﴿وَذَا النُّونِ﴾: هو سيّدنا يونس بن متّى صاحب الحوت، والنّون من أسماء الحوت، وجمعه (نينان) كحوت وحيتان؛ لذلك سُـمِّيَ به، وقد أُرسل يونس عليه السّلام إلى أهل (نِينَوى) من أرض الموصل بالعراق، وقد قال النّبيّ عليه السّلام لعدّاس: «مِنْ قَرْيَةِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ يُونُسَ بْنِ مَتَّى»([1]).
والنّون أيضاً اسم لحرف من حروف المعجم، لكن قد يوافق اسمُ الحرف اسماً لشيء آخر، كما في (ق) وهو اسم جبل، وكذلك السّين، فهناك نهر اسمه نهر السّين.
﴿إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا﴾: مادّة (غضب) نأخذ منها الوصف للمفرد، نقول: غاضب وغضبان، أمّا (مغاضِب) فتعطي معنى آخر؛ لأنّها تدلّ على المفاعلة، فلا بُدَّ أنّ أمامك شخصاً آخر، أنت غاضب وهو غاضب، مثل: شارك فلان فلاناً، لكن في أصول اللّغة رجّحنا جانب الفاعليّة في أحدهما، والمفعُوليّة في الآخر، كما نقول: شارك زيدٌ عَمْراً، فالمشاركة حدثتْ منهما معاً، لكن جانب الفاعليّة أزيد من ناحية زيد، فكلُّ واحد منهما فاعل مرّة ومفعول أخرى، واللّغة أحياناً تلحظ هذه المشاركة؛ فتُحمِّل اللّفظ المعنيين معاً: الفاعل والمفعول.
فَلماذا غضب ذو النّون؟ غضب لأنّ قومه كذّبوه، فتوعّدهم إنْ لم يتوبوا أنْ يُنزل بهم العذاب، وأتى الموعد ولم ينزل بهم ما توعّدهم به، فخاف أنْ يُكذِّبوه، وأن يتجرَّؤوا عليه، فخرج من بينهم مغاضِباً إلى مكان آخر، وهو لا يعلم أنّهم تابوا فأخّر الله سبحانه وتعالى عذابهم، وأجّل عقوبتهم، وفي آية أخرى يُوضِّح الحقّ سبحانه وتعالى هذا الموقف: ﴿فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ﴾ [يونس]؛ أي: لم يحدث قبل ذلك أنْ آمنتْ قرية ونفعها إيمانها إلّا قرية واحدة هي قوم يونس، فقد آمنوا وتابوا فأجّل الله سبحانه وتعالى عذابهم، فخرج يونس مُغاضِباً لا غاضباً؛ لأنّ قومه شاركوه، وكانوا سبب غضبه.
﴿فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ﴾: بعضهم ينظر في الآية نظرةً سطحيّة، فيقول: كيف يظنّ يونس عليه السّلام أنّ الله عزَّ وجلّ لن يقدر عليه؟ وهذا الفَهْم ناشئ عن جَهْل باستعمالات اللّغة، فليس المعنى هنا من القدرة على الشّيء والسّيطرة، ولو استوعبتَ هذه المادّة في القرآن الكريم (قَدَرَ) لوجدت لها معنى آخر، كما في قوله جلَّ جلاله: ﴿لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ﴾[الطّلاق: من الآية 7]، معنى قُدِر عليه رزقه: ضُيِّق عليه، ومنها قوله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ﴾[الإسراء: من الآية 30]، ومنها قوله جلَّ جلاله: ﴿فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ﴾ [الفجر]، فقدر؛ أي: ضيّق، فقوله: ﴿فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ﴾؛ أي: أنّ يونس عليه السّلام لـمّا خرج من بلده مُغاضباً لقومه ظنَّ أنّ الله سبحانه وتعالى لن يُضيِّق عليه، بل سيُوسِّع عليه ويُبدله مكاناً أفضل منها، بدليل أنّه قال بعدها: ﴿فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾، يريد منه سبحانه وتعالى تنفيس كربته، وتنفيس الكربة لا يكون إلّا بصفة القدرة لله عزَّ وجلّ، فالمعنى: لن يُضيِّق عليه؛ لأنّه يعلم أنّه رسول من الله عزَّ وجلّ، وأنّ ربّه لن يُسلْمه، ولن يخذله، ولن يتركه في هذا الكرب. وقد وُجدَتْ شبهة في قصّة يونس عليه السّلام في قوله سبحانه وتعالى: ﴿فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾[الصّافّات]، فكيف يلبث في بطن الحوت إلى يوم يُبعثون، مع أنّ يونس عليه السّلام سيموت، وسيأتي أجَل الحوت ويموت هو أيضاً، أم أنّ الحوت سيظلّ إلى يوم القيامة يحمل يونس عليه السّلام في بطنه؟ انظروا إلى هذه الأسئلة الّتي لا معنى لها، وفات هؤلاء نظريّة الاحتواء في الأمزجة، كما لو أذبتَ قالباً من السّكر في كوب ماء، فسوف تحتوي جزئيّات الماء جزئيّات السّكر، والأكثر يحتوي الأقلّ، فقالب السّكر لا يحتوي الماء، إنّما الماء يحتوي السّكر، فلو مات الحوت، ومات في بطنه يونس عليه السّلام وتفاعلت ذرّاتهما وتداخلتْ، فقد احتوى الحوتُ يونسَ إلى أن تقوم السّاعة، وعلى هذا يظلّ المعنى صحيحاً، فهو في بطنه مع تناثر ذرّاتهما.