الآية رقم (82) - وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ

﴿وَإِذَا وَقَعَ ٱلۡقَوۡلُ عَلَيۡهِمۡ﴾: أي: سقط: كأنّه وبطبيعته يسقط لا يحتاج إلى مَنْ يُجبره على السّقوط، والسّقوط ﴿عَلَيۡهِمۡ﴾، كما في قوله تعالى: ﴿فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ﴾[النّحل: من الآية 26]، والوقوع هنا يدلّ على أنّهم سيتعرّضون لشدائد ومتاعب، وبتتبّع هذه المادّة (وقع) في القرآن الكريم نجد أنّها جاءت كلّها في الشّدائد إلّا في موضع واحد هو قوله تعالى: ﴿وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾ [النّساء: من الآية 100]، وما داموا لم يسمعوا الآيات، ولم يقبلوها، ولم يلتفتوا إلى منهج الله تعالى، وصمُّوا عنه آذانهم، فلم يسمعوا كلام أمثالهم من البشر فسوف نُخرج لهم دابّة تكلّمهم.

﴿أَخۡرَجۡنَا لَهُمۡ دَآبَّةٍ مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ تُكَلِّمُهُمۡ﴾: لأنّهم لم يسمعوا كلام الرّسل والأنبياء والصّالحين والمؤمنين، فمن سيكلّمهم؟! ستكون دابّة تخرج عليهم، وانظر إلى هذه الإهانة وهذا التّوبيخ: أنتم لم تسمعوا كلام أمثالكم من البشر، ولم تفهموا مَنْ يخاطبكم بلغتكم، فاسمعوا الآن من الأدنى، وافهموا عنها، وفسِّروا قولها، لكن ماذا ستقول الدّابّة لهم؟ وما نوع هذا الكلام؟ ستقول الدّابّة:

﴿أَنَّ ٱلنَّاسَ كَانُواْ بِـَٔايَٰتِنَا لَا يُوقِنُونَ﴾: أي: بآياتنا السّابقة لا يؤمنون، وها أنا أُكلِّمهم، وعلى الماهر فيهم أن يقول لي: كيف أكلّمه؟!

وقد اختلف النّاس في هذه الدّابّة، وفي شكلها وأوصافها، وكيف يأتي القول من غير مألوف القول، وهو الدّابّة؟ لكن ما دام أنّ الله تعالى أخبر بها فهي حقٌّ، لا ينبغي معارضتها، وعلينا أن نأخذ وقوع ما يحدّث عنه القرآن الكريم بأنّه واقع لا محالة، ولا نحتاج إلى دليل على صدق ما حدّث به القرآن الكريم، وقد قالوا عدّة أقوال في موضوع هذه الدّابّة، قال القرطبيّ في تفسيره: اختُلِف في تعيين هذه الدّابّة وصفتها، ومن أين تخرج اختلافاً كثيراً:

القول الأوّل: إنّها فصيل ناقة صالح عليه السلام، -والفصيل: كما يذكر علماء اللّغة: ولد النّاقة إذا فُصِلَ عن أمّه، واستغنى عن لبنها-، وهو الأصحّ لما ذكره أبو داوود الطّيالسيّ في مسنده عن حذيفة: ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الدَّابَّةَ فَقَالَ: «لَهَا ثَلَاثُ خَرَجَاتٍ مِنَ الدَّهْرِ فَتَخْرُجُ فِي أَقْصَى الْبَادِيَةِ وَلَا يَدْخُلُ ذِكْرُهَا الْقَرْيَةَ يَعْنِي مَكَّةَ ثُمَّ تَكْمُنُ زَمَاناً طَوِيلاً، ثُمَّ تَخْرُجُ خَرْجَةً أُخْرَى دُونَ ذَلِكَ فَيَعْلُو ذِكْرُهَا فِي أَهْلِ الْبَادِيَةِ وَيَدْخُلُ ذِكْرُهَا الْقَرْيَةَ»، يَعْنِي مَكَّةَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «ثُمَّ بَيْنَمَا النَّاسُ فِي أَعْظَمِ الْمَسَاجِدِ عَلَى اللَّهِ حُرْمَةً خَيْرِهَا وَأَكْرَمِهَا الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لَـمْ يَرُعْهُمْ إِلَّا وَهِيَ ترْغُو بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ تَنْفُضُ عَنْ رَأْسِهَا التُّرَابَ، فَارْفَضَّ النَّاسُ مَعَهَا شَتَّى وَمَعاً، وَثَبَتَ عِصَابَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَعَرَفُوا أَنَّهُمْ لَنْ يُعْجِزُوا اللَّهَ، فَبَدَأَتْ بِهِمْ فَجَلَّتْ وُجُوهَهُمْ حَتَّى تَجْعَلَهَا كَأَنَّهَا الْكَوْكَبُ الدُّرِّيُّ، وَوَلَّتْ فِي الْأَرْضِ لَا يُدْرِكُهَا طَالِبٌ وَلَا يَنْجُو مِنْهَا هَارِبٌ، حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لِيَتَعَوَّذُ مِنْهَا بِالصَّلَاةِ فَتَأْتِيهِ مِنْ خَلْفِهِ فَتَقُولُ: يَا فُلَانُ، الآنَ تُصَلِّي، فَيُقْبِلُ عَلَيْهَا فَتَسِمُهُ فِي وَجْهِهِ ثُمَّ تَنْطَلِقُ..»([1]).

القول الثّاني: روي أنّها دابّة مزغّبة شعراء، ذات قوائم طولها ستّون ذراعاً.

القول الثّالث: يقال: إنّها الجسّاسة، وهو قول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

القول الرّابع: روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنّها على خلقة الآدميّين، وهي في السّحاب وقوائمها في الأرض.

القول الخامس: روي أنّها جمعت من خلق كلّ حيوان.

قال القرطبيّ رحمه الله: قد رُفع الإشكال في هذه الدّابّة ما ذكرناه من حديث حذيفة فليُعتَمد عليه؛ أي: أنّها فصيل ناقة صالح، والله أعلم.

المهمّ أنّها دابّة تكلّم النّاس: ﴿أَنَّ ٱلنَّاسَ كَانُواْ بِـَٔايَٰتِنَا لَا يُوقِنُونَ﴾.

(([1] مسند أبي داود الطّيالسيّ: ج2، حُذَيْفَةَ بنِ أَسِيدٍ الغِفَارِيِّ، الحديث رقم (1165).