الآية رقم (33) - يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ

﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ﴾ : خطاب الله سبحانه وتعالى لعباده بـ: ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ﴾  يدلّ على أنّه سبحانه وتعالى يريد أنْ يُسعدهم جميعاً في الآخرة.

﴿اتَّقُوا رَبَّكُمْ﴾ : التّقوى أنْ تجعل بينك وبين ما يضرّك وقاية تقيك وتحميك؛ والتّقوى كما عرّفها الإمام عليّ -كرّم الله وجهه-: “هي الخوف من الجليل، والعمل بالتّنزيل، والرّضا بالقليل، والاستعداد ليوم الرّحيل”، ولا تنتهي المسألة عند تقوى الرّبّ في الدّنيا، إنّما:

﴿وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ﴾ : أي: خافوا يوماً تُرجعون فيه إلى ربّكم، وكلمة (يوم) تأتي ظرفاً، وتأتي اسماً مُتصرّفاً، فهي ظرف إذا كان هناك حدث سيحدث في هذا اليوم، كما تقول: خِفْت شدّة الملاحظة يوم الامتحان، فالخوف من الحدث، لا من اليوم نفسه، أمَّا لو قلت: خفت يوم الامتحان، فالخوف من كلّ شيء في هذا اليوم؛ أي: من اليوم نفسه، فالمعنى هنا: ﴿وَاخْشَوْا يَوْمًا﴾  ؛ لأنّ اليوم نفسه مخيف بصرف النّظر عن الجزاء فيه، وفي هذا اليوم: ﴿لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ﴾  ، خصَّ هنا الوالد والولد؛ لأنّه سبحانه وتعالى نصح الجميع، ثمّ خصَّ الوالدين في الوصيّة المعروفة: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ ‌بِوَالِدَيْهِ﴾  [لقمان: من الآية 14]، وهنا: ﴿لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ﴾؛ لأنّ الوالد مظنّة الحنان على الولد، وحين يرى الوالد ولده يُعذَّب يريد أنْ يفديه، فقدَّم هنا (الوالد)، ثمّ قال:

﴿وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا ﴾ : فقدّم المولود، وكان مقتضى الكلام أنْ نقول: ولا يجزي ولد عن والده، فلماذا عدل عن ولد إلى مولود؟ الجواب: الكلام هنا كلام ربّ، وفرْق كبير بين ولد ومولود؛ لأنّ المسلمين الأوائل كان لهم آباء ماتوا على الكفر، فظنّوا أنّ وصيّة الله سبحانه وتعالى بالوالدين تبيح لهم أنْ يجزوا عنهم يوم القيامة، فأنزل الله عزَّ وجلَّ هذه الآية تبيّن لهؤلاء ألّا يطمعوا في أنْ يدفعوا شيئاً عن آبائهم الّذين ماتوا على الكفر، لذلك لم يقل هنا: ولد، إنّما: مولود؛ لأنّ المولود هو المباشر للوالد، والولد يقال للجدّ وإنْ علا، فهو ولده، والجدّ وإنْ علا والده، فإذا كانت الشّفاعة لا تُقبل من المولود لوالده المباشر له، فهي من باب أَوْلَى لا تُقبل للجدّ؛ لذلك عَدل عن ولد إلى مولود، فالمسألة كلام ربّ حكيم، لا مجرّد رَصْف كلام.

لكن، متى يجزي الوالد عن الولد، والمولود عن والده؟ قالوا: الولد ضعيف بالنّسبة إلى والده يحتاج منه العطف والرّعاية، فإذا رأى الوالد ولده يتألّم سارع إلى أنْ يشفع له ويدفع عنه الألم، أمّا الولد فلا يدفع عن أبيه الألم؛ لأنّه كبير، إنّما يدفع عنه الإهانة، فالوالد يشفع في الإيلام، والولد يشفع في الإهانة، فلكلّ منهما مقام.

﴿إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ﴾ : الوعد: إخبار بشيء يسرّ لم يَأْت وقته، وضدّه الوعيد، وهو إخبار بشيء يؤذي لم يأْتِ وقته بعد، لكن ما فائدة كلّ منهما؟ الوعد حقّ، وكذلك الوعيد حقّ، لكنّه خصَّ الوعد؛ لأنّه يجلب للنّفس ما تحبّ، أمّا الوعيد فقد يمنعها من شهوة تحبّها، ووضّحنا هذه المسألة بأنّ الله سبحانه وتعالى يتكلّم في النّعم أنّ منها نِعَم إيجاب، ونِعَم سلب.

﴿فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾ : والغَرور بالفتح الّذي يغرُّك في شيء ما، فمعنى غرَّك: أدخل فيك الغرور، بحيث تُقبِل على الأشياء، وتتصرّف فيها في كنف هذا الغرور وعلى ضوئه.

﴿الْغَرُورُ﴾ : بالفتح هو الشّيطان، وله في غروره طرق وألوان، فغرور للطّائعين وغرور للعاصين، فلكلّ منهما مدخل خاصّ، فيغرّ العاصي بالمعصية، ويوسوس له بأنّ الله غفور رحيم، وقد عصا أبوه فغفر الله عزَّ وجلَّ له، لذلك أحد الصّالحين سمع قول الله سبحانه وتعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ ‌مَا ‌غَرَّكَ ‌بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (٦) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ﴾  [الانفطار]، فأجاب: غرَّني كرمه؛ لأنّه خلقني وسوَّاني في أحسن صورة، وعاملني بكرم ودلّلني، حتّى أصابني الغرور بذلك.