الآية رقم (6) - وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ

بعد أن ذكر الحقّ سبحانه وتعالى الكتاب وآياته، وأنّ فيه هدى ورحمة لمن اتّبعه، وفلاحاً لمن سار على هديه، يبيّن لنا أنّ هناك نوعاً آخر من النّاس ينتفعون بالضّلال ويستفيدون منه، وإلّا ما راجتْ سوقه، ولما انتشر بين النّاس أشكالاً وألواناً، لذلك نرى للضّلال فئة مخصوصة حظّهم أن يستمرّ وأن ينتشر لتظلّ مكاسبهم، ولتظلّ لهم سيادة على الخَلْق واستنزاف خيراتهم، ومن الطّبيعيّ إنْ وُجِد قانون يعيد توازن الصّلاح للمجتمع لا يقف في وجهه إلّا هؤلاء يحاربونه، ويحاربون أهله، ويتّهمونهم، ويُشكّكون في نيّاتهم، بل ويواجهونهم بالسّخرية والاستهزاء مرّة وبالتّعدّي مرّة أخرى، والله سبحانه وتعالى يبيّن لنا أنّ هؤلاء الّذين يحاربون الحقّ، ويقفون في وجه الدّعوة إلى الإيمان، يعرفون تماماً أنّهم لو تركوا النّاس يسمعون منهج الله عزَّ وجلَّ وداعي الخير لا بُدَّ أنْ يميلوا إليه؛ لذلك يَحُولُون بين آذان النّاس ومنطق الحقّ، فهم الّذين قالوا للنّاس: ﴿لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ ‌وَالْغَوْا ‌فِيهِ ﴾  [فصّلت: من الآية 26]، وما ذلك إلّا لأنّهم واثقون من لغة القرآن الكريم وجمال أسلوبه، واستمالته للقلوب بحلو بيانه، فلو سَـمعَتْه الأُذُن العربيّة لا بُدَّ وأنْ تتأثّر به، وتقف على وجوه إعجازه، وتنتهي إلى الإيمان، فإذا ما أفلتَ منهم أحد، وانصرف إلى سماع الحقّ أتوْهُ بصوارف أخرى وأصوات تصرفه عن الحقّ إلى الباطل.

﴿وَمِنَ النَّاسِ﴾ : (من) هنا للتّبعيض؛ أي: المستفيدون من الضّلال، الّذين لا يعجبهم أنْ يأتمّ النّاس جميعاً بمنطق واحد، وهدف واحد؛ لأنّ هذه الوحدة تقضي على تميّزهم وجبروتهم وظلمهم في الأرض؛ لذلك يبذلون قصارى جهدهم في الضّلال: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ .

﴿يَشْتَرِي﴾ : من الشّراء الّذي يقابله البيع، والشّراء أنْ تدفع ثمناً وتأخذ في مقابله مُثمّناً، وهذا بعدما وُجِد النّقد، لكن قبل وجود النّقد كان النّاس يتعاملون بالمقايضة والتّبادل سلعة بسلعة، وفي هذه الحالة فكلّ سلعة مباعة وكلّ سلعة مشتراة، وكلّ منهما بائع ومُشْتر، ومن ذلك قوله سبحانه وتعالى في قصّة يوسف عليه السّلام: ﴿وَشَرَوْهُ ‌بِثَمَنٍ ‌بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ﴾  [يوسف]، والمعنى: شروه؛ أي: باعوه، ومن ذلك أيضاً قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ ‌مَرْضَاتِ ‌اللَّهِ﴾  [البقرة: من الآية 207]؛ أي: يبيعها، فالفعل (شَرَى) يأتي بمعنى البيع، وبمعنى الشّراء، أمّا إذا جاء الفعل بصيغة (اشترى) فإنّه يدلّ على الشّراء الّذي يُدفَع له ثمن، ومن ذلك قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ ‌خَاشِعِينَ ‌لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾  [آل عمران: من الآية 199]، وقوله عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‌أَنْفُسَهُمْ ‌وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ﴾  [التّوبة: من الآية 111]، وعادة تدخل الباء على المتروك، تقول: اشتريتُ كذا بكذا، وحين نتأمّل قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ﴾  نجد أنّ هذه عمليّة تحتاج إلى طلب للشّيء المشترى، ثمّ إلى ثمن يُدفَع فيه، وليت الشّراء لشيء مفيد، إنّما: ﴿لَهْوَ الْحَدِيثِ﴾  ، وهذه سلعة خسيسة، فهؤلاء الّذين يريدون أنْ يصدّوا عن سبيل الله سبحانه وتعالى تحمّلوا مشقّة الطّلب، وتحمّلوا غُرْم الثّمن، ثمّ وُصِفوا بالخيبة؛ لأنّهم رَضُوا بسلعة خسيسة، والأدهى من ذلك والأمرّ منه أن يضعوا هذا في مقابل الحقّ الّذي جاءهم من عند الله عزَّ وجلَّ على يد رسوله بلا تعب ولا مشقّة ولا ثمن، جاءهم فضلاً من عند الله عزَّ وجلَّ وتكرّماً: ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا ‌الْمَوَدَّةَ ‌فِي ‌الْقُرْبَى﴾  [الشّورى: من الآية 23]، فأيُّ حمق هذا الّذي يوصفون به؟!

﴿لَهْوَ الْحَدِيثِ﴾ : ذكر القرآن الكريم اللّهو واللّعب في عدّة آيات، فقدَّم اللّعب على اللّهو في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ ‌وَلَهْوٌ ‌وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾  [الأنعام]، وفي قوله جلَّ جلاله : ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ‌لَعِبٌ ‌وَلَهْوٌ﴾  [الحديد: من الآية 20]، وقدّم اللّهو في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا ‌لَهْوٌ ‌وَلَعِبٌ﴾  [العنكبوت: من الآية 64]، فقدّمت الآيات اللّعب في آيتين؛ لأنّ اللّعب أن تصنع حركة غير مقصودة لمصلحة، كما يلعب الأطفال، يعني: حركة لا هدفَ لها، وسُـمِّيت لعباً؛ لأنّ الطّفل يلعب قبل أنْ يُكلَّف بشيء، فلم يشغل باللّعب عن غيره من المهمّات، لكن إذا انتقل إلى مرحلة التّكليف، فإنّ اللّعب يشغله عن شيء طُلب منه، ويُسمَّى في هذه الحالة لهواً، ومنه قوله جلَّ جلاله : ﴿وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا ‌وَتَرَكُوكَ ‌قَائِمًا﴾  [الجمعة: من الآية 11]، فاللّهو هو الشّيء الّذي لا مصلحة فيه، ويشغلنا عن المطلوب منّا، فآية سورة العنكبوت الّتي قدّمت اللّهو على اللّعب تعني أنّ أمور الاشتغال بغير الدّين قد بلغت مبلغاً، وأنّ الفساد قد طمَّ، واستشرى الانشغال بغير المطلوب عن المطلوب، فهذه أبلغ في المعنى من تقديم اللّعب؛ لأنّ اللّعب لم يُلهه عن شيء، لكن، ما هو اللّهو الّذي اشتروه ليصرفوا النّاس به عن الحقّ وعن دعوة الإسلام؟ إنّهم لـمّا سمعوا القرآن الكريم فيه قصصاً عن عاد وثمود، وعن مدين وفرعون.. إلخ، أرادوا أنْ يشغلوا النّاس بمثل هذه القصص، وقد ذهب واحد منهم وهو النّضر بن الحارث إلى بلاد فارس وجاءهم من هناك بقصص مسلّية عن رستم وعن الأكاسرة وعن ملوك حِمْيَر، اشتراها وجاء بها، وجعل له مجلساً يجتمع النّاس فيه ليقصّها عليهم، ويصرفهم بسماعها عن سماع منطق الحقّ في القرآن الكريم عن رسول الله ﷺ، وآخر يقول: بل جاء أحدهم بمغنّية تغنّيهم أغاني ماجنة متكسّرة.

وقوله: ﴿لَهْوَ الْحَدِيثِ﴾  ؤلا يقتصر على الغناء والكلام، إنّما يشمل الفعل أيضاً، وربّما كان الفعل أغلب، ومعنى: ﴿لَهْوَ الْحَدِيثِ﴾  قال العلماء: هو كلّ ما يُلهي عن مطلوب لله عزَّ وجلَّ، وإنْ لم يكُنْ في ذاته في غير مطلوب الله لَهْواً، لكن، لماذا يكلّفون أنفسهم ويشترون لهو الحديث؟ العلّة كما قال الحقّ سبحانه وتعالى:

﴿لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ : وفرْق بين مَنْ يشتري اللّهو لنفسه يتسلّى به، ويقصر ضلاله على نفسه وبين مَنْ يقصد أن يَضِلَّ ويُضلّ غيره؛ لذلك فعليه تبعة الضَّلالَيْن: ضلالة في نفسه، وإضلاله لغيره.

والسّبيل: هو الطّريق الموصل إلى الخير من أقصر طريق، وهو الصّراط المستقيم الّذي قال الله سبحانه وتعالى عنه: ﴿اهْدِنَا ‌الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾  [الفاتحة]، لذلك نقول في علم الهندسة: المستقيم هو أقصر بُعد بين نقطتين.

﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ : يدلّ على عدم معرفتهم حتّى بأصول التّجارة في البيع والشّراء، فالتّاجر الحقّ هو الّذي يشتري السّلعة، بحيث يكون نفعها أكثر من ثمنها، أمّا هؤلاء فيشترون الضّلال؛ لذلك يقول الحقّ عنهم: ﴿فَمَا ‌رَبِحَتْ ‌تِجَارَتُهُمْ﴾  [البقرة: من الآية 16].

﴿وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا﴾ : أي: السّبيل؛ لأنّ السّبيلِ تُذكَّر وتؤنّث، تُذكَّر باعتبار الطّريق، كقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ ‌الرُّشْدِ ‌لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا﴾  [الأعراف: من الآية 146]، وتُؤنَّث على اعتبار الشِّرْعة، كقوله جلَّ جلاله: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ‌عَلَى ‌بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾  [يوسف: من الآية 108]، هؤلاء الّذين يشترون الضّلال لإضلال النّاس لا يكتفون بذلك، إنّما يسخرون من أهل الصّلاح، ويهزؤون من أصحاب الطّريق المستقيم والنّهج القويم، ويُسفِّهون رأيهم وأفعالهم.

ثمّ يذكر الحقّ سبحانه وتعالى عاقبة هذا كلّه:

﴿أُولَئِكَ﴾ : أي: الّذين سبق الحديث عنهم، وهم أهل الضّلال.

﴿لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ : ووَصْفُ العذاب هنا بالمهانة دليل على أنّ من العذاب ما هو مهين وما هو أليم.