﴿وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ﴾: يحكمان تعني أنّ هناك خصومة بين طرفين، والحرْث: إثارة الأرض وتقليب التّربة؛ لتكون صالحة للزّراعة، وقد وردتْ كلمة الحرث أيضاً في قوله سبحانه وتعالى: ﱣﱸ ﱹ ﱺﱻﱢ [البقرة: من الآية 205]، والحرْث ذاته لا يهلك، إنّما يهلك ما نشأ عنه من زُروع وثمار، فسمَّى المولى سبحانه وتعالى الزّرع حَرْثاً؛ لأنّه ناشئ عنه، كما في قوله سبحانه وتعالى أيضاً: ﱣﱝ ﱞ ﱟ ﱠ ﱡ ﱢ ﱣ ﱤ ﱥ ﱦﱧﱢ [آل عمران: من الآية 117]، لكن، لماذا سَـمَّى الحرْث زَرْعاً، مع أنّ الحَرْث مجرّد إعداد الأرض للزّراعة؟ قال العلماء: لُيبيِّن بأنّ الزّرع لا يكون إلّا بحرْث؛ لأنّ الحرْث إهاجة تُرْبة الأرض، وهذه العمليّة تساعد على إدخال الهواء للتّربة، وتجفيفها من الماء الزّائد؛ لأنّ الأرض بعد عمليّة الرّيِّ المتكرّرة يتكوَّن عليها طبقة زَبَديّة تسدُّ مسَام التُّربة، وتمنع تبخُّر المياه الجوفيّة الّتي تُسبِّب عطباً في جذور النّبات، لذلك، ليس من جَوْدة التّربة أن تكون طينيّة خالصة، أو رمليّة خالصة، فالأرض الطّينيّة تُمسك الماء، والرّمليّة يتسرَّب منها الماء، وكلاهما غير مناسب للنّبات، أمّا التّربة الجيّدة، فهي الّتي تجمع بين هذه وهذه، فتسمح للنّبات بالتّهوية اللّازمة، وتُعطيه من الماء على قَدْر حاجته، لذلك سَـمَّى الزّرْع حَرْثاً؛ لأنّه سببُ نمائه وزيادته وجَوْدته، وليُلفت أنظارنا أنّه لا زَرْع من غير حَرْث، كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: ﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ﴾ [الواقعة]، ففي هذه المسألة إشارة إلى سُنَّة من سُنَن الله سبحانه وتعالى في الكون، هي أنّنا لا بُدَّ أن نعمل لننال، فربُّنا وخالقنا قدَّم لنا العطاء حتّى قبل أنْ نُوجَد، وقبل أن يُكلِّفنا بشيء، وقد ورد في الحديث الشّريف قوله عليه السّلام: «أَعْطُوا الأَجِيرَ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ»([1])، ما دام قد عمل فقد استحقّ الأجر، والأمر كذلك في مسألة الحرث.
﴿إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ﴾: هذه خصومة بين طرفين، احتكما فيها لداود عليه السّلام: رجل عنده زرع، وآخر عنده غنم، فالغنم شردتْ في غفلة من صاحبها فأكلتْ الزّرع، فاشتكى صاحبُ الزّرع صاحبَ الغنم لداود، فحكم في هذه القضيّة بأن يأخذَ صاحبُ الزّرع الغنَم، وربّما وجد سيّدنا داود عليه السّلام أنّ الزّرع الّذي أتلفتْه الغنم يساوي ثمنها، فحينما خرج الخَصْمان لقيهما سليمان عليه السّلام وكان في الحادية عشرة من عمره، وعرف منهما حكم أبيه في هذه القضيّة، فقال: غير هذا أرفق بالفريقين، فسمَّى حُكْم أبيه رِفْقاً، ولم يتّهمه بالجَوْر مثلاً، لكن عنده ما هو أرفق، فلمّا بلغت مقالته لأبيه داود سأله: ما الرِّفق بالفريقين؟ قال سليمان: نعطي الغنم لصاحب الزّرع يستفيد من لبنها وأصوافها، ونعطي الأرض لصاحب الغنم يُصلحها حتّى تعود كما كانت، ساعتها يأخذ صاحب الغنم غنمه، وصاحب الزّرع زَرْعه.
﴿نَفَشَتْ﴾: نقول: نفش الشّيء؛ أي: أخذ حَجْماً فوق حَجْمه، كما لو أخذتَ مثلاً قطعة من الخبز ووضعتَها في لبن أو ماء، تلاحظ أنّها تنتفش ويزداد حجمها.
﴿وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ﴾: أي: مراقبين.
([1]) مجمع الزّوائد ومنبع الفوائد: كتاب البيوع، باب بيع ما لم يقبض، الحديث رقم (6457).