الآية رقم (40) - يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ

أخبرنا الله سبحانه وتعالى أنّه أنزل آدم وحوّاء إلى الأرض بعد هبوطهما من جنّة التّجربة، وزوّدهما بالتّجربة العمليّة من خلال الشّجرة الّتي نهاهما عنها، وأزلّهما الشّيطان فأخرجهما ممّا كانا فيه، وبيّن الله سبحانه وتعالى لهما أنّ إبليس عدوّ لهما ولأولادهما، وطمأنهما بأنّه جلَّ جلاله سيرسل لهم الرّسالات هدايةً ودلالة على الطّريق المستقيم المؤدّي إلى الجنّة الّتي سيخلّدون فيها. فمن تبع طريق الهدى فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

وفجأة وبعد هذه المشاهد (مشاهد آدم وزوجه وهبوطهما إلى الأرض) انتقلت الآيات مباشرة إلى خطاب شعب بني إسرائيل متجاوزة جميع الأنبياء والأمم الّتي سبقت بني إسرائيل. وهذا من إعجاز القرآن وعظمته، فقد أراد الله سبحانه وتعالى من موكب الرّسالات أن يعطي أمّة محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم أبلغ درس، بالإضافة إلى العداوة الّتي سيجدونها من بني إسرائيل مثل عداوة إبليس لبني آدم.

وبنو بني إسرائيل تتوزّع قصصهم في مواضع كثيرة من القرآن الكريم لما فيها من العبر البليغة، وسنجد في قصصهم البغي، والفساد، وسفك الدّماء، وحبّ المال، وأكل الرّبا، والحسد، وتحريف الكلم عن مواضعه، والأمراض المختلفة، والجحود.. فأراد الله سبحانه وتعالى أن يعطي الدّروس والعبر لأمّة محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم من خلال مثال هذا الشّعب. ومن أمّة بني إسرائيل ستكون العداوة والفساد، وقد بنوا دولتهم العنصريّة متستّرين باسم نبيّ الله (يعقوب) عليه السَّلام فسمّوها: (إسرائيل)، وهو منهم بريء، هذه الدّولة الظّالمة الّتي تبثّ أحقادها وسمومها على الأمّة الإسلاميّة، وتستولي على المسجد الأقصى، أولى القبلتين وثالث الحرمين الشّريفين. وفي تاريخنا الإسلاميّ، ومنذ خيبر وحتّى يومنا هذا نرى أصابعهم خلف كلّ بلاء يُصيب أمّتنا، ونرى أيديهم في كلّ الأحداث الّتي نواجهها، فهم الدّاء على وجه هذه الأرض.

ولذلك حين أراد الله سبحانه وتعالى أن يعطينا مثالاً عن موضوع الرّسالات، ضرب المثل ببني إسرائيل، فمن هو إسرائيل؟ ولماذا قال الله تبارك وتعالى ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾؟ إِسْرَائِيلَ هو يعقوب عليه السَّلام ومعنى اسمه في العبريّة عبد الله المصطفى، (إسرا): تعني العبد المصطفى، و(ئيل): تعني الرّبّ والإله.

ويعقوب هو ابن إسحاق بن إبراهيم عليهم السَّلام.

وقد رُزق إبراهيم عليه السَّلام بولدين:

– إسماعيل عليه السَّلام وكان من نسله نبيّ العرب محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم

– وإسحاق عليه السَّلام: وابنه يعقوب عليه السَّلام، ومن نسله يوسف والأسباط، ومن نسلهم موسى وهارون وداود وسليمان وعيسى وزكريّا ويحيى عليهم السَّلام.

فلماذا يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾؟ فحين يُخاطب الله النّاس جميعاً يقول: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ، وحين يفرض تكليفاً على المؤمنين يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواوحين يقول سبحانه وتعالى: ﴿يا بَني آدَمَ يذكّرنا بتوبة سيّدنا آدم عليهم السَّلام، وبنعمة الله عليه في التّوبة، وجعل باب التّوبة مفتوحاً لنا، كي تستقرّ المجتمعات وتصلح الحياة، فالمجرم إذا أغلقت أمامه أبواب التّوبة فإنّه يمعن في إجرامه، ويزداد إجراماً، فشرّع الله سبحانه وتعالى التّوبة لتعود العباد إلى جادّة الحقّ والصّلاح. وحين يقول: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، يذكّر بني إسرائيل بوصيّة أبيهم يعقوب عليه السَّلام الّذي فارق الدّنيا وهو يوصي أبناءه بلزوم الدّين القويم: ﴿أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَٰهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة[، وأصدق ما يكون الإنسان في وصيّته حين يكون قريباً من نهاية حياته على فراش الموت، فهو يقدّم خلاصة تجاربه، ويكون صادقاً مخلصاً؛ لأنّه مقبلٌ على ربّه وعلى الدّار الآخرة، فلا يتلفّظ إلّا بأصدق وأبلغ وأدقّ العبارات.

وكانت وصيّة يعقوب لأبنائه هي التّمسّك بالإسلام: ﴿يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [البقرة: من الآية 132[.

فإذاً يريد الله سبحانه وتعالى في خطابه لبني إسرائيل أن يذكّرهم بهذا النّبيّ الجليل الّذي هو والد يوسف عليه السَّلام, وقد اتّخذوه شعاراً لدولتهم العنصريّة الإرهابيّة المجرمة، وستاراً لإجرامهم وفسادهم كما يفعل الإرهابيّون الّذين يتّخذون الإسلام شعاراً لهم، والإسلام بريء منهم، وهؤلاء لا إسلاميّون؛ لأنّ الإسلام دين الاعتدال والوسطيّة كما قال سبحانه وتعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ]البقرة: من الآية 143[، والمتطرّفون أعداء الإسلام، كما أنّ اليهود اليوم بتطرّفهم وعنصريّتهم وعدوانيّتهم أعداء يعقوب عليه السَّلام.

ويُخاطب الله سبحانه وتعالى بني إسرائيل فيذكّرهم بأبيهم يعقوب، كما يذكّرهم بنعم الله سبحانه وتعالى عليهم. وتأتي المخاطبات الإلهيّة لهذا الشّعب بما يهوى ويحبّ، فبنو إسرائيل شعب مادّيّ، يحبّ النّعم، فيذكّرهم الله سبحانه وتعالى بالنّعم قبل المنعم، فيقول لهم: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ.

أمّا حين يخاطبنا نحن فإنّه يذكّرنا بالمنعم قبل النّعم، فيقول لنا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا  ]الأحزاب[. وهناك فارق كبير بين أن تذكر النّعمة لأنّك متعلّق بها، وبين أن تذكر المنعم لأنّك متعلّق به، وذكر الله دواء، وذكر غيره داء، وقد جاء في الحديث القدسيّ الّذي رواه مسلم أنّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «إنّ الله عزَّوجل يقول يوم القيامة: يا ابن آدم، مرضت فلم تعدني، قال: يا ربّ، كيف أعودك وأنت ربّ العالمين؟ قال: أما علمت أنّ عبدي فلاناً مرض فلم تعده؟ أما علمت أنّك لو عدته لوجدتني عنده…»([1])، وهذه تسلية للمريض؛ لأنّ من فقد نعمة الصّحّة يرقّ قلبه فيعيش مع المنعم، ونحن نتعلّق بالمنعم وهو الله سبحانه وتعالى، ونذكر الله سبحانه وتعالى قبل ذكر النّعمة. فما هي النّعمة؟ قد تأتي النّعمة في صيغة المفرد، وتكون مخبوءة بنعم كثيرة: ﴿وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ]إبراهيم: من الآية 34[، مثل الماء: فهو نعمة أيّما نعمة، وبه ترتبط كلّ النّعم، من إحياء الأرض، وإنباتها، وإخراج الثّمر، وسقاية الظّامئين.. فما هي النّعم الّتي أنعمها الله سبحانه وتعالى على بني إسرائيل؟ هي نعمٌ كثيرة ومتعدّدة، وأهمّها وأعظمها كثرة الأنبياء المرسلين إليهم، وهم احتاجوا إلى هذا العدد الكبير من الأنبياء ليس لأنّهم أعظم شعب، ولا لأنّهم شعب الله المختار، ولكن لاستعصاء أمراضهم، وكثرة ذنوبهم، وليست كثرة الأنبياء والمرسلين فيهم مزية لهم. إنّ كثرة الأدواء تستدعي كثرة الدّواء، وهذا الكمّ الهائل من الأنبياء يُشبه حالة المريض الّذي استعصى مرضه، فجاؤوا له بمجموعة من الأطبّاء.

﴿وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ: العهد الّذي أخذه الله سبحانه وتعالى عليهم في التّوراة هو أن يتّبعوا سيّدنا محمّداً صلَّى الله عليه وسلَّم الّذي ذكر عندهم في كتابهم، كما أخبر سبحانه وتعالى: ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ۚ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ] البقرة[، وقد سأل سيّدنا عمر رضي الله عنه عبد الله بن سلام -وهو من علماء أهل الكتاب، وقد أسلم-: أتعرف محمّداً صلَّى الله عليه وسلَّم كما تعرف ولدك؟ قال ابن سلام: نعم، وأكثر. فهذا العهد موجود في التّوراة.

وقد يكون العهد هو عهد الفطرة الأوّل، الّذي أخذه الله على سيّدنا آدم عليه السَّلام يوم أن كانت ذريّته في صلبه، وكلّ مولود يولد على الفطرة: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا [الأعراف: من الآية 172[. وقوله سبحانه وتعالى﴿وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْيعني أنّ الأمر بيدنا دائماً، فيقول لنا تبارك وتعالى في كتابه: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ ]البقرة[، ﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ] محمّد: من الآية 7[، وفي الحديث القدسيّ: قال رسول الله عليه الصّلاة والسّلام: «يقول الله عزَّوجل من جاء بالحسنة، فله عشر أمثالها وأزيد، ومن جاء بالسيّئة فجزاؤه سيّئة مثلها أو أغفر، ومن تقرّب منّي شبراً تقرّبت منه ذراعاً، ومن تقرّب منّي ذراعاً تقرّبت منه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة، ومن لقيني بِقُرابِ الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئاً لقيته بمثلها مغفرة»([2]). وفي هذه الآية يقول سبحانه وتعالى لبني إسرائيل: ﴿وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ  ويكون ثوابكم الجنّة، أي آمنوا بمحمّد صلَّى الله عليه وسلَّم واتّبعوه واتّبعوا النّور الّذي أُنزل معه، ولو كان نبيّكم موسى حيّاً زمن بعثة محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم ما وسعه إلّا أن يتّبعه. وقد كان اليهود في المدينة وفي شبه جزيرة العرب في زمن تنزيل القرآن الكريم، وكانوا أشدّ النّاس عداءً للإسلام والمسلمين، وكانوا سبب الفتن والمؤامرات والأذى وكلّ ما لحق بالمسلمين عبر عصور التّاريخ.. وهم الّذين ألّبوا الأحزاب في غزوة الخندق.. ونقضوا العهود مع رسول الله عليه الصّلاة والسّلام، كما فعل بنو قينقاع والنّضير وقريظة.. وفي خيبر.. وغيرها، حتّى وصلنا إلى يومنا هذا.. ابحثوا عن الفتن والتّحريض والزّيف والإجرام في أحداث التّاريخ كلّها تجدوا وراءها بني إسرائيل، وها هي دولتهم اليوم تنظر إلى العرب والمسلمين على أنّهم العدوّ الأوّل لها.

﴿وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ : قدّم المفعول به على الفعل للحصر، أي لا ترهبوا غيري؛ وإظهاراً لأهميّة المتقدّم وهو الله جلَّ جلاله.

والرّهبة هي الخوف، والخوف لا يكون إلّا من الله عزَّ وجل، والإنسان في حياته يخاف ممّا يتوقّع، ويحزن على ما وقع، إلّا الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات فلا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون. ولا يجتمع في قلب العبد مخافتان، فإمّا أن يخاف الله، وإمّا أن يخاف من خلق الله. فإذا أنت خفت من الله سبحانه وتعالى خافك كلّ شيء، وإذا خفت من البشر خفت من كلّ شيء.


(([1] صحيح مسلم: كتاب البرّ والصّلة والآداب، باب فضل عِيادة المريض، الحديث رقم (2569).

(([2] صحيح مسلم: كتاب الذّكر والدّعاء والتّوبة والاستغفار، باب فضل الذّكر والدّعاء والتّقرب، الحديث رقم (2687).

يا بَنِي: يا أداة نداء، بني منادى مضاف منصوب بالياء لأنه ملحق بجمع المذكر السالم.

إِسْرائِيلَ: مضاف إليه مجرور بالفتحة نيابة عن الكسرة ممنوع من الصرف اسم علم أعجمي.

اذْكُرُوا: فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل.

نِعْمَتِيَ: مفعول به منصوب بالفتحة المقدرة على ما قبل ياء المتكلم. والياء مضاف إليه.

الَّتِي: اسم موصول صفة لنعمة.

أَنْعَمْتُ: فعل ماض وفاعل.

عَلَيْكُمْ: متعلقان بأنعمت. والجملة صلة الموصول. وجملة اذكروا ابتدائية لا محل لها.

وَأَوْفُوا: معطوف على اذكروا.

بِعَهْدِي: متعلقان بأوفوا.

أُوفِ: فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الطلب وعلامة جزمه حذف حرف العلة، والفاعل ضمير مستتر تقديره أنا، والجملة لا محل

لها من الإعراب لأنها جواب الطلب.

بِعَهْدِكُمْ: متعلقان بأوف.

وَإِيَّايَ: الواو عاطفة، إياي ضمير نصب منفصل مبني على الفتح المقدر في محل نصب مفعول به لفعل محذوف.

فَارْهَبُونِ: الفاء عاطفة أو زائدة، ارهبون فعل أمر مبني على حذف النون والنون للوقاية، والياء المحذوفة في محل نصب مفعول به.

والجملة الفعلية مؤكدة لجملة ارهبوا المحذوفة.

إِسْرائِيلَ: هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليهم السلام،

وبنوه: أولاده، وهم اليهود.

ومعنى إِسْرائِيلَ: صفي الله، وقيل: الأمير المجاهد.

بِعَهْدِي عهد الله: ما عاهدهم عليه في التوراة من الإيمان بالله وبرسله وبخاصة محمد خاتم الأنبياء من ولد إسماعيل

بِعَهْدِكُمْ: ما عاهدتكم عليه من الثواب على الإيمان، والتمكين من بيت المقدس، وسعة العيش في الدنيا.