فأهل الفساد يأتون مُسْرِعين من كلّ حَدب وصَوْب إلّا أنّ فسادهم لن يطول، فقد اقتربت القيامة، قال سبحانه وتعالى: ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ﴾[القمر]، وقال جلَّ جلاله: ﴿أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ﴾[النّحل: من الآية 1]، وهذا تنبيه للغافل، وتحذير للباغي من أهل الفساد، وتطمين ورجاء للمظلومين المستضعفين المعتدَى عليهم: اطمئنوا فقد قرب وقت الجزاء.
﴿وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ﴾: الحقّ؛ أي: الصّادق الّذي يملك صاحبه أن يُنفّذه، فقد تَعِد وعداً ولا تملك تنفيذه فهو وَعْد، لكنّه وَعْد باطل، أمّا الوعد الحقّ فهو من الله سبحانه وتعالى، وحين يقول الحقّ سبحانه وتعالى: ﴿وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ﴾: فتنبّه، ولا تَقِسْ الدّنيا بعمرها الأساسيّ، إنّما قِسْ الدّنيا بعمرك فيها، فإذا مات الإنسان، فقد قامت قيامته، واقترب الوعد الحقّ بالنّسبة إليه، وكذلك مدّة مُكْث الإنسان في قبره إلى أن تقوم السّاعة ستمرّ عليه كساعة من نهار، كما قال جلَّ جلاله: ﴿كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ﴾[يونس: من الآية 45]، ولو تنبَّه كلّ مِنّا إلى إخفاء الله سبحانه وتعالى لأجله، لعلم أنّ في هذا الإخفاء أعظم البيان، فحين أخفاه ترقّبناه في كلّ طَرْفة عَيْن، وتنفُّس نَفَسٍ.
﴿فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾: وَعْد الله سبحانه وتعالى هنا هو القيامة، وهي تفاجئنا وتأتينا بغتة؛ لذلك نقول في: ﴿فَإِذَا﴾ أنّها الفجائيّة، كما تقول: خرجتُ فإذا كلبٌ بالباب، يعني: فوجئت به، وهكذا ساعةَ تقوم السّاعة سوف تُفَاجِئ الجميع، لا يدري أحد ماذا يفعل؛ لذلك يقول جلَّ جلاله: ﴿فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾، وشخوص البصر يأتي حين ترى شيئاً لا تتوقّعه، ولم تحسب حسابه، فتنظر مُنْدهِشاً يجمد جفنُك الأعلى الّذي يتحرّك على العين، فلا تستطيع حتّى أنْ ترمش أو تطرف، وفي آية أخرى يقول سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ﴾ [إبراهيم: من الآية 42]، وإذا أردتَ أن ترى شُخوص البصر فانظر إلى شخص يُفَاجأ بشيء لم يكُنْ في باله، فتراه -بلا شعور- شاخصَ البصر. ثمّ يقولون:
﴿يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا﴾: فلم يقتصر الموقف على شخوص البصر، إنّما تتحرّك أيضاً أدوات الإدراك، فيقول اللّسان: ﴿يَا وَيْلَنَا﴾ وهذا نداء للويل؛ أي: جاء وقتُك، فلم يَعُدْ أمامهم إلّا أنْ يقولوا: يا عذاب هذا أوانك فاحضر، والويل: هو الهلاك السّريع ينادونه، فهل يطلب الإنسان الهلاكَ، ويدعو به لنفسه؟ نقول: نعم، حين يفعل الإنسان الفعلَ ويجد عواقبه السّيّئة، وتواجهه الحقيقة المرّة يقول: يا ويلتاه؛ والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾[الزّخرف]، فيُؤنِّب الإنسان نفسه، ويطلب لها العذاب، فهذه هي الموازين الحقيقيّة الّتي تقاس بها الأمور.
﴿قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ﴾: لم يكن هذا الموقف في بالنا، ولم نعمل له حساباً، والغفلة: أنْ تدرأ عن بالك ما يجب أن يكون على بالك دائماً، لكن أيّ غفلة هذه والله عزَّ وجلّ يُذكِّرنا بهذا الموقف في كلّ وقت من ليل أو نهار، ألَا نرى أنّه سبحانه وتعالى سَمَّى القرآن الكريم ذِكْراً: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ﴾[الحجر: من الآية 9]؛ ليزيح عنّا هذه الغفلة، فكلّما غفلنا ذكّرنا، وهزَّ مواجيدنا، وأثار عواطفنا، فالمسألة ليست غفلة؛ لذلك نراهم يستدركون على كلامهم، فيقولون:
﴿بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ﴾: لأنّهم تذكَّروا أنّ الله سبحانه وتعالى هَزَّ عواطفهم، وحرَّك مواجيدهم ناحية الإيمان، فلم يستجيبوا، فاعترفوا بظلمهم، ولم يستطيعوا إنكاره في مثل هذا الموقف، فلم يعُدْ الكذب مُجْدِياً، ولعلّهم يلتمسون بصدقهم هذا نوعاً من الرّحمة، ويظنّون أنّه نافعهم، لكن هيهات، وكأنّ الحقّ سبحانه وتعالى يحكي عنهم هذه المواجهة حين تفاجئهم القيامة بأهوالها، فتشخص لها الأبصار، ويقول بعضهم: ﴿يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا﴾، فيردّ عليهم إخوانهم: أيّ غفلة هذه، وقد كان الله عزَّ وجلّ يُذكِّرنا بالقيامة وبهذا الموقف في كلّ وقت.
﴿بَلْ﴾: حرف إضراب عن الكلام السّابق، وإثبات للكلام اللّاحق، وهكذا يُراجِعون أنفسهم، ويُواجِه بعضهم بعضاً، لكن بعد فوات الأوان.
وقد قلنا: بأنّ القرآن الكريم يُذكِّر، والسّنّة النّبويّة تذكّر دائماً، فلماذا هناك كثير من الآيات في القرآن الكريم تتعلّق بالموت؟ كقوله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾ [الزّمر]، وقوله عزَّ وجلّ: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ [آل عمران]، وقوله جلَّ جلاله: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾[الرّحمن]، لماذا قدّم الموت على الحياة عندما قال جلَّ جلاله: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾[الملك]، أراد الله سبحانه وتعالى ألّا تغيب فكرة الموت عن أذهان النّاس؛ لأنّ الموت هو بداية وضع القدم على طريق الحساب، وعلى طريق اليوم الآخر، وقد يُنكر بعض النّاس الغيبيّات، فينكرون الآخرة وحياة البرزخ…، لكن هل يستطيع أحد أن يُنكر الموت؟ هل يستطيع أحد أن يدفع الموت عنه لحظة واحدة؟ قال سبحانه وتعالى: ﴿إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾[يونس: من الآية 49]، فلا يستطيع أيّ إنسان أن يدفع عن نفسه الموت، بعضهم يقول: هذه هي الحياة، نناقش الآن عقليّاً، وليس فيما يتعلّق بالإيمان -الّذي نؤمن به قطعاً كرأي العين- هل يصحّ بالعقل الذّي وهبه الله سبحانه وتعالى للإنسان أن يعيش الإنسان في هذه الحياة بلا هدف، رحلة وتنتهي، هذا تنتهي رحلته طفلاً، وهذا كهلاً، وهذا أكل أموال النّاس، وهذا ظلمهم، وهذا كان خيّراً معهم.. وبهذا تساوى الجميع بالموت؟! وانتهت الحياة؟! فمهما طالت: ﴿كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا﴾[النّازعات: من الآية 46]، منظر الموت ماثل لكلّ إنسان، مؤمن أو ملحد، من الأديان كلّها، ومن الفئات كلّها، ومن النّاس كلّهم، ما استطاع أحدٌ أبداً أن يردّ الموت، فهل يُعقل أن تنتهي القصّة هكذا؟! ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ﴾[المؤمنون]، تعالى الله جلَّ جلاله عن العبث، فالموت آت:
نسير إلى الآجال في كلّ لحظةٍ . | وأعمارنا تُطــوى وهنّ مراحلُ . |
هذه حقيقة، لذلك سيّدنا عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه يقول: “عجبت كيف يفرح بالدّنيا مَن يومه يهدم شهره، وشهره يهدم سنته، وسنته تهدم عمره، كيف يفرح بالدّنيا مَن تقوده حياته إلى موته ويقوده عمره إلى أجله؟َ”، فعلى أيّ أساس وأيّ منطق يعتقد بعضهم أنّ النّهاية هنا في الموت؟ إنّ البداية ستكون في الموت؛ لأنّها وضعت الموازين، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾[الأنبياء]، فالإنسان سيُحَاسب، وعندما يكون في قبره -ولو بلا زمن- يكون القبر: «رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الجَنَّةِ أَوْ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النَّارِ»([1])، فيكون الإنسان قد وضع قدمه على بداية طريق اليوم الآخر، لذلك نجد أنّ الله سبحانه وتعالى في كثير من الآيات القرآنيّة يتحدّث عن الإيمان بالله وباليوم الآخر، وهناك أناس يقولون: نحن نؤمن بالله عزَّ وجلّ، الله سبحانه وتعالى محبّة ورحمة…، هذا كلام صحيح، لكنّ الله سبحانه وتعالى شديد العقاب أيضاً، وما خلقنا عبثاً، ومن غير المعقول أن يكون الخيّر والشّرير معاً، ﴿وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ﴾[فاطر]، فالله سبحانه وتعالى خلقنا للاختبار في هذه الحياة الدّنيا، ولا شكّ بأنّ يوم الحساب قادم، وقد ذكره القرآن الكريم: ﴿يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ [آل عمران: من الآية 114]، واليوم الآخر هو شرط وأساس فيما يتعلّق بالإيمان، حتّى تستقيم هذه الحياة، ولن تستقيم الحياة إلّا إذا علم الإنسان بأنّه محاسَب ومُجازى على كلّ ما يقوم به من عمل أو فعل في هذه الحياة الدّنيا، وهناك مَن يقول: إنّ هناك من يفعل الخير من غير إيمان، هؤلاء الّذين تتحدّثون عنهم بأنّهم يفعلون الخير، لو تعرّضوا لمصاب أو ضائقة هل يفعلون الخير؟ الخير والإيمان والاستقامة والأخلاق مربوطة ربطاً وثيقاً بالدّين، فكما قال النّبيّ عليه السّلام: «إِنَّ مِنَ الإِيمَانِ حُسْنُ الخُلُقِ، وَأَفْضَلُكُمْ إِيمَاناً أَحْسَنُكُمْ خُلُقاً»([2])، والأخلاق إنّما ضامنها وأساسها هو الدّين، وهو الخوف من الله سبحانه وتعالى، و: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَـمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ»([3])، ونحن عندما نقول للنّاس: آمنوا بالله عزَّ وجلّ، واعملوا صالحاً، فبماذا يأمر الدّين؟ لا يرون من الدّين إلّا الصّلاة والصّوم..، ولا يرون من الدّين قوله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾[النّحل]، ولا يرون من الدّين قوله سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾[الحجرات: من الآية 12]، ولا يرون من الدّين: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ﴾ [فصِّلت]، فالدّين ليس قوالب جامدة، وإنّما قيم ضابطة، تضبط المجتمعات وتضبط البشريّة وتضبط الإنسانيّة، وما جاءت إلّا لإسعاد النّاس، وسعادة البشر إنّما تتمّ عن طريق الرّسالات السّماويّة، وها هو السّيّد المسيح عليه السّلام يقول: ماذا ينفع الإنسان إذا ربح الدّنيا وخسر الآخرة؟ فالأساس بالنّسبة إلى الإنسان ولعمله أن ينظر بمنظار الثّواب والعقاب الّذي ينتظره من جرّاء عمله، وهذا هو معنى هذه الآيات الكريمة، والله أعلم.
([1]) سنن التّرمذيّ: أبواب صفة القيامة والرّقائق والورع، باب 26، الحديث رقم (2460).
([2]) المعجم الكبير: باب الصّاد، صدي بن العجلان أبو أمامة الباهليّ، الحديث رقم (7756).