الآية رقم (16) - وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يُرِيدُ

﴿أَنْزَلْنَاهُ﴾: أي: القرآن الكريم؛ لأنّ الضّمير هنا كما ذكرنا مرجعه مُتعيّن، وما دام مرجعه مُتعيّناً فلا يحتاج إلى ذكر سابق، والإنزال يحمل معنى العلوّ، فإنْ رأيتَ في هذا التّشريع الّذي جاءك في القرآن الكريم ما يشقُّ عليك أو يحولُ بينك وبين ما تشتهيه نفسك، فاعلم أنّه من أَعْلى منك، من الله جلَّ جلاله، وليس من مُسَاوٍ لك، يمكن أنْ تستدرك عليه أو تناقشه: لماذا هذا الأمر؟ ولماذا هذا النّهي؟ طالما أنّ الأمر يأتيك من الله عزَّ وجلّ، فلا بُدَّ أن تسمع وتطيع، ولنا أُسْوة في هذا التّسليم بسيّدنا أبي بكر رضي الله عنه لـمّا قالوا له: إنّ صاحبك يقول: إنّه أُسْرِي به اللّيلة من مكّة إلى بيت المقدس، ثمّ عُرِج به إلى السّماء، فما كان من الصِّديِّق إلّا أنْ قال: إنْ كان قال فقد صدق، هكذا دون مناقشة.

﴿آيَاتٍ﴾: أي: معجزات.

﴿بَيِّنَاتٍ﴾: واضحات.

وسبق أنْ ذكرنا أنّ كلمة الآيات تُطلَق على معَانٍ ثلاثة: الآيات الكونيّة الّتي تُثبِت قدرة الله عزَّ وجلّ، وبها يستقرّ الإيمان في النّفوس، ومنها اللّيل والنّهار والشّمس والقمر، والآيات بمعنى المعجزات المصاحبة للرّسل لإثبات صِدْق بلاغهم عن الله سبحانه وتعالى، والآيات الّتي يتكوَّن منها القرآن الكريم، وتُسمَّى: (حاملة الأحكام)، فالمعنى هنا: ﴿وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾ تحمل كلمة الآيات هذه المعاني كُلّها، فآيات القرآن الكريم فيها الآيات الكونيّة، وفيها المعجزة، وهي ذاتها آيات الأحكام.

﴿وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ﴾: وهذه من المسائل الّتي وقف النّاس حولها طويلاً: ﴿يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾[النّحل: من الآية 93]، فبعض النّاس الّذين يحبّون المجادلة، يقولون: لم يُرِدِ الله سبحانه وتعالى لنا الهداية، فماذا نفعل؟ وما ذنبنا؟ وهذه وقفة عقليّة خاطئة؛ لأنّ الوَقْفة العقليّة تقتضي أنْ تذكر الشّيء ومقابله، أمّا هؤلاء فقد نبَّهوا العقل للتّناقض في واحدة وتركوا الأخرى، فهي وَقْفة تبريريّة، فالضّالّ الّذي يقول: لقد كتب الله سبحانه وتعالى عليَّ الضّلال، فما ذنبي؟ لماذا لم يَقُلْ: الطّائع الّذي كتب الله سبحانه وتعالى له الهداية، لماذا يثيبه؟! فلماذا تركتم الخير وناقشتم في الشّرّ؟ والمتأمّل في الآيات الّتي تتحدّث عن مشيئة الله عزَّ وجلّ في الإضلال والهداية يجد أنّه سبحانه وتعالى قد بيّن مَنْ شاء أنْ يُضلّه، وبيّن مَنْ شاء أنْ يهديه، نقرأ قول الحقّ سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾[المائدة: من الآية 67]، فكُفْره سابق لعدم هدايته، وقوله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾[المنافقون: من الآية 6]، وقوله جلَّ جلاله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [القصص: من الآية 50]، إنّما يهدي مَنْ آمن به، أمّا هؤلاء الّذين اختاروا الكفر والفسوق والظّلم واطمأنّوا إليه وركنوا، فإنّ الله سبحانه وتعالى يختم على قلوبهم، فلا يدخلها الإيمان، ولا يخرج منها الكفر؛ لأنّهم أحبُّوه فزادهم منه كما زاد المؤمنين إيماناً: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى﴾[محمّد: من الآية 17]، والهداية هنا بمعنى الدّلالة على الخير، وسبق أنْ ضربنا لها مثلاً، ولله سبحانه وتعالى المثَل الأعلى: هَبْ أنّك تسلك طريقاً لا تعرفه، فتوقّفتَ عند شرطي المرور وسألته عن وجهتك فدلَّكَ عليها، ووصف لك الطّريق الموصِل إليها، لكن هل دلالته لك تُلزمك أنْ تسلك الطّريق الّذي وُصِف لك؟ بالتّأكيد أنت حُرٌّ تسير فيه أو في غيره، فإذا ما حفظتَ لرجل المرور جميلَهُ وشكرته عليه، ولمس هو فيك الخير، فإنّه يُعينك بنفسه على عقبات الطّريق، وربّما ركب معك ليجتاز بك منطقة خطرة، وربّما دلّك على استراحة على الطّريق، هذا معنى: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ﴾[محمّد]، أمّا لو تعاليتَ على هذا الرّجل، أو اتّهمته بعدم المعرفة بمسالك الطّرق، فإنّه يدعُكَ وشأنك، ويضِنُّ عليك بمجرّد النّصيحة التّالية، وهكذا.. فالله سبحانه وتعالى دَلَّ المؤمن ودَلَّ الكافر على الخير، المؤمن رضي بالله سبحانه وتعالى وقَبِل أمره ونَهْيه، وحمد الله سبحانه وتعالى على هذه النّعمة، فزاده إيماناً وأعانه على مشقّة العبادة، وجعل له نوراً يسير على هَدْيه، أمّا الكافر فقد تركه يتخبّط في ظلمات كفره، ويتردّد في متاهات العمى والضّلال.

«وَكَذلِكَ» الواو استئنافية والكاف للتشبيه وذا اسم إشارة في محل جر بالكاف متعلقان بصفة لمصدر محذوف

«أَنْزَلْناهُ» ماض وفاعله ومفعوله والجملة مستأنفة

«آياتٍ» حال منصوبة بالكسرة لأنها جمع مؤنث سالم

«بَيِّناتٍ» صفة مجرورة مثل موصوفها

«وَأَنَّ اللَّهَ» أن ولفظ الجلالة اسمها وجملتها معطوفة على الهاء في أنزلناه

«يَهْدِي» مضارع مرفوع بالضمة المقدرة على الياء للثقل

«مَنْ» اسم موصول في محل نصب مفعول به والجملة خبر أن

«يُرِيدُ» مضارع فاعله مستتر والجملة صلة لا محل لها