الآية رقم (43) - وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ

﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ ﴾: قد اعترض المعاندون من الكفّار على كون الرّسول صلى الله عليه وسلم بشراً، وقالوا: إذا أراد الله سبحانه وتعالى أن يرسل رسولاً فينبغي أن يكون مَلَكاً، فقالوا: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً﴾ [المؤمنون: من الآية 24]، وكأنّهم استقلُّوا الرّسالة عن طريق بشر، وهذا أيضاً من غباء الكافرين؛ لأنّ الرّسول صلى الله عليه وسلم حين يُبلّغ رسالة الله سبحانه وتعالى تقع على عاتقه مسؤوليّتان: مسؤوليّة البلاغ بالعلم، ومسؤوليّة التّطبيق بالعمل ونموذجيّة السّلوك، فيأمر بالصّلاة ويُصلِّي، وبالزّكاة ويُزكِّي، وبالصّبر ويصبر، فليس البلاغ بالقول فقط، لا بل بالسّلوك العمليّ النّموذجيّ، ولذلك كانت السّيّدة عائشة رضي الله عنها تقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ»([1])، وكان قرآناً يمشي على الأرض، والمعنى: كان تطبيقاً كاملاً للمنهج الّذي جاء به من الحقّ سبحانه وتعالى، لذلك قال سبحانه وتعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ [الأحزاب]، فكيف نتصوّر أن يكون الرّسول مَلَكاً؟ وكيف يقوم بهذه الرّسالة بين البشر؟ فلا بدّ أن يكون بشراً، ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ﴾ [الكهف: من الآية 110]، ففي هذا المعنى الرّسول الكريم هو الأسوة السّلوكيّة، لذلك ما كان صلى الله عليه وسلم ينهى عن شيءٍ إلّا ويكون أوّل من ينتهي، ولا يأمر بشيءٍ إلّا ويكون أوّل من يأخذ به، وهكذا هو الإيمان، فهو ما وقر في القلب وصدّقه العمل، والأسوة السّلوكيّة برسول الله صلى الله عليه وسلم:

تعصي الإله وأنت تُظهِر حبّـــــه       هذا لعمري في القياس بديعُ

لو كان حبّك صــــادقاً لأطعتـــــه       إنّ المحــــــبّ لمــــــن يحبّ مطيــــعُ

فليست القضيّة أن أؤمن عقيدةً وأخالف سلوكاً، وعندما يقول سبحانه وتعالى:

﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ﴾، يعني أنّه يجب أن يكون الرّسول بشراً يأكل كما يأكلون، ويشرب كما يشربون، ويتعب كما يتعبون، ويغتمّ كما يغتمّون، ويتعرّض لكلّ ما تتعرّض له البشريّة من أمور، ومن هنا كان من امتنان الله سبحانه وتعالى على العرب ومن فضله عليهم أن بعث فيهم رسولاً من أنفسهم: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [التّوبة]، فهو من أنفسكم، هو من العرب وليس من أمّةٍ أعجميّة، بل من بيئتكم؛ لتكونوا على علمٍ كامل بتاريخه وأخلاقه وسلوكه، تعرفون حركاته وسكناته، وقد كنتم تعترفون له بالصّدق والأمانة، وتأتمنونه على كلّ غالٍ ونفيسٍ لديكم قبل أن يأتيه الوحي، ﴿وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا﴾ [الإسراء]، فالّذي صدّهم عن الإيمان أنّه بشرٌ حسب ادّعائهم.

﴿نُوحِي إِلَيْهِمْ﴾: صحيحٌ أن الرّسل -عليهم السّلام- بشرٌ، لكنّهم يتّصلون بالوحي، فهم يأتمرون ويحملون رسالة، هذه الرّسالة هي رسالة أمانة التّبليغ عن الله سبحانه وتعالى، فهم مبلّغون عن الله عز وجل، فعندما يقول المولى سبحانه وتعالى: بأنّه أرسل رسلاً رجالاً يوحي إليهم؛ أي: أنّهم يحملون كلام الله سبحانه وتعالى إلى البشر، وإرادة المولى سبحانه وتعالى من البشر، ويبلِّغون عن الله جل جلاله ما يريده من البشر.

﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ﴾: أي: أنّك يا محمد لَسْتَ بدْعاً في الرّسل، فَمْن سبقوك كانوا رجالاً طيلة القرون الماضية، وفي موكب الرّسالات جميعاً.

وجاءتْ هنا كلمة: ﴿ رِجَالًا ﴾ لتفيد البشريّة أوّلاً كجنس، ثمّ لتفيد النّوع المذكَّر ثانياً؛ ذلك لأنّ طبيعة الرّسول قائمة على المخالطة والمعاشرة والمكابدة لقومه، ﴿نُوحِي إِلَيْهِمْ﴾؛ ليكونوا قدوةً سلوكيّةً للنّاس، فـ  ﴿ رِجَالًا ﴾ مقيّدة بقوله: ﴿نُوحِي إِلَيْهِمْ﴾، فالرّسول رجل، ولكن إيّاك أنْ تقول: هو رجلٌ مثْلي وبشر مثْلي، لا، هناك مَيّزة أخرى أنّه يُوحَى إليه، وهذه منزلة عالية يجب أن نحفظها للأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ﴾: أي: إذا غابتْ عنكم هذه القضيّة، قضّية إرسال الرّسل من البشر، ولا أظنّها تغيب؛ لأنّها عامّة في الرّسالات كلّها، وما كانت لتخفَى عليكم، خصوصاً وعندكم أهل العلم بالأديان السّابقة، مثل ورقة بن نوفل وغيره، وعندكم أهل السِّيَر والتّاريخ، وعندكم اليهود والنّصارى.. فاسألوا هؤلاء جميعاً عن بشريّة الرّسل -عليهم السّلام-، فهذه قضيّةٌ واضحةٌ لا تُنكَر، ولا يمكن المخالفة فيها.

﴿إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾: إن كنتم تشكّون ولا تعلمون هذه الحقيقة، والقرآن الكريم يوجّه البشريّة دوماً إلى سؤال أهل الاختصاص.

(([1] مسند الإمام أحمد بن حنبل: مسند النّساء، مسند الصّدّيقة عائشة بنت الصّدّيق 7، الحديث رقم (24601).

«وَما» الواو استئنافية وما نافية

«أَرْسَلْنا» ماض وفاعله

«مِنْ قَبْلِكَ» متعلقان بأرسلنا والكاف مضاف إليه

«إِلَّا» أداة حصر

«رِجالًا» مفعول به والجملة مستأنفة

«نُوحِي» مضارع مرفوع بالضمة المقدرة على الياء للثقل والفاعل مستتر

«إِلَيْهِمْ» متعلقان بنوحي

«فَسْئَلُوا أَهْلَ» الفاء الفصيحة وأمر وفاعله ومفعوله والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم

«الذِّكْرِ» مضاف إليه

«إِنْ» شرطية

«كُنْتُمْ» كان واسمها والجملة لا محل لها ابتدائية

«لا تَعْلَمُونَ» مضارع والواو فاعله والجملة خبر كان وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله.