﴿وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ﴾: هذه الواو تسمّى واو القسم، فما دخلتْ عليه كاليمين، تأتي بالدّليل، وقد يأتي اليمين فيه الدّلالة على الغرض المراد. فالله تبارك وتعالى يقول لنبيّه صلى الله عليه وسلم: أنت مرسلٌ وأنا أحلف بالقرآن؛ لأنّه دليلٌ على أنّك رسولٌ صادق.
﴿وَالْقُرْآنِ﴾: كلمة قرآن مصدر لقرأ، تقول: قرأت قراءة وقرآناً، ولا بُدَّ أنّ الزّيادة في المبنى تدلّ على الزّيادة في المعنى، فقلنا: قرآناً، لنفرّق بين قراءة القرآن الكريم وقراءة غيره، وهي أيضاً تدلّ على أنّه كتابٌ مقروء، ومرّةً أخرى يسمّيه المولى سبحانه وتعالى الكتاب؛ لأنّه مكتوبٌ، فالقرآن الكريم مقروءٌ من الصّدور، مكتوبٌ في السّطور، ومرّةً أخرى يسمّيه الذِّكْر، ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر]؛ لأنّه يُذكِّرنا بعهد الفطرة الأولى.
﴿الْحَكِيمِ﴾: وصف الله سبحانه وتعالى القرآن الكريم بالحكمة، وهي وَضْع الشّيء في موضعه الحقّ ليؤدّي مهمّته، والمعاني الدّينيّة كلُّها مأخوذةٌ من مُحسَّات قبل الدّين، مثلاً الفَرَس يركبه الإنسان ليُوصله إلى مراده، فإنْ كان مراده من ركوب الفرس التّنزُّه بين الحقول سار به سَيْراً بطيئاً كسَيْر الحنطور مثلاً، وإنْ أراد به قَطْع المسافة جرى به كالرّيح، لذلك جعلوا للحصان لجاماً يُوضَع في حنكه ليكبح سرعته، ويتحكّم فيه، هذا اللّجام يُسمّى الحَكَمَة، ومنها الحِكْمَةُ الّتي تكبح جماح الأهواء كيلا يشرد الإنسان، وتضع المسائل في موضعها، فالإنسان له هوىً يميل به، وينحرف بحركته عن الجادّة، فيأتي القرآن الكريم بالحقّ الواضح الّذي يُقوِّم هذا الميل ويُصلحه، والقرآن الكريم في الحقيقة حكيمٌ؛ لأنّه محكمٌ من الحكيم الأعلى سبحانه وتعالى، فالقرآن الكريم كلامٌ من الحكيم، وهو بالنّسبة إلى الإنسان كالحَكَمة للفرس.
ولحكمة القرآن الكريم اختُصّ بأشياء، فتناول القرآن الكريم لا يكون كتناول غيره من الكتب، فالكتاب العاديّ تتناوله في أيِّ وقتٍ وعلى أيِّ حالٍ كنت، أمّا القرآن الكريم فلا يمسُّه إلّا طاهرٌ، كما قال الحقّ سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾ [الواقعة].
فالله سبحانه وتعالى جعل لنا هذه الضّوابط النّفسيّة لنعرف أنّنا مُقبِلون على كتابٍ له تميُّز عن سائر الكتب الأخرى.
كذلك للقرآن الكريم خصوصيّة في حروفه، فالحروف هي الّتي تُكوِّن الكلمات، فهي عبارةٌ عن نبرات صوتيّة، لكلٍّ منها منطقة في أعضاء الكلام، مثلاً حروف تخرج من الحلق، هي: هَمْزٌ فَهَاءٌ ثُمَّ عَيْنٌ حَاءُ ثُمَّ غَيْنٌ فَاءُ، فإنْ خرجنا من منطقة الحلق نجد الحروف اللّسانيّة الّتي تُنطَق من اللّسان بدايةً، من: أقصاه ثمّ وسطه ثمّ طرفه، فالقاف مثلاً تخرج من أقصى اللّسان، والشّين والجيم من وسطه، والنّون والرّاء من طرفه، كذلك هناك حروفٌ تخرج من الشَّفة..، فلا بُدَّ أنْ نلتزم بهذه المخارج الصّوتيّة عند قراءة القرآن الكريم، على خلاف قراءة أيِّ كتابٍ آخر، فكمال القرآن الكريم لا يتعدّى لغيره، وله طريقةٌ معيّنة نسمّيها أحكام التّجويد، ونغمة مضبوطة لا بُدَّ أن تُراعى.
فكمال القرآن الكريم لا يُتعدَّى حتّى في نطقه؛ لأنّ هذا شيئاً يختصّ به وحده دون غيره من الكلام، فإنْ عدَّيْتَ خصائص القرآن الكريم إلى غيره من الكلام جاء سخيفاً مردوداً لا يُقبل.
نفهم أنّ حكمة القرآن الكريم جاءت من هذه الخصوصيّة: ففي حروفه حكمةٌ، وفي كلماته حكمةٌ، وفي نَظْمه حكمةٌ، وفي ترتيله حكمةٌ، وفي أسلوبه حكمةٌ، وفي معانيه حكمةٌ، وفي عطائه حكمةٌ.. لا يُبَارى لا يُنقَل إلى غيره.