لقد بلغ زكريّا عليه السّلام من الكبر عتيّاً، ولم يرزقه الله سبحانه وتعالى الولد، فتوجّه إلى الله عزَّ وجلّ: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا﴾ [مريم]، فلمّا بشَّره الله سبحانه وتعالى بالولد تعجَّب؛ لأنّه نظر إلى مُعْطيات الأسباب، كيف يرزقه الله عزَّ وجلّ الولد، وقد بلغ من الكِبَر عتيّاً وامرأته عاقر، فأراد أن يُؤكّد هذه البُشْرى: ﴿قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا﴾ [مريم]، يُطمئنُ الله سبحانه وتعالى نبيَّه زكريّا: اطرح الأسباب الكونيّة للخَلْق؛ لأنّ الّذي يُبشِّــرك هو الخالق، وقد تعلَّم زكريّا عليه السّلام من كفالته لمريم أنّ الله سبحانه وتعالى يُعطي بالأسباب، ويعطي إن عزَّتْ الأسباب، وقد تبارى أهل مريم في كفالتها، وتسابقوا في القيام بهذه الخدمة؛ لأنّهم يعلمون شرفها ومكانتها؛ لذلك أجروا القرعة على مَنْ يكفلها، فأتوا بالأقلام ورموْها في البحر فخرج قلم زكريّا، ففاز بكفالة مريم: ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾[آل عمران]، وإجراء القرعة لأهمّــيّــة هذه المسألة، وعِظَم شأنها، والقرعة إجراء للمسائل على القَدَر، حتّى لا تتدخّل فيها الأهواء، فلمّا كفَل زكريّا مريم كان يُوفِّر لها ما تحتاج إليه، ويرعى شؤونها، وفي أحد الأيّام دخل عليها، فوجد عندها طعاماً لم يأْتِ به: ﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ﴾ [آل عمران: من الآية 37]، التقط زكريّا عليه السّلام إجابة مريم الّتي جاءتْ سريعة واثقة، تدلّ على الحقّ الواضح الّذي لا يتلجلج: ﴿ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [آل عمران: من الآية 37]، هذه مسألة يعرفها زكريّا، لكنّها لم تكُنْ في بُؤْرة شعوره، فقد ذكَّرَتْه بها مريم: ﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾[آل عمران]؛ أي: ما دام الأمر كذلك، فَهَبْ لي ولداً يرثُ النّبوّة من بعدي، ثمّ يذكر حيثيّات ضَعْفه وكِبَر سِنَّه، وكوْنَ امرأته عاقراً، وهي حيثيّات المنع لا حيثيّات الإنجاب؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى يرزق مَنْ يشاء بغير حساب وبغير أسباب، وهكذا، استفاد زكريّا عليه السّلام من هذه الكلمة، واستفادتْ منها مريم كذلك فيما بعد، حينما جاءها الحَمْل في المسيح من غير الأسباب الكونيّة، من غير رجل، وهنا يدعو زكريّا عليه السّلام ربّه عزَّ وجلّ، فيقول: ﴿رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ﴾؛ أي: لا أطلب الولد ليرث مُلْكي من بعدي، فأنت خير الوارثين ترِثُ الأرضَ والسّماء، ولك كلّ شيء.
«وَزَكَرِيَّا» معطوف على ما سبق أو مفعول به لفعل اذكر المحذوف
«إِذْ» ظرف زمان
«نادى» ماض فاعله مستتر والجملة في محل جر مضاف إليه
«رَبَّهُ» مفعول به والهاء مضاف إليه
«رَبِّ» منادى منصوب حذف منه أداة النداء وعلامة نصبه الفتحة المقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة تخفيفا وياء المتكلم المحذوفة مضاف إليه
«لا» ناهية للدعاء
«تَذَرْنِي» مضارع مجزوم والنون للوقاية والياء مفعول به
«فَرْداً» حال منصوبة وما تقدم من الجمل في محل نصب مقول القول لفعل قال المحذوف تقديره قال رب إلخ
«وَأَنْتَ خَيْرُ» الواو حالية ومبتدأ وخبر والجملة حالية
«الْوارِثِينَ» مضاف إليه مجرور بالياء لأنه جمع مذكر سالم