هذه أوّل قصّة في القرآن الكريم، وهي قصّة الخلق الأوّل، قصّة خَلْق سيّدنا آدم أبي البشر، والقصص تشكّل ثلاثة أرباع القرآن الكريم.
والقصّة في اللّغة العربيّة تعني: تتبّع الأثر.
فالمقصود من القصّة ليس التّسلية، على عكس القصّة البشريّة الّتي قد تكون للتّرفيه والتّسلية، أو لنقل معلومة أو ثقافة.
أمّا القصّة القرآنيّة فلا يكون قصدها إلّا تتبّع الأثر؛ لأنّ هناك ارتباط بين مدلولات كلام الله سبحانه وتعالى وفقه اللّغة العربيّة.
وهناك ارتباط بين العروبة والإسلام، قال سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ ]يوسف[. يقول سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ﴾]آل عمران: من الآية 62[، أي أنّ القصص تنطبق على الحقّ، ولا تأتي إلّا من الحقّ، وكلّ كلمة فيها هي حقّ وتؤدّي إلى حقّ، ورسالتها رسالة حقّ، فلا هي خيال ولا رواية عن حدث، بل هناك قصّة صحيحة مرويّة، وحين يروي البشر الحدث فإنّ كلّ واحد منهم يرويها بطريقته، أمّا ربّ البشر فلا يروي إلّا القصص الحقّ، ويقول سبحانه وتعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ﴾]يوسف: من الآية 111[؛ لأنّ العبرة لأصحاب العقول.
ثمّ إنّ القصّة القرآنيّة كثيراً ما يتكرّر ما يُماثلها في الأيّام.. مثلاً في كلّ زمن يوجد أمثال فرعون، وقارون محتكر المال، وقوم شعيب، وقوم صالح، والّذين يطفّفون الميزان، والفتية الّذين آمنوا وهربوا بإيمانهم إلى الكهف، وذو القرنين، كلّها تتكرّر بأشكال متعدّدة، والمهم هو العبرة منها. إلّا أنّ هناك قصصاً في القرآن الكريم لا تتكرّر.. مثل قصّة السيّدة مريم -عليها السّلام- الّتي وَلَدت من غير زوجٍ، ومن غير أسباب ومقدّمات الزّواج، فقد أُلغيت الأسباب مع السيّدة مريم، فهي حادثة لا تتكرّر، ولذلك قال سبحانه وتعالى: ﴿وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ﴾ ]التّحريم: من الآية 12[، فحدّدها بالاسم.
والقصص القرآنيّ جميعه منجّم وموزّع في القرآن الكريم كاملاً، فإذا أردت قصّة موسى عليه السَّلام فلن تجدها في سورة واحدة، وهي أكثر القصص ذكراً في القرآن؛ لأنّه بعث إلى أسوأ شعب على الأرض يحمل كلّ آفات الأمم، وهم شعب بني إسرائيل، ونحن نعاني منهم حتّى اليوم، وكلّ ما جرى من فتن وحروب على سورية والمناطق المجاورة هو من صنع الصّهاينة.
وهناك في القرآن الكريم قصّة إبراهيم عليه السَّلام وفي القرآن سورة باسمه، لكنّ قصّته وردت في عدد من السّور.
أمّا قصّة يوسف عليه السَّلام فلم ترد إلّا في سورة (يوسف)، وذُكر اسم يوسف عليه السَّلام في سورة (غافر) مرّة واحدة فقط.
أمّا قصّة آدم عليه السَّلام فقد وردت في (البقرة) و(الأعراف) و(الإسراء) و(الكهف) و(طه)؛ لأنّ التّوجيه الّذي يورده الله تعالى في كلّ موضع يخدم سبباً إيمانيّاً، ووظيفة إيمانيّة. فإذا أردتُ قصّة سيّدنا موسى عليه السَّلام أتتبّعُ كلّ آيات القرآن الكريم المتعلّقة بموسى عليه السَّلام وأجمعها وأرتّبها.
والله عزَّوجل لم يفعل ذلك لكي لا تكون القصّة بشريّة، والغاية منها كما قال لنبيّه الكريم محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم ﴿وَكُلا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ﴾ ]هود: من الآية 120[؛ لتكون عبرة، وتؤدّي وظيفة إيمانيّة. والقصّة في القرآن الكريم أحياناً تركّز على الشّخصيّة، وأحياناً على الحدث، وأحياناً على الزّمن، فهي من لدن حكيم حميد. فننسب القصّة لمن يقصّها علينا، والله عزَّوجل يقول: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ﴾]يوسف: من الآية 3[.
وفي قصّة آدم عليه السَّلام نبدأ بإخبار الله عزَّوجل ملائكته بأنّه جاعلٌ في الأرض خليفة، وقد يتساءل البعض قائلاً: وهل يستأذن الله جلَّ جلاله من الملائكة وفيهم إبليس؟ والجواب: أنّ قول الله عزَّوجل هنا ليس استشارة، بل إعلام؛ لأنّ الملائكة ستتعامل فيما بعد مع البشر، ولا بدّ من إبلاغهم بالأمر كي يمارسوا مهامهم المطلوبة منهم. والأمر محسوم ليس فيه نقاش ولا حوار، بل هو قرار إلهيّ.
﴿قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾: والملائكة هنا لا تحتجّ، بل تسأل. فما الّذي أدرى الملائكة بأنّ بني آدم سيفسدون في الأرض، ويسفكون الدّماء؟
والبشريّة اليوم تُعاني من هاتين المشكلتين؛ الإفساد في الأرض وسفك الدّماء، فكلّ المشكلات تأتي منهما.
لكن كيف علمت الملائكة ذلك مسبقاً؟ الجواب: هو أنّ الله سبحانه وتعالى أوحى إليهم بأنّ هذا الإنسان ستكون لديه حريّة الاختيار، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾]الأحزاب[، فهذه أمانة اختيار. إمّا أن تكون طائعاً أو أن تكون عاصياً، أن تكون مؤمناً أو كافراً.. ﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾]الكهف: من الآية 29[، ولو أراد الله جلَّ جلاله لجعل بني آدم كالملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون؛ لأنّ المعصية تأتي من حريّة الاختيار، فإمّا أن تختار الإيمان أو الكفر، تختار الاستقامة أو الاعوجاج… وقد علمت الملائكة أنّ الله سبحانه وتعالى سيجعل الإنسان خليفة:
المعنى الأوّل لكلمة خليفة: أي خليفة الله على الأرض، خلقه وأعطاه وأمدّه، وهيّأ له أسباب الوجود.
المعنى الثّاني لكلمة خليفة: أي يخلف بعضهم بعضاً، جيلاً بعد جيل، فاسمه خليفة.
وهذا هو التّفسير، وليست هي خلافة التّنظيمات الإرهابيّة الّتي
لا علاقة لها بالخلافة ولا بالإسلام. وقد علم الملائكة من كلمة (خليفة) بأنّه ستكون للإنسان حريّة الاختيار، فخافوا من أن يُفسد في الأرض ويسفك الدّماء. أمّا الملائكة فهم طائعون لربّهم يسبّحون بحمده.
والتّسبيح لا يكون إلّا لله عزَّ وجل وقد ورد في القرآن الكريم في صيغ متنوّعة، وفيها إعجاز:
– ﴿سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا﴾ ] يس: من الآية 36[.
– ﴿فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ﴾ ] الرّوم[.
– ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا﴾ ] الإسراء: من الآية 1[.
فـ كلمة (سبحان) عندما ترد في القرآن الكريم يأتي بعدها أمرٌ معجز لا يستطيع أن يقوم به بشر، وكلمة (سبحان) فيها تنزيه لله سبحانه وتعالى، فليس كمثله شيء. ورسالة الملائكة أن تعيش بين الحمد والتّسبيح والتّنزيه، الحمد على النّعم، وتنزيه الله عن صفات المخلوقات، وقد قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «… وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السّماوات والأرض..»([1]).
وعلينا أن نفهم الأفكار، فالملائكة قالت: ﴿وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾: والتّقديس هو التّطهير، جاءت من كلمة (القدس)، وهو الكوب الّذي يطهّرون به. وقد أجاب الله سبحانه وتعالى ملائكته بقوله: ﴿قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾، فاحتجّ على الملائكة بالعلم، ولم يقل لهم: (أنا القويّ، القادر، أنا الرّبّ الخالق، يفسدون.. يسفكون.. ليس هذا من عملكم)، بل قال سبحانه وتعالى: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾، أراد أن يُثبت للملائكة سبب جعل هذا الكائن (خليفة)، وأراد أن يبرهن للملائكة بأنّه يعلم ما لا يعلمون.
(([1] صحيح مسلم: كتاب الطّهارة، باب فضل الوضوء، الحديث رقم (223).