الآية رقم (3) - وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ

﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ﴾: الجدل: هو المحاورة بين اثنين، يريد كلّ منهما أنْ يؤيّد رأيه، ويدحضَ رأْيَ الآخر، ومنه: جَدْل الخوص أو الحبل؛ أي: فَتْله واحدة على الأخرى.

ولو تأمّلنا عمليّة غَزْل الصّوف أو القطن لوجدناه عبارة عن شعيرات قصيرة لا تتجاوز عدّة سنتيمترات، ومع ذلك يصنعون منه حَبْلاً طويلاً؛ لأنّهم يداخلون هذه الشّعيرات بعضها في بعض، بحيث يكون طرف الشّعرة في منتصف الأخرى، وهكذا يتمّ فَتْله وغَزْله، فإذا أردتَ تقوية هذه الفَتْلة تجدِلُها مع فتلة أخرى، وهكذا يكون الجدل في الأفكار، فكلّ صاحب فكرة يحاول أنْ يُقوِّي رأيه وحجّته؛ ليدحض حجّة الآخرين.

فكيف يكون الجدل في الله سبحانه وتعالى؟ يكون الجدل في الله عزَّ وجلّ وجوداً، كالملحد الّذي لا يعترف بوجود الله سبحانه وتعالى، أو يكون الجدل في الوحدانيّة، كمن يشرك بالله جلَّ جلاله إلهاً آخر، أو يكون الجدل في إخبار الله سبحانه وتعالى بشيء غيبيّ، كأمر السّاعة الّذي ينكره بعض النّاس ولا يُصدِّقون به، هذا كلّه جدل في الله عزَّ وجلّ.

﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾: فالجدل في ذاته مُبَاح مشروع، شريطة أن يصدر عن علم وفقه، كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾[النّحل: من الآية 125]، فالحقّ سبحانه وتعالى لا يمنع الجدل، ولا يمنع الحوار، ولكن يريد الحوار بالطّريقة الحسنة والأسلوب اللّيّن، وكما يقولون: النّصح ثقيل، فلا تجعله جَدَلاً، ولا ترسله جبلاً، ولا تُخرِج الإنسان ممّا يألف بما يكره، واقرأ قوله سبحانه وتعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [النّحل: من الآية 125]، وقوله جلَّ جلاله: ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾[العنكبوت: من الآية 46]، والقرآن الكريم يعلّم الرّسول عليه السّلام لَوْناً من الجدل في قوله سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ [سبأ]، فانظر إلى هذا الجدَل الرّاقي والأسلوب العالي: ففي خطابهم يقول: ﴿قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا﴾[سبأ: من الآية 25] وينسب الإجرام إلى نفسه، وحين يتكلّم عن نفسه يقول: ﴿وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾[سبأ: من الآية 25]، ولم يقُلْ هنا: (عمّا تجرمون)، لتكون مقابلة بين الحالين، وهذا الأسلوب اللّطيف والعظيم فيه جذب القلوب وتحنينها لتقبُّل الحقّ، فأين القسوة والتّطرّف والإرهاب؟ إنّه اللّطف بدل العنف، ولـمّا اتّهموا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنون ردَّ عليهم القرآن الكريم بالعقل وبالمنطق، فسألهم: ما الجنون؟ الجنون أنْ تصدر الأفعال الحركيّة عن غير بدائل اختياريّة من المخّ، فهل جرَّبْتُم على محمّد شيئاً من هذا؟ وما هو الخُلق؟ الخُلق: استقامة المنهج والسّلوك على طريق الكمال والخير، فهل رأيتُم على محمّد عليه السّلام خلاف هذا؟ لذلك يقول سبحانه وتعالى في الرّدّ عليهم: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ﴾ [سبأ: من الآية 46]. وكيف يكون صاحب هذا الخلُق القويم والسّلوك المنضبط في الخير مجنوناً؟ ولـمّا قالوا: كذّاب، جادلهم القرآن الكريم: ﴿فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [يونس: من الآية 16]، لقد أتتْه الرّسالة بعد الأربعين، فهل سمعتم عنه خطيباً أو شاعراً؟ هل قال خطبة أو قصيدة؟ وقالوا: إنّها عبقريّة كانت عند محمّد، فأيُّ عبقريّة هذه الّتي تتفجَّر بعد الأربعين، فالدّين هو أمر حوار وجدل وموعظة حسنة وحكمة، وليس بالتّطرّف ولا الإرهاب. ولـمّا ذهب الشَّعْبيّ لملك الرّوم قال له الملك: عندكم في الإسلام أمور لا يُصدِّقها العقل، فقال الشَّعْبيّ: ما الّذي في الإسلام يخالف العقل؟ قال: تقولون إنّ في الجنّة طعاماً لا ينفد أبداً، ونحن نعلم أنّ كلّ ما أُخذ منه مرّة بعد مرّة لا بُدَّ أنْ ينفد -انظر إلى الجدل في هذه المسألة كيف يكون- قال الشَّعْبي: أرأيتَ لو أنّ عندك مصباحاً، وجاءت الدّنيا كلّها فقبستْ من ضوئه، أينقص من ضوء المصباح شيء؟ فهذا جدل راقٍ وعلى أعلى مستوى، ويستمرّ ملك الرّوم فيقول: كيف نأكل في الجنّة كُلَّ ما نشتهي دون أن نتغوّط، أو تكون لنا فضلات؟ قال: أرأيتم الجنين في بطن الأمّ، أينمو أم لا؟ إنّه ينمو يوماً بعد يوم، وهذا دليل على أنّه يتغذَّى، فهل له فضلات؟ لو كان للجنين فضلات ولو تغوَّط في مشيمته لمات، يتغذّى الجنين غذاءً على قَدْر حاجة نموّه، بحيث لا يتبقّى من غذائه شيء، ثمّ قال: أين تذهب الأرواح بعد أنْ تفارق الأجساد؟ أجاب الرّجل إجمالاً: تذهب حيث كانت قبل أنْ تحلَّ فيها، وأمامك المصباح وفيه ضوء، ثمّ نفخ المصباح فانطفأ، فقال له: أين ذهب الضّوء؟

وقد نزلت هذه الآية: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ في النّضر ابن الحارث، وكان يجادل عن غير علم في الوجود، وفي الوحدانيّة، وفي البعث.. إلخ، والآية لا تخصّ النّضر وحده، وإنّما تعمّ كلّ مَنْ فعل فِعْله، ولَفَّ لفَّه من الجدل.

﴿وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ﴾: أي: أنّ هذا الجدل قد يكون ذاتيّاً من عنده، أو بوسوسة الشّيطان له بما يخالف منهج الله عزَّ وجلّ، سواء أكان شيطانَ الإنس أم شيطانَ الجنّ، فالسّيّئات والانحرافات والخروج عن منهج الله سبحانه وتعالى لا تكون فقط بوسوسة، فإمّا أن تكون من النّفس الّتي لا تنتهي عن مخالفة، وإمّا من الشّيطان الّذي يُلِحُّ عليها إلى أنْ يوقِع بها في شِرَاكه، وسبق أنْ قُلْنا: إذا كان الشّيطان هو الّذي يوسوس بالشّرّ، فمَنِ الّذي وسوس له أوّلاً؟ وكما قال الشّاعر:

إِبْلِيسُ لَمَّا غَوَى مَنْ كَانَ إبليسُه؟

وفَرْق بين المعصية من طريق النّفس، والمعصية من طريق الشّيطان، فالشّيطان يريدك عاصياً على أيّ وجه من الوجوه، أمّا النّفس فتريدك عاصياً من وجه واحد لا تحيد عنه، فإذا صرفتَها إلى غيره لا تنصرف وتأبى عليك، إلى أنْ تُوقعك في هذا الشّيء بالذّات، وهذا بخلاف الشّيطان إذا تأبّيْتَ عليه ولم تُطِعْهُ في معصية، صرفكَ إلى معصية أخرى، أيّاً كانت، المهمّ أن تعصي، وهكذا يمكنك أنْ تُفرّق بين المعصية من نفسك، أو من الشّيطان، ولـمّا سُئل أحد العلماء: كيف أعرف: أأنا من أهل الدّنيا أمْ من أهل الآخرة؟ قال: هذه مسألة ليستْ عند العلماء، إنّما عندك أنت، قال: كيف؟ قال: انظر في نفسك، فإنْ كان الّذي يأخذ منك الصّدقة أحبّ إليك ممَّنْ يعطيك هديّة، فاعلم أنّك من أهل الآخرة، وإنْ كانت الهديّة أحبَّ إليك من الصّدقة فأنت من أهل الدّنيا؛ ذلك لأنّ الإنسان يحبّ من يُعطيه، فالّذي يعطيك يعمّر لك الدّنيا الّتي تحبّها فأنت تحبّه، وكذلك الّذي يأخذ منك يعمّر لك الآخرة الّتي تحبّها فأنت تحبّه، فهذه مسألة لا دَخْل للشّيطان فيها.

﴿مَرِيدٍ﴾: من مَرَدَ أو مَرُدَ يمرد كنثر ينثُر، والمرود: العُتوُّ وبلوغ الغاية من الفساد، ومنها مارد ومريد ومتمرّد، والمارد: هو المستعلي.

«وَمِنَ النَّاسِ» الواو استئنافية ومتعلقان بخبر محذوف مقدم

«مِنَ» اسم موصول في محل رفع مبتدأ مؤخر والجملة مستأنفة

«يُجادِلُ» مضارع فاعله مستتر

«فِي اللَّهِ» متعلقان بيجادل

«بِغَيْرِ» متعلقان بحال محذوفة تقديره جاهلا

«عِلْمٍ» مضاف إليه

«وَيَتَّبِعُ» الواو عاطفة ومضارع فاعله مستتر

«كُلَّ» مفعول به والجملة معطوفة

«شَيْطانٍ» مضاف إليه

«مَرِيدٍ» صفة

 

{كُتِبَ عَلَيْهِ} أي على شيطانه {أَنَّهُ مَنْ تَوَلاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ}