الآية رقم (21) - وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوًّا كَبِيرًا

﴿وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا﴾: ومن الّذي لا يرجو لقاء الله عزَّ وجلَّ؟! قال ﷺ: «مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ»([1])، واللّقاء: يعني البعث، ﴿يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾[المطفّفين]، وقد آمنّا بالله تعالى غَيْباً، وفي الآخرة نؤمن به عزَّ وجلَّ مَشْهداً: ﴿لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ﴾ [غافر: من الآية 16]، حتّى مَنْ لم يؤمن في الدّنيا سيؤمن في الآخرة.

﴿لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا﴾: يعني: لا ينتظرونه ولا يؤمنون به؛ لذلك لم يستعدّوا له، لماذا؟ لأنّهم آثروا عافية العاجلة على عافية الآجلة، ورأوْا أمامهم شهواتٍ ومُتَعاً لم يصبروا عليها، وغفلوا عن الغاية الأخيرة.

واللّقاء يعني الوَصْل والمقابلة، لكن كيف يتمّ الوَصْل والمقابلة بين الحقّ عزَّ وجلَّ وبين الخَلْق؟! هذه من المسائل الّتي كَثُر فيها الجدال، وحدثت فيها ضجّة شكّكتْ المسلمين في كثير من القضايا، فمنهم مَن قال: اللّقاء يقتضي أن يكون الله عزَّ وجلَّ مُجسّماً وهذا ممنوع، وقال آخرون: ليس بالضّرورة أن يكون اللّقاء وَصْلاً، فقد يكون مجرّدَ الرّؤية؛ لأنّ رؤية العَيْن للرّبّ ليست لقاء، وهذا قول الجمهور، أمّا المعتزلة فقد نفَوْا حتّى الرّؤية، فقالوا: لا يلقونه وَصْلاً ولا رؤية؛ لأنّ الرّائي يحدّد المرئيّ، وهذا مُحَالٌ على الله تعالى، والإجابة على المعتزلة: هم يأخذون المسائل بالنّسبة إلى الله تعالى، كما يأخذونها بالنّسبة إلى مخلوقاته عزَّ وجلَّ وهذا خطأ، يجب أن يأخذوا كلّ شيء بالنّسبة إلى الله تعالى في إطار: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشّورى: من الآية 11]، فإذا كان اللّقاء يقتضي الوَصْل، فللّه عزَّ وجلَّ لقاء لا يقتضي الوصل، وإذا كانت الرّؤية تحدِّد، فللّه عزَّ وجلَّ رؤية لا تُحدَّد، إنّ لك سَمْعاً، ولله عزَّ وجلَّ سمعٌ، فهل سمعُك كسمع الله تعالى؟ بالتّأكيد لا، فلماذا تريد أن يكون لقاء الله تعالى كلقائك يقتضي تجسُّداً، أو رؤيته كرؤيتك؟! لذلك في قصّة رؤية سيّدنا موسى عليه السّلام لربّه تعالى، ماذا قال موسى عليه السّلام؟ قال: ﴿رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ﴾[الأعراف: من الآية 143]، فطلب من ربّه تعالى أن يُريه؛ لأنّه لا يستطيع ذلك بذاته، ولا يصلح لهذه الرّؤية، إلّا أن يُريه الله عزَّ وجلَّ ويطلعه، فالمسألة ليست من جهة المرئيّ، إنّما من جهة الرّائي، لكن هل قرَّعه الله عزَّ وجلَّ على طلبه هذا، وقال عنه: استكبر وعتا عُتُوّاً كبيراً كما قال هنا؟ لا، إنّما قال له: ﴿لَنْ تَرَانِي﴾[الأعراف: من الآية 143]، ولم يقُلْ عزَّ وجلَّ: لن أُرَى، وفرْق بين العبارتين، ﴿لَنْ تَرَانِي﴾ [الأعراف: من الآية 143]؛ لأنّك في الدّنيا، المنع هنا ليس من المرئيّ بل المنع من الرّائي؛ لذلك أعطاه ربّه تعالى الدّليل: ﴿وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي[الأعراف: من الآية 143]، يعني: أأنت أقوى أم الجبل؟ ﴿فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا﴾  [الأعراف: من الآية 143]، والإنسان أكرم من الجبل، ولكن تركيبته وطبيعته لا تصلح لهذه الرّؤية، وليس لديه الاستعداد لتلقّي الأنوار الإلهيّة؛ ذلك لأنّ الله عزَّ وجلَّ خلقه للأرض، أمّا في الآخرة فالأمر مختلف؛ لذلك سيُعدِّل الله عزَّ وجلَّ هذا الخلق بحيث تتغيّر حقائقه ويمكنه أن يرى، وإذا كان موسى عليه السّلام قد صُعِق لرؤية المتجلَّى عليه وهو الجبل، فكيف به إذا رأى المتجلِّي تعالى؟! لذلك، كان من نعمة الله عزَّ وجلَّ على عباده في الآخرة: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾[القيامة]، وقال عن الكفّار: ﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ﴾ [المطفّفين]، فما يتميَّز به المؤمنون عن الكافرين أنّهم لا يُحجبون عن رؤية ربّهم تعالى، وذلك بعد أنْ تغيَّر تكوينهم الأخْرويّ، فأصبحوا قادرين على رؤية ما لم يَرَوْه في الدّنيا، وإذا كان البشر الآن بتقدّم العلم يصنعون لضعاف البصر ما يزِيد من بصرهم ورؤيتهم، فلماذا تجادلون وتنكرون؟ لذلك تجد المسرفين على أنفسهم يجادلونك بما يريحهم، فتراهم يُنكِرون البعث، ويُبعِدون هذه الفكرة عن أنفسهم.

﴿لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ﴾: وهذا يدلّ على تكبُّرهم واعتراضهم على كَوْن الرّسول بَشَراً، وفي موضع آخر قالوا: ﴿أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا﴾[التّغابن: من الآية 6]، فكلّ ما يغيظهم أن يكون الرّسول بشراً، وهذا الاستدراك يدلُّ على غبائهم، فلو جاء الرّسول ملَكاً ما صَحَّ أن يكون لهم قدوة، وما جاء الرّسول إلّا ليكون قُدْوةً ومُعلِّماً للمنهج وأُسْوة سلوك، ولو جاء ملَكاً لأمكنه أنْ يُعلِّمنا منهج الله تعالى، لكن لا يمكن أنْ يكون لنا أُسْوة سلوك، فلو أمرك بشيء وهو مَلَك لَكان لك أنْ تعترض عليه، وتقول: أنت مَلَكٌ تقدر على ذلك، أمَّا أنا فبشر لا أقدر عليه.

فالحقّ عزَّ وجلَّ يقول: لاحظوا أنّ للرّسل مهمّتين: مهمّةَ البلاغ، ومهمّة الأُسْوة السّلوكيّة، فلو أنّهم كانوا من غير طبيعة البشر لتأتّى لهم البلاغ، لكن لا يتأتّى لهم أن يكونوا قُدْوة ونموذجاً يُحتذى، ولو جاء الرّسول ملَكَاً على حقيقته ما رأيتموه، ولاحْتَجتم له على صورة بشريّة، وعندئذٍ لن تعرفوا أهو ملَكَ أم بشر، لذلك يقول عزَّ وجلَّ: ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ﴾ [الأنعام]، ومسألة نزول الملائكة مع الرّسول من الاقتراحات الّتي اقترحها الكفّار على رسول الله ﷺ ليطلبها من ربّه، وهذا يعني أنّهم يريدون دليلَ تصديق على نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم، وسبق أنْ جاءهم رسول الله ﷺ بمعجزة من جنس ما نبغُوا فيه، وعجزوا أنْ يُجَاروه فيها، ليثبت أنّ ذلك جاء من عند ربّهم القويّ، ومعنى هذه المعجزة أنّها تقوم مقام قوله: صدق عبدي في كلّ ما يُبلِّغ عنّي، لقد كانت معجزة القرآن الكريم كافية لتقوم دليلاً على صِدْق الرّسول في البلاغ عن الله تعالى، وأيضاً جاءهم ﷺ بغيبيّات لا يمكن أن يطّلع عليها إنسان، لا في القديم الّذي حدث قبل أنْ يُولدَ، ولا في الحديث الّذي سيكون بعد أنْ يُولد، فدليل صدق الرّسول ﷺ قائم، فما الّذي دعاكم إلى اقتراح معجزات أخرى؟

﴿أَوْ نَرَى رَبَّنَا﴾: والله، لو كان إله يُرَى لكم ما صَحَّ أن يكون إلهاً؛ لأنّ المرئيّ مُحَاطٌ بحدقة الرّائي، ما هذا الكلام؟ هذا كلام تعصّب كلّه، ومحاولة لإبعاد الإيمان عن قلوبهم، لذلك يختم الحقّ عزَّ وجلَّ هذه المسألة بقوله:

﴿لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ﴾: استكبر وتكبَّر: حاول أن يجعل نفسه فوق قَدْره، وكلُّ إنسان مِنّا له قَدْر محدود، ومن هنا جاء القول المأثور: “رَحِمَ الله امرأً عرف قدر نفسه”، فلماذا يتكبّر الإنسان؟! التّكبّر من قِبَل الإنسان مرفوض، والإسلام جاء بنظرة عقليّة وعاطفيّة سويّة، وجعل من الإيمان بالقرآن الكريم أساساً، كمعجزة دالّة على صدق البلاغ، فعندما تكبّروا وعتوا في أنفسهم عتوّاً كبيراً، فهذا تكبّرٌ على الإيمان، ومن استكبارهم مواجهتهم لرسول الله ﷺ في بداية دعوته وقولهم: ﴿وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾[الزّخرف: من الآية 31]، فالقرآن الكريم لا غبارَ عليه، وهذا حكم واقعيّ منهم؛ لأنّهم أمّة بلاغة وفصاحة، والقرآن الكريم في أَرْقَى مراتب الفصاحة والبيان، إنّما الّذي وقف في حُلُوقهم أن يكون الرّسول رجلاً من عامّة النّاس، يريدونه عظيماً في نظرهم، حتّى إذا ما اتّبعوه كان له حيثيّة تدعو إلى اتّباعه، فالمسألة من الكفّار تلكّؤٌ وعناد واستكبار عن قبول الحقّ الواضح، وقد سبق أن اقترحوا مثل هذه الآيات والمعجزات، فلمّا أجابهم الله عزَّ وجلَّ كذّبوا، مع أنّ الآيات والمعجزات ليست باقتراح المرسل إليهم، إنّما تفضُّل من الله عزَّ وجلَّ واهب هذه الرّسالة.

والاستكبار: مادّته الكاف والباء والرّاء، وتأتي بمعانٍ عِدَّة:

– تقول كَبَرَ يكْبَر؛ أي: في عمره وحجمه.

– وكَبُر يكبُر؛ أي: عَظُم في ذاته، ومنها قوله عزَّ وجلَّ: ﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ﴾ [الكهف: من الآية 5].

– وتكبَّر: أظهر صفة الكبرياء للنّاس.

– واستكبر: إذا لم يكُنْ عنده مؤهِّلات الكِبر، ومع ذلك يطلب أن يكون كبيراً.

فالمعنى: ﴿اسْتَكْبَرُوا﴾ ليس في حقيقة تكوينهم، إنّما: ﴿اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ﴾ في أنّهم يتّبعُون الرّسول؛ أي: أنّها كبيرة عليهم أن يكونوا تابعين لرجل يروْنَ غيره أحسن منه -على زعمهم-.

ومن لُطْف الله عزَّ وجلَّ بالخَلْق ورحمته بهم أنْ يكون له وحده الكبرياء، وله وحده عزَّ وجلَّ التّكبُّر والعظمة، ويعلنها الحقّ تعالى: «الكِبْرِيَاءُ رِدَائِي، وَالعَظَمَةُ إِزَارِي، فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِداً مِنْهُمَا، قَذَفْتُهُ فِي النَّارِ»([2])، والحقّ عزَّ وجلَّ لا يجعلها جبروتاً على خَلْقه، إنّما يجعلها لهم رحمة؛ لأنّ الخَلْق منهم الأقوياء والأغنياء.. وحين يعلمون أنّ لله عزَّ وجلَّ الكبرياء المطلق يعرف كلّ منهم قدره، فالله عزَّ وجلَّ هو المتكبّر الوحيد، ونحن جميعاً سواء.

﴿وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا﴾: عتوا: بالغوا في الظّلم وتجاوزوا الحدود، وكأنّ هذا غير كافٍ في وصفهم، فأكّد العُتُوّ بالمصدر: ﴿عُتُوًّا﴾، ثمّ وصف المصدر أيضاً: ﴿عُتُوًّا كَبِيرًا﴾، لماذا هذه المبالغة كلّها في التّعبير؟ قالوا: لأنّهم ما عَتَا بعضهم على بعض فحسب، إنّما عتوا على رسول الله ﷺ، بل وعلى الله تعالى؛ لذلك استحقُّوا هذا الوصف وهذه المبالغة.

والعاتي الّذي بلغ في الظُّلم الحدَّ، ومن ذلك قوله عزَّ وجلَّ: ﴿وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا﴾ [مريم: من الآية 8]، ومعلومٌ أنّ الكِبَر ضعف، كما قال عزَّ وجلَّ: ﴿ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً﴾[الرّوم: من الآية 54]، فكيف يصف الكبر بأنّه عَاتٍ؟ قالوا: العاتي هو القويّ الجبّار الّذي لا يقدر أحد على صَدِّه، وكذلك الكِبَر لا يستطيع أحد صدّه، ولا توجد قوّة تطغى عليه فتمنعه.

(([1] صحيح البخاريّ: كِتَابُ الرِّقَاقِ، بَابٌ: مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، الحديث رقم (6507).

(([2] سنن أبي داود: كِتَاب اللِّبَاسِ، بَابُ مَا جَاءَ فِي الكِبْرِ، الحديث رقم (4090).

«وَقالَ الَّذِينَ» الواو استئنافية وماض واسم الموصول فاعله والجملة مستأنفة

«لا يَرْجُونَ» لا نافية ومضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل والجملة صلة

«لِقاءَنا» مفعول به ونا مضاف اليه

«لَوْلا» حرف تحضيض

«أُنْزِلَ» ماض مبني للمجهول

«عَلَيْنَا» متعلقان بأنزل

«الْمَلائِكَةُ» نائب فاعل والجملة في محل نصب مقول القول

«أَوْ نَرى» أو عاطفة ومضارع مرفوع بالضمة المقدرة على الألف للتعذر وفاعله مستتر

«رَبَّنا» مفعول به ونا مضاف إليه

«لَقَدِ» اللام واقعة في جواب القسم المحذوف قد حرف تحقيق

«اسْتَكْبَرُوا» ماض والواو فاعله

«فِي أَنْفُسِهِمْ» متعلقان باستكبروا، والهاء مضاف إليه والجملة جواب القسم

«وَعَتَوْا» معطوف على استكبروا وإعرابه مثله

«عَتَوْا» مفعول مطلق

«كَبِيراً» صفة