الآية رقم (21) - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ

كأنّ الشّيطان له خطوات متعدّدة ليست خطوة واحدة، وقد أثبت الله تعالى عداوته لبني آدم، وهي عداوة واضحة، ليست كلاماً نظريّاً، إنّما هو عدوّ بواقعة ثابتة، حيث امتنع عن السّجود لآدم، وعصى أمر الله عزَّ وجلَّ له، بل وأبدى ما في نفسه، وقال: ﴿أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾[الأعراف: من الآية 12]، وقال: ﴿أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا﴾[الإسراء: من الآية 61]، وهكذا علّلَ امتناعه بأنّه خير، وكأنّ عداوته لآدم عداوة حسد لمركزه ومكانته عند ربّه، فدخل على الإنسان من باب عزّة الله عن خَلْقه، فقال: ﴿فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾[ص: من الآية 82]، فلو أرادنا ربّنا عزَّ وجلَّ مؤمنين ما كان للشّيطان علينا سبيل، إنّما تركنا جلَّ جلاله للاختيار، فدخل علينا الشّيطان من هذا الباب؛ لذلك قال بعدها: ﴿إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾[الحجر]، فمَنِ اتّصف بهذه الصّفة فليس للشّيطان إليه سبيل.

فقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ نداء: يا من آمنتم بإله، كأنّه يقول: تَنبَّهوا إلى شرف إيمانكم به، وابتعدوا عمّا يُضعِف هذا الإيمان، أو يفُتُّ في عَضُدِ المؤمنين بأيِّ وسيلة، وتأكّدوا أنّ الشّيطان له خطوات متعدّدة.

﴿لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾: فإنْ وسوس لك من جهة، فتأبَّيْتَ عليه ووجد عندك صلابةً في هذه النّاحية وجَّهك إلى ناحية أخرى، وزيّن لك من باب آخر.

والشّيطان: هو المتمرّد العاصي من الجنّ، فالجنّ مقابل الإنس، فمنهم الطّائع والعاصي، والعاصي منهم هو الشّيطان، وعلى قِمّتهم إبليس؛ لذلك يقول تعالى في سورة الكهف: ﴿إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ﴾[الكهف: من الآية 50].

﴿وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾: ولك أنْ تسأل: أين جواب (مَنْ) الشّرطيّة هنا؟ قال العلماء: حُذِف الجواب؛ لأنّه يُفهم من السّياق، ودَلَّ عليه بذكر عِلَّته والمسبّب لَه، ونستطيع أن نُقَدِّر الجواب: مَنْ يتبع خطوات الشّيطان يُذِقْه ربّه عذاب السّعير؛ لأنّ الشّيطان لا يأمر إلّا بالفحشاء والمنكر، فَمَنْ يتّبع خطواته، فليس له إلّا العذاب، فقام المسبّب مقام جواب الشّرط، والكلام ليس كلام بشر، إنّما هو كلام رَبِّ العالمين، وأسلوب القرآن الكريم أسلوب رَاقٍ يحتاج إلى فكر وَاعٍ يلتقط المعاني، وليس مجرّد كلام وحَشْو.

وقد أوضح الشّيطانُ نفسه هذه الخطوات وأعلنها، وبيَّن طرقه في الإغواء، ألم يقل: ﴿لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ﴾[الأعراف: من الآية 16]، فلا حاجةَ للشّيطان بأصحاب الصّراط المعوجّ؛ لأنّهم أتباعه، فالشّيطان لا يذهب إلى الخمّارة مثلاً، إنّما يذهب إلى المسجد ليُفسِد على المصلّين صلاتهم، لذلك بعض النّاس ينزعج من الوساوس الّتي تنتابه في صلاته، وهي في الحقيقة ظاهرة صحّيّة في الإيمان، ولولا أنّك في طاعة وعبادة ما وسوس لك الشّيطان، لكنّ مصيبتنا أنّ الشّيطان يعطينا فقط طرف الخيط، فنسير خَلْفه، وعلينا ساعة يوسوس لنا الشّيطان أن نستعيذ بالله عزَّ وجلَّ منه، كما أمرنا ربّنا تعالى: ﴿ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ﴾[الأعراف: من الآية 200]، ومن خطوات الشّيطان أيضاً قوله: ﴿ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ﴾ [الأعراف: من الآية 17].

فللشّيطان في إغواء الإنسان منهج وخُطّة مرسومة، فهو يأتي الإنسان من جهاته الأربع: من أمامه، ومن خلفه، وعن يمينه، وعن شماله، لكن لم يذكر شيئاً عن أعلى وأسفل؛ لأنّ الأولى تشير إلى عُلُوِّ الرّبوبيّة، والأسفل إلى ذُلِّ العبوديّة، حين ترفع يديك إلى أعلى بالدّعاء، وحين تضع جبهتك على الأرض في سجودك؛ لذلك لا يأتيك عدوّك من هاتين النّاحيتين.

﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ﴾: قلنا: إنّ فضل الجزاء يتناوبه أمران: جزاء بالعدل حين تأخذ ما تستحقّه، وجزاء بالفضل حينما يعطيك ربّك فوق ما تستحقّ؛ لذلك ينبغي أن نقول في الدّعاء: اللّهمّ عاملنا بالفضل لا بالعدل؛ وبالإحسان لا بالميزان، وبالجبر لا بالحساب، فإنْ عاملنا ربّنا عزَّ وجلَّ بالعدل ضِعْنا جميعاً، لكن، في أيِّ شيء ظهر هذا الفضل؟ ظهر فضل الله على هذه الأمّة في أنّه تعالى لم يُعذِّبها بالاستئصال، كما أخذ الأمم السّابقة.

﴿مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا﴾: زكَى: تطهَّر وتنقّى وصُفِّيِ.

﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾: وقال: ﴿سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾؛ لأنّه تعالى سبق أنْ قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا﴾[النّور: من الآية 19]، ذلك في ختام حادثة الإفك الّتي هزَّتْ المجتمع الإسلاميّ في قمّته، فمسَّتْ رسول الله ﷺ وزوجته أمّ المؤمنين عائشة وصاحبه الصِّدِّيق وجماعة من الصّحابة، لذلك قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ سَمِيعٌ﴾ لما قيل، ﴿عَلِيمٌ﴾ بما تُكِّنُه القلوب من حُبٍّ لإشاعة الفاحشة.

واليوم نرى من الفساد الأخلاقيّ في الغرب وإشاعة الفاحشة ما نراه، قال ﷺ: «لَـمْ تَظْهَرِ الفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ، حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا، إِلَّا فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ، وَالأَوْجَاعُ الَّتِي لَـمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا»([1])، لاحظوا أنّهم الآن ليس فقط يُبيحون الزّنا والشّذوذ الجنسيّ (المثليّة) والفساد الأخلاقيّ، لكن هم يعلنون به، ويجعلونه قوانين، ويحاربون، بل ويُقيمون العقوبات على مَنْ يُحَرِّم هذه الفاحشة؛ لذلك نرى الأمراض الّتي تأتي من عندهم إلى مجتمعاتنا، وحتّى هذه اللّحظة ما زالت المجتمعات الإسلاميّة والعربيّة مُحَصَّنة بالدّين، وخطوات الشّيطان هذه، خطوة خطوة، وقد قال ﷺ: «لَتُنْقَضَنَّ عُرَى الإِسْلَامِ عُرْوَةً عُرْوَةً»([2])، هذا النّقض لأحكام الإسلام حتّى وصل الأمر بهم إلى إعلان الفاحشة، وأنتم تعلمون أنّ الفاحشة عندما تُذكَر يُقصَد بها أمر الزّنا واللّواط.

([1]) سنن ابن ماجه: كِتَابُ الفِتَنِ، بَابُ الْعُقُوبَاتِ، الحديث رقم (4019).

([2]) مسند الإمام أحمد بن حنبل: تتمة مسند الأَنصار، حَدِيثُ أَبِي أُمَامَةَ البَاهِلِيِّ الصُّدَيِّ بْنِ عَجْلَانَ بْنِ عَمْرِو، الحديث رقم (22160).

«يا» أداة نداء

«أَيُّهَا» منادى نكرة مقصودة في محل نصب على النداء والها للتنبيه والجملة ابتدائية

«الَّذِينَ» اسم موصول بدل

«آمَنُوا» ماض وفاعله والجملة صلة

«لا تَتَّبِعُوا» لا ناهية ومضارع مجزوم بحذف النون والواو فاعل

«خُطُواتِ» مفعول به منصوب بالكسرة لأنه جمع مؤنث سالم

«الشَّيْطانِ» مضاف إليه

«وَمَنْ» الواو استئنافية من شرطية مبتدأ

«يَتَّبِعْ» مضارع مجزوم لأنه فعل الشرط وفاعله مستتر

«خُطُواتِ الشَّيْطانِ» سبق إعرابها

«فَإِنَّهُ» الفاء رابطة للجواب وإن واسمها والجملة في محل جزم جواب الشرط

«يَأْمُرُ» مضارع فاعله مستتر والجملة خبر إن

«بِالْفَحْشاءِ» متعلقان بيأمر

«وَالْمُنْكَرِ» معطوف على الفحشاء

«وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ» تقدم إعرابها في الآية ١٤

«ما زَكى» ما نافية وماض مبني على الفتح المقدر على الألف للتعذر

«مِنْكُمْ» متعلقان بزكى

«مَنْ» حرف جر زائد

«أَحَدٍ» فاعل مجرور لفظا ومرفوع محلا

«أَبَداً» ظرف زمان متعلق بزكى

«وَلكِنَّ» الواو عاطفة لكن حرف مشبه بالفعل

«اللَّهِ» لفظ الجلالة اسم لكن والجملة معطوفة

«يُزَكِّي» مضارع فاعله مستتر والجملة خبر

«مَنْ» اسم موصول مفعول به

«يَشاءُ» مضارع فاعله مستتر والجملة صلة

«إن الله سميع عليم» إن ولفظ الجلالة اسمها وسميع وعليم خبراها والجملة مستأنفة

ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أي ما طهر.

اللَّهَ يُزَكِّي أي يطهّر