الآية رقم (63) - وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا

يعطينا الحقّ عزَّ وجلَّ صورة للعبوديّة الحقّة، ونموذجاً للّذين اتّبعوا المنهج، كأنّه عزَّ وجلَّ يقول لنا: دَعْكُم من الّذين أعرضوا عن منهج الله تعالى وكذَّبوا رسوله، وانظروا إلى أوصاف عبادي الّذين آمنوا بي، ونفَّذوا أحكامي، وصدَّقوا رسولي.

﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ﴾: نقول: عباد وعبيد، والتّحقيق أنّ عبيد جمع لعبد، وأنّ عباد جمع لعابد، مثل: رجال جمع راجل، كقوله عزَّ وجلَّ: ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا﴾ [الحجّ: من الآية 27]، فعبيد غير عِبَاد.

وسبق أن تحدّثنا عن الفَرْق بين العبيد والعباد، فكلّنا عبيد لله عزَّ وجلَّ: المؤمن والكافر، والطّائع والعاصي، فما دام يطرأ على الإنسان في حياته ما لا يستطيع أنْ يدفعه، كالمرض والموت.. إلخ، فهو مقهور، فالعبد الكافر الّذي تمرَّد على الإيمان بالله تعالى، وتمرَّد على تصديق الرّسول ﷺ، وتمرّد على أحكام الله عزَّ وجلَّ فلم يعمل بها، هو مقهور للمرض والموت، فهم عبيد، فأنت عبد رغماً عنك، وكلّنا عبيد بهذا المعنى، أمّا الّذي يختار الطّاعة فيسمّى عابداً، فاستحقّ أن يكون من عباد الله تعالى، وهنا يأتي قوله: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ﴾، فنحن وإنْ كنّا عبيداً فنحن سادة؛ لأنّنا عبيد الرّحمن؛ لذلك كانت حيثيّة تكريم الله لرسوله ﷺ في الإسراء هي عبوديّته لله عزَّ وجلَّ، حيث قال تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ﴾[الإسراء: من الآية 1]، فالعبوديّة هي علّة الارتقاء، فلمّا أخلص رسول الله ﷺ العبوديّة لله تعالى نال هذا القُرْب الّذي لم يسبقه إليه بشر، لذلك وصف الله عزَّ وجلَّ الملائكة بأنّهم: ﴿عِبَادٌ مُكْرَمُونَ﴾[الأنبياء: من الآية 26].

وأوّل ما نلحظ في هذه الآية أنّه عزَّ وجلَّ أضاف العباد إلى الرّحمن، حتّى لا نظنّ أنّ العبوديّة لله تعالى ذِلَّة، وأنّ القرآن الكريم كلام ربّ وُضِع بميزان، ثمّ يذكر عزَّ وجلَّ صفات هؤلاء العباد، صفاتهم في ذواتهم، وصفاتهم مع مجتمعهم، وصفاتهم مع ربّهم، وصفاتهم في الارتقاء بالمجتمع إلى الطُّهر والنّقاء، أمّا في ذواتهم، فالإنسان له حالتان هما محلُّ الاهتمام: إمّا قاعد، وإمّا سائر، ونُخرِج حالة النّوم؛ لأنّه وقت سكون، أمّا حال القعود فالحركة محدودة في ذاته، والمهمّ حال الحركة والمشي، وهذا هو الحال الّذي ينبغي الالتفات إليه، لذلك يوضّح لنا ربّنا تعالى كيف نمشي فيقول:

﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا﴾: يعني: برفق وسكينة ولين دون اختيال، أو تكبُّر، أو غطرسة، لماذا؟ لأنّ المشي هو الّذي سيُعرِّضنا لمقابلة مجتمعات متعدّدة، وهذا الأدب الرّبّانيّ في المشي يُحدِث في المجتمع استطراقاً إنسانيّاً يُسوِّي بين الجميع، وفي موضع آخر يقول عزَّ وجلَّ في هذه المسألة: ﴿وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا﴾[لقمان: من الآية 18]، ويقول تعالى: ﴿إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا﴾[الإسراء: من الآية 37]، والمتكبِّر شخص ضُرِب الحجاب على قلبه، فلم يلتفت إلى ربّه الأعلى، ويرى أنّه أفضل من خَلْق الله تعالى جميعاً، ولو استحضر كبرياء ربّه تعالى لاستحى أن يتكبّر على خَلْق الله تعالى، فتكبُّره دليل على غفلته عن هذه المسألة، وفي موضع آخر يُعلِّمنا أدب المشي، فيقول تعالى: ﴿وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ﴾[لقمان: من الآية 19]، وقالوا: إنّ المراد بالمشي الهَوْن، هو الّذي يسير فيه الإنسان على سجيّته دون افتعال للعظمة أو الكِبْر، لكن دون انكسار وذِلّة، وسيّدنا عمر رضي الله عنه حينما رأى رجلاً يسير متماوتاً ضربه، ونهاه عن الانكسار والتّماوت في المشية، وهكذا فمِشْية المؤمن وَسَط، لا مُتَكبّر ولا مُتَماوت مُتَهالك.

﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾: الجاهل: هو السَّفيه الّذي لا يزن الكلام، ولا يضع الكلمة في موضعها، ولا يدرك مقاييس الأمور، لا في الخَلْق ولا في الأدب، وسبق أن فرَّقْنا بين الجاهل والأمّيّ، الأمّيّ هو خالي الذّهن، ليس عنده معلومة يؤمن بها، وهذا من السّهل إقناعه بالصّواب، أمّا الجاهل فعنده معلومة مخالفة للواقع؛ لذلك يأخذ منك مجهوداً في إقناعه؛ لأنّه يحتاج أوّلاً أن تُخرِج من ذهنه الخطأ، ثمّ تُدخِل في قلبه الصّواب.

والمعنى: إذا خاطبنا الجاهل، فحذار أن نكون مثله في الرّدِّ عليه فنسْفَه عليه كما سَفِهَ علينا، بل نقرِّعه بأدب، ونقول: ﴿سَلَامًا﴾، لنُشعِره بالفرق بيننا وبينه، والحقّ عزَّ وجلَّ يُوِضِّح في آية أخرى ثمرة هذا الأدب، فيقول: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾[فصّلت: من الآية 34]، وما أجملَ ما قاله الإمام الشّافعيّ في هذا المعنى:

إذَا نَطَقَ السَّفِيهُ فَلا تُجِبْهُ
فإنْ كلَّمتَه فرّجتَ عَنْه                     .
  فَخَيْر مِنْ إجَابتهِ السُّكُوتُ
وَإنْ خلَّيْته كَمَداً يمُوتُ
.

فإنِ اشتدّ السّفيه سفاهة، وطغى عليك وتجبّر، فلا بُدَّ لك من رَدِّ العدوان بمثله؛ لأنّك حَلُمتَ عليه، فلم يتواضع لك، وظنَّ حلْمك ضعفاً، وهنا عليك أن تُريه الفرق بين الضّعف وكرم الخُلق.

﴿قَالُوا سَلَامًا﴾: قالوا: المراد هنا سلام المتاركة، فحين تتعرَّض لمن يؤذيك بالقول، ويتعدّى عليك باللّسان تقول له: سلام، يعني: سلام المتاركة، وبعض العلماء يرى أنّ كلمة: ﴿سَلَامًا﴾ هنا تعني المعنيين: سلام المتاركة، وسلام التّحيّة والأمان، فحين تحلُم على السَّفيه فلا تُجَاريهِ، تقول له: لو تماديتُ معك سأوذيك، وأفعل بك كذا وكذا، فأنت بذلك خرجتَ من سلام المتاركة إلى سلام التّحيّة والأمان.

وبعد أن تناولتْ الآيات حال عباد الرحمن في ذواتهم، وحالهم مع النّاس، تتحدّث الآن عن حالهم مع ربّهم تعالى:

«وَعِبادُ» الواو استئنافية وعباد مبتدأ خبره في آخر السورة وهو قوله «أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ»

«الرَّحْمنِ» مضاف إليه

«الَّذِينَ» موصول صفة للرحمن أو خبر المبتدأ عباد والجملة مستأنفة

«يَمْشُونَ» الجملة صلة

«عَلَى الْأَرْضِ» متعلقان بيمشون

«هَوْناً» حال أو صفة مفعول مطلق أي مشيا هونا

«وَإِذا» ظرف يتضمن معنى الشرط

«خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ» ماض ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر والجملة في محل جر بالإضافة

«قالُوا سَلاماً» ماض وفاعل ومفعول به والجملة لا محل لها جواب إذا