ربّنا سبحانه وتعالى يعطينا المثل الأعلى في الخلْق؛ لأنّ خَلْق السّموات والأرض مسألة كبيرة، يقول سبحانه وتعالى: ﴿لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ﴾ [غافر: من الآية 57]، فالنّاس يولَدون ويموتون، وتتجدّد الحياة بأقوام آخرين، أمّا السّماء والأرض وما بينهما من نجوم وكواكب فهو خلْق هائل عظيم منضبط ومنظوم طوال هذا العمر الطّويل، لم يطرأ عليه خَلَل أو عطل، والحقّ سبحانه وتعالى لا يمتنُّ بخَلْق السّماء والأرض وما بينهما؛ لأنّها أعجب شيء، ولكن لأنّها مخلوقة للنّاس ومُسخَّرة لخدمتهم، فالسّماء وما فيها من شمس وقمر ونجوم وهواء ومطر وسحاب، والأرض وما عليها من خَيْرات، بل وما تحتها أيضاً: ﴿وَمَا تَحْتَ الثَّرَى﴾[طه: من الآية 6]، الكلّ مخلوق للإنسان، خادم له، ويصبُّ عنده وبين يديه، فالجماد يخدم النّبات، والنّبات يخدم الحيوان، وكلّهم يخدمون الإنسان، فإنْ كان الإنسان هو المخدوم الأعلى في هذا الكون فما عمله هو؟ وما وظيفته في كون الله عزَّ وجلّ؟ فكلّ ما دون الإنسان له مهمّة يؤدّيها، فما هي مهمّة الإنسان؟ فإنْ لم يكن لنا مهمّة في الحياة فنحن أتفه من الحيوان، ومن النّبات، حتّى ومن الجماد، فلا بُدَّ أنْ نبحثَ عن عملٍ يناسب سيادتنا على هذه المخلوقات، ثمّ هل سُخِّرَت هذه المخلوقات من قِبَلِنا نحن، من أنفسنا لأنفسنا؟ أو أنّ الله عزَّ وجلّ سخَّرها وذلَّلها لخدمتنا؟ فكان علينا أن نلتفت لمن سخَّر لنا هذه المخلوقات وهي أقوى منّا، فالكون مملوك لك، ونحن مملوكون جميعاً مع الكون لله عزَّ وجلّ، فلا تنشغل بالمملوك لك عن المالك لك.
فما الحكمة من خَلْق السّماء والأرض وما بينهما؟ الحكمة أنّه لولا هذه المخلوقات ما كُنَّا سنستدلّ على القوّة القادرة وراء خَلْق هذا الكون، ولو نظرنا إلى هذا الكون لأمكننا أنْ نُقسِّمه إلى قسمين: قسم لا دَخْلَ لنا فيه أبداً، وهذا نراه منسجماً في نظامه واستقامته وانضباطه، وقسم يتدخّل فيه الإنسان، وهذا الّذي يحدث فيه الخَلَل والفساد، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾[يس]، فالكَوْن من حولنا يسير بأمر خالقه، منضبط لا يتخلّف منه شيء، فلو أخذنا مثلاً سنة كاملة (365) يوماً، ثمّ حاولنا أنْ نعيدها في عام آخر لوجدنا أنّ الشّمس طلعتْ في اليوم الأوّل من المكان نفسه، وفي اليوم الثّاني من مكان اليوم الثّاني نفسه، وهكذا بدقّة متناهية، سبحان خالقها؛ لذلك فالّذين يضعون التّقويم لمعرفة الأوقات يضعون تقويم ثلاث وثلاثين سنة يُسجِّلون دورة الفلك، ثمّ يتكرّر ما سجَّلوه بانضباط شديد، ومن ذلك مثلاً إذا حدَّد العلماء موعد الكسوف أو الخسوف أو نوعه جزئيّ أو حَلْقيّ، فإذا ما تابعناه نجده منضبطاً تماماً في موعده نفسه، وهذا دليل على انضباط هذا الكون وإحكامه؛ لأنّه لا تدخُّل للإنسان فيه، وفي المقابل لننظر إلى أيِّ شيء للإنسان فيه تدخّل: فمثلاً نحن يكيل بعضنا لبعض، ويزن بعضنا لبعض، ويقيس بعضنا لبعض، ويخبز بعضنا لبعض، ويبيع بعضنا لبعض.. إلخ، لننظر إلى هذه العلاقات نجدها -إلاّ ما رحم الله جلَّ جلاله- فاسدة مضطربة، ما لم تَسِرْ على منهج الله عزَّ وجلّ، فإن سارت على منهج الله سبحانه وتعالى استقامت كاستقامة السّماء والأرض، فكلّما رأيتَ شيئاً فاسداً، شيئاً قبيحاً، فاعلم أنّ الإنسان وضع أنفه فيه، وكأنّ الخلق الّذي خلقه الله سبحانه وتعالى يقول للإنسان: أنت لستَ أميناً حتّى على نفسك، فالله جلَّ جلاله خلق لك هذا الكون كلّه، ولم يشذّ منه شيء، ولا اختلَّتْ فيه ظاهرة، أمّا أنت أيّها الإنسان؛ لأنّك مختار فقد أخللْتَ بنفسك وأتعبتها.