لنلاحظ هنا اللّين وأدب الجدل عند موسى عليه السلام، فلم يردّ عليهم بالقسوة الّتي سمعها منهم، ولم يتّهمهم كما اتّهموه، إنّما ردّ بهذا الأسلوب اللَّيّن، وبهذا الإيحاء: ﴿وَبِّيٓ أَعۡلَمُ بِمَن جَآءَ بِٱلۡهُدَىٰ مِنۡ عِندِهِۦ وَمَن تَكُونُ لَهُۥ عَٰقِبَةُ ٱلدَّارِۚ﴾، ولم يقُلْ: إنّي جئت بالهدى.
﴿عَٰقِبَةُ ٱلدَّارِۚ﴾: الدّار: يعني: الدّنيا، وعاقبتها: تعني: الآخرة.
﴿إِنَّهُۥ لَا يُفۡلِحُ ٱلظَّٰلِمُونَ ﴾: سواء كنّا نحن أم أنتم، ولم يقُلْ: أنتم الظّالمون، لقد أطلق القضيّة، وترك للعقول أنْ تميّز.
وهذا الأدب النّبويّ في الجدل والحوار رأيناه في سيرة سيّدنا رسول الله ﷺ مع كفّار مكّة والمعاندين له، وقد خاطبه ربّه تعالى: ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [العنكبوت: من الآية 46]، وقال عزَّ وجل: ﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ [النّحل]، ونبيّنا ﷺ كان يقول: «اللّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ»([1])، ورحم الله أمير الشّعراء شوقي الّذي صاغ هذه المسألة في عبارة موجزة، فقال: النُّصْح ثقيل فلا ترسله جبلاً، ولا تجعله جدلاً، وقال آخر: الحقائق مرّة فاستعيروا لها خفّة البيان.