الآية رقم (12) - وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ

أي: وضرب الله سبحانه وتعالى مثلاً للّذين آمنوا مريم بنت عمران أمّ عيسى عليه السلام، جمع الله سبحانه وتعالى لها بين كرامة الدّنيا والآخرة، واصطفاها على نساء العالمين في عصرها، مع كونها بين قوم عصاة، صانت فرجها عن الرّجال والفواحش، فهي مثال العفّة والطّهر، فأمر الله سبحانه وتعالى جبريل عليه السلام أن ينفخ فيها، فحملت بعيسى عليه السلام، وصدّقت بشرائع الله سبحانه وتعالى الّتي شرعها لعباده، وبصحفه الّتي أنزلها على النّبيّ إدريس عليه السلام وغيره، وبكتبه الكبرى المنزلة على الأنبياء، وما خاطبها به الملك، وهو قول جبريل عليه السّلام لها: ﴿قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا﴾[مريم]، وما أخبرها به من البشارة بعيسى عليه السلام وكونه من المقرّبين، كما في سورتي آل عمران (الآيات ٤٢- ٤٨)، ومريم (الآيات ١٦- ٣٦)، وكانت من القوم المطيعين لربّهم، وكان أهلها أهل بيت صلاح وطاعة، ومن عداد النّاسكين العابدين المخبتين لربّهم، روى أحمد عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: خَطَّ رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ خُطُوطٍ، قَالَ: «تَدْرُونَ مَا هَذَا؟»، فَقَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أَفْضَلُ نِسَاءِ أَهْلِ الجَنَّةِ: خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ، وَآسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَمَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ»([1])، وثبت في الصّحيحين عن أبي موسى الأشعريّ عن النّبيّ ﷺ قال: «كَمَلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلَـمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ: إِلَّا آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَإِنَّ فَضْلَ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ»([2]).

فالسّيّدة مريم عانت معاناة كبيرة هي وسيّدنا المسيح عليه السلام من اليهود المجرمين واتّهاماتهم، وقد أتاها سيّدنا جبريل عليه السلام بالبشارة فحملت بسيّدنا عيسى عليه السّلام، كما أخبرنا سبحانه وتعالى في القرآن الكريم: ﴿فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا﴾ [مريم]، فهذا هو سيّدنا عيسى وهذه هي السّيّدة مريم الّتي نزلت سورة بالقرآن الكريم باسمها، وتحدّث القرآن الكريم عن أسرتها في سورة آل عمران، أسرة الصّلاح والتّقوى، قال سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾[آل عمران]، هذه الذّرّيّة الطّاهرة الّتي أنبتت السّيّد المسيح عليه السلام، وقال سبحانه وتعالى عن السّيّدة مريم: ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران].

([1]) مسند الإمام أحمد بن حنبل: ومن مُسند بني هاشم، مُسْنَد عبد الله بن العبّاس بن عبد المطّلب 8، الحديث رقم (2668).

([2]) صحيح البخاريّ: كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول اللّه تعالى: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ﴾، إلى قوله: ﴿وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ﴾، الحديث رقم (3411).

«وَمَرْيَمَ» معطوف على امرأة فرعون

«ابْنَتَ عِمْرانَ» صفة مريم مضاف إلى عمران

«الَّتِي» صفة مريم أيضا

«أَحْصَنَتْ» ماض فاعله مستتر

«فَرْجَها» مفعول به والجملة صلة.

«فَنَفَخْنا» ماض وفاعله والجملة معطوفة على ما قبلها

«فِيهِ» متعلقان بالفعل

«مِنْ رُوحِنا» متعلقان بالفعل أيضا،

«وَصَدَّقَتْ» فعل ماض فاعله مستتر والجملة معطوفة على ما قبلها

«بِكَلِماتِ» متعلقان بالفعل

«رَبِّها» مضاف إليه

«وَكُتُبِهِ» معطوف على ما قبله

«وَكانَتْ» ماض ناقص واسمه مستتر

«مِنَ الْقانِتِينَ» خبر كانت والجملة معطوفة على ما قبلها.

{أَحْصَنَتْ} … حَفِظَتْ وَصَانَتْ عَنِ الزِّنَى.

{فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا} … جِبْرِيلَ – عليه السلام -، حَيْثُ نَفَخَ فِي جَيْبِ قَمِيصِهَا؛ فَوَصَلَتِ النَّفْخَةُ إِلَى رَحِمِهَا.

{الْقَانِتِينَ} … المُطِيعِينَ لِرَبِّهِمْ.