُزِل، فأنت لا تَبِعْ له ولا تشتر منه.. إلخ، وما استشرى الباطل وتَبجّح أهل الفساد وأهل المنكر إلّا لأنّ النّاس لم يعملوا بهذه الوصيّة النّبويّة؛ لأنّهم خافوا من الباطل ومن الظّلم، فالتّغيير بالقلب ليس كلمة تقال، إنّما فعل وموقف، وقد علَّمنا ربّنا سبحانه وتعالى هذه القضيّة في قوله جلَّ جلاله: ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا﴾ [النّساء]. ثمّ يقول لقمان لولده:
﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ ﴾ : أوصى بالصّبر بعد الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر؛ لأنّ الّذي يتعرّض لهذين الأمرين لا بُدَّ أن يصيبه سوء من جرّاء أمره بالمعروف أو نَهْيه عن المنكر، فإنْ تعرّضتْ للإيذاء فاصبر؛ لأنّ هذا الصّبر يعطيك جزاءً واسعاً.
﴿إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ : نقول: فلان له عزم، ونسمع القرآن الكريم يقول: ﴿فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ﴾ [آل عمران: من الآية 159]، العزم: الفرض المقطوع به، الّذي لا مناص عنه، ومنه ما جاء في قول لقمان لـمّا خيَّره ربّه سبحانه وتعالى بين أن يكون رسولاً أو حكيماً، فاختار الرّاحة وترك الابتلاء، لكنّه قال: يا ربّ إنْ كانت عزمة منك فسمعاً وطاعة، يعني: أمراً مفروضاً. والعزم يعني شحن كلّ طاقات النّفس للفعل والقطع به، فالصّلاة على الميّت مثلاً لا تُسمَّى عزيمة؛ لأنّها فرض كفاية إنْ فعلها بعضهم سقطتْ عن الباقين، على خلاف الصّلاة التّامّة في السّفر مثلاً، حيث يعدّها الإمام أبو حنيفة عزيمة لا رخصة، فإن أتممت الصّلاة في السّفر أسأْت، عملاً بقول النّبيّ ﷺ: «إِنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى عَزَائِمُهُ»([3])، والمعنى: لا تردّ يد الله عزَّ وجلَّ المبسوطة لك بالتّيسير في الصّلاة أثناء السّفر.
([1]) سنن ابن ماجه: كتابُ التّجاراتِ، بابُ ما للرَّجُلِ مِنْ مالِ ولدِهِ، الحديث رقم (2291).
([2]) صحيح مسلم: كتابُ الإيمان، باب 20، الحديث رقم (49).
([3]) السّنن الكبرى للبيهقيّ: جُمَّاعُ أبوابِ صلاةِ الـمسافرِ والجمْعِ في السّفرِ، بابُ كراهيَةِ ترْكِ التَّقصيرِ، والـمَسْحِ على الخُفّينِ، وما يكونُ رُخْصَةً رَغْبَةً عنِ السُّــنَّةِ، الحديث رقم (5415).