الآية رقم (4) - وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ

﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ﴾: يخبر الحقّ سبحانه وتعالى عمّا حدث للأمم السّابقة، فقد كان كلّ رسولٍ يتكلّم بلغة قومه، وهناك فرقٌ بين قوم الدّعوة، وهم أمّة رسول الله ﷺ، وقوم الاستقبال، وهم الأمم السّابقة لأمّة رسول الله ﷺ، فالأمم السّابقة لم تكن مطالبة بأن تبلّغ دعوة الرّسل الّذين بُعِثوا فيهم ومَن قبلهم، أمّا أمّة النّبيّ محمّد ﷺ فمطالبة بذلك، قال سبحانه وتعالى: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾]البقرة[، فنحن من هذا المنطلق الأمّة الّتي نزلت عليها الرّسالة الخاتمة الّتي ختم الله تعالى فيها رسالات السّماء، لذلك حملت الرّسالات كلّها وطالبت النّاس بالإيمان بكلّ الأنبياء والختام بخاتم الأنبياء وسيّد المرسلين، فالحقّ سبحانه وتعالى أرسل رسوله ﷺ وأبلغنا في القرآن الكريم أنّ من آياته سبحانه وتعالى أن جعل النّاس على ألسنة مختلفة، ولم يكن من المعقول أن يرسل رسولاً يتكلّم اللّغات كلّها، فبُعِث النّبيّ محمّد ﷺ في أمّة العرب، وحين استقبلوه وأُشرِبت قلوبهم حبّ الإيمان صار عليهم أن ينساحوا برسالة القرآن الكريم لينقلوا معناه حجّةً بعد أن استقبلوه معجزةً، والقرآن الكريم حُجّةٌ؛ لأنّه يسوس حركة الحياة، وحركات الحياة لا تختلف بين النّاس أجمعين، فكلّ حضارة تأخذ من الأخرى منجزاتها العلميّة وتترجمها إلى لسانها الّذي تنطق به، وترجمة المعاني من لسانٍ إلى آخر مسألةٌ معروفةٌ في حضارات العالم كلّها؛ لأنّ المسألة في جوهرها مسألة معانٍ، والمعاني لا تختلف من أمّةٍ إلى أخرى، والقرآن الكريم معانٍ ومنهج يصلح لكلّ البشر، نزل بالعربيّة؛ لأنّ ميّزات هذه اللّغة تستحقّ أن تكون مستوعبةً لكلّ زمانٍ ومكانٍ، وقد دلّلنا على ذلك عندما تحدّثنا عن العروبة وعن تفسير قول الحقّ تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾]يوسف[، وهكذا أصبح على تلك الأمّة مهمّة الاستقبال لمنهج الله سبحانه وتعالى كمعجزةٍ بلاغيّةٍ وإرسال هذا المنهج إلى بقيّة المجتمعات، ونجد أنّ البلاد فُتحت عن طريق الإسلام فَتْحَ عقولٍ وقلوبٍ بالقدوة الصّالحة، وليس بالسّيف كما ادّعى بعضهم، والّذين نشروا الإسلام في كثيرٍ من أصقاع الأرض اعتمدوا على القدوة الصّالحة وليس على القوّة الباطشة، ونقلوا الدّين بالخصال الحميدة وبتطبيق الأخلاق في تعاملهم مع غيرهم، ولذلك أقبل النّاس على دين الله جلّ وعلا أفواجاً.

فمنهج الإسلام قد حمل معجزةً من المعاني بجانب كونه معجزةً في اللّغة الّتي نزل بها، وهي اللّغة العربيّة، ونجد أقواماً لا يستطيعون قراءة حرفٍ عربيٍّ إلّا في المصحف، فيحفظون المصحف كاملاً ولا يعلمون شيئاً من العربيّة؛ لأنّهم تعلّموا القراءة من المصحف واعتمدوا على فهم المعاني الموجودة في آياته عبر التّرجمات الّتي قام بها مسلمون أحبّوا القرآن الكريم ونقلوه إلى اللّغات الأخرى، ومن هنا نجد أنّ الله سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ ]القمر[، فالحقّ سبحانه وتعالى يسّر القرآن الكريم بلسان العرب أوّلاً، ثمّ يسّره بأن جعل من تلك الأمّة الّتي نزل عليها القرآن أمّة نشرٍ للبلاغ عن الله تعالى والتّبليغ بما جاء به رسول الله ﷺ، ووسيلته الكلام وليس السّيف والقتال، ووسيلته الاستقباليّة الثّانية هي الأذن، فلا بدّ من الكلام أوّلاً ثمّ لا بدّ من أُذنٍ تعرف مدلولات الألفاظ لتسمع هذا الكلام وتؤمن به، ومن ثمّ تطبّق سلوكاً، ومن يسمع المتكلّم لا بدّ أن يكون واعياً وعارفاً بمعاني الألفاظ، فما تسمعه الأذن يحكيه اللّسان، فاللّغة بنت السّمع، وكلّ فردٍ إنّما يتكلّم باللّغة الّتي سمعها في بيئته، فالطّفل يولد في بريطانية فيتكلّم الإنجليزيّة؛ لأنّ البيئة من حوله يتكلّمون الإنجليزيّة، وإن وُلد في الشّام يتكلّم العربيّة.. وإذا تتبّعنا سلسلة تعلّم الكلام سنجد أنفسنا جميعاً أمام الجذر الأصليّ الّذي تعلّم منه البشر الكلام وهو آدم عليه السلام، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾]البقرة: من الآية 31[، فاللّغة بدأت توقيفيّة؛ أي أنّ الله سبحانه وتعالى علّمها لآدم عليه السلام، ثمّ تكلّمها آدم عليه السلام فسمعتها بيئته، فأصبحت اللّغة وضعيّة، بعد ذلك اختلفت اللّغة من مجتمعٍ لآخر.

﴿لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾: بذلك أوضح جل جلاله السّبب في إرسال كلّ رسولٍ بلسان قومه، وقد قال سبحانه وتعالى: ﴿ وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ﴾]الشّعراء[، وقال أيضاً: ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ﴾]فصّلت[، فهناك من يستقبل القرآن الكريم كدليل هدايةٍ وينفي عن نفسه الهموم، وينقّي نفسه من الكدر، وهناك من يستقبل القرآن الكريم فيكون عليه عمىً وعلى سمعه غِشاوةً؛ لأنّه ينكره ويكفر به، والسّبب كما نعلم أنّ حدوث الحادث من آمرٍ به يحتاج إلى فاعلٍ وقابلٍ للفعل، نضرب مثلاً للتّقريب: من يشرب الشّاي ينفخ فيه ليبرّده قليلاً، وهذا الإنسان ذاته حين يخرج في صباحٍ شتويٍّ فهو ينفخ في يديه ليدفئهما، وهكذا ينفخ مرّةً ليبرّد شيئاً وينفخ مرّةً مستدعياً الدّفء، والمسألة ليست في أمر النّفخ، ولكن في استقبال الشّاي للهواء الخارج من فمك، فالشّاي أكثر حرارةً من حرارة الجسم فيبرد بالنّفخ، بينما اليد في الشّتاء تكون أكثر برودةً من الجسم فتستقبل النّفخ لها برفع درجة الحرارة لتتساوى مع حرارة الجسم، فهكذا نجد أنّ القرآن الكريم واحدٌ لا يتغيّر، لكنّ المؤمن يسمعه فيفرح به ويؤمن، والكافر يسمعه فيتعب ويشقى منه.

﴿فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾: المشيئة لقابليّة الإيمان موجودةٌ والمشيئة لقابلية الضّلال موجودةٌ، وضعها الله سبحانه وتعالى في الإنسان، فهو يستطيع أن يستدعي مشيئة الإيمان ويؤمن، ويستطيع أن ينكر، وهذا هو الخيار، لذلك يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ﴾]محمّد[، ويقول جل جلاله: ﴿ وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾ ]البقرة: من الآية 26[؛ أي أنّ الفسق قد صدر منهم؛ لأنّهم ملؤوا أفئدتهم بقضايا باطلة، فجاءت قضايا الحقّ فلم تجد مدخلاً، فهنا يتبيّن معنى قوله سبحانه وتعالى: ﴿فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ فمن يُقبل على الضّلال يزيده الله سبحانه وتعالى ضلالاً، ومن يؤمن فإنّه يضمن لنفسه زيادة الهداية في الدّنيا، والنّعيم الدّائم في الآخرة.

﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾: العزيز الّذي لا يُغلب، والحكيم الّذي قدّر لكلّ أمرٍ ما يشاء.

«وَما أَرْسَلْنا» الواو استئنافية وما نافية وماض وفاعله والجملة مستأنفة

«مِنْ» حرف جر زائد

«رَسُولٍ» اسم مجرور لفظا منصوب محلا مفعول به

«إِلَّا» أداة حصر

«بِلِسانِ» متعلقان بمحذوف حال

«قَوْمِهِ» مضاف إليه

«لِيُبَيِّنَ» اللام للتعليل ومضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل ومتعلقان بيبين والفاعل مستتر

«لَهُمْ» متعلقان بيبين

«فَيُضِلُّ اللَّهُ» مضارع ولفظ الجلالة فاعله والجملة استئنافية

«مَنْ يَشاءُ» من موصولية مفعول به ومضارع فاعله مستتر والجملة صلة

«وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ» إعرابها كسابقتها

«وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» مبتدأ وخبراه والجملة حالية