﴿وَإِبْرَاهِيمَ﴾: الواو هنا لعطف الجمل، فالآية معطوفة على: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ﴾، فنوح وإبراهيم واقعتان مفعولاً به للفعل: ﴿أَرْسَلْنَا﴾، وللسّائل أنْ يسأل: لماذا لم تُنوَّن (إبراهيم) كما نُوِّنت (نوح)؟ لم تُنوَّن كلمة إبراهيم؛ لأنّها اسم ممنوع من الصّرف؛ أي: من التّنوين؛ لأنّه اسم أعجميّ، ونلحظ في هذه المسألة أنّ جميع أسماء الأنبياء -عليهم السّلام- أسماء أعجميّة تُمنع من الصّرف، ما عدا الأسماء الّتي تبدأ بهذه الحروف: (صن شمله)، وهي على التّرتيب: صالح، نوح، شعيب، محمّد، لوط، هود -عليهم جميعاً الصّلاة والسّلام- فهذه الأسماء مصروفة مُنوَّنة.
﴿وَإِبْرَاهِيمَ﴾: يعني: واذكر إبراهيم.
﴿إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ﴾: وقلنا: العبادة أنْ يطيع العابدُ المعبودَ في أوامره ونواهيه، ثمّ عطف الأمر: ﴿وَاتَّقُوهُ﴾ على: ﴿اعْبُدُوا﴾، والتّقوى من معانيها أنْ تطيع الأوامر، وتجتنب النّواهي، فهي مرادفة للعبادة، لكن إنْ عُطِفَت على العبادة فتعني: نفّذوا الأمر لتتّقوا غضب الله تعالى، اجعلوا بينكم وبين صفات الجلال وقاية، وسبق أنْ قلنا: إنّ لله تعالى صفات جلال: كالقهّار، الجبّار، المنتقم، المذلّ.. إلخ، وصفات جمال: كالغفّار، الرّحمن، الرّحيم، التّوّاب، وبالتّقوى تنال متعلّقات صفات الجمال أيّها الإنسان، وتمنع نفسك وتحميها من متعلّقات صفات الجلال.
﴿ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾: ذلكم؛ أي: ما تقدَّم من الأمر بالعبادة والتّقوى خير لكم، فإنْ لم تعلموا هذه القضيّة فلا خيرَ في علمكم، كما قال تعالى: ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾[الرّوم: من الآيتين 6-7]، وسبق أنْ قُلْنا: إنّ العلم هو إدراك قضيّة كونيّة تستطيع أن تدلّل عليها، وهذا يشمل كلّ معلومة في الحياة؛ أي: العلم المادّيّ التّجريبيّ وآثار هذا العلم في الدّنيا، أمّا العلم السّامي الأعلى فأنْ تعلم المراد من الله تعالى لك، وهذا للآخرة، واقرأ في ذلك مثلاً قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ﴾[فاطر]، فذكر تعالى علم النّبات والجماد و: ﴿وَمِنَ النَّاسِ﴾ [فاطر: من الآية 28]؛ أي: علم الإنسانيّات، ﴿وَالدَّوَابِّ﴾ [فاطر: من الآية 28] علم الحيوان، وهكذا جمع كلّ الأنواع والأجناس، ثمّ قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر: من الآية 28]، مع أنّه تعالى لم يذكر هنا أيَّ حكم شرعيّ، فالمراد هنا العلماء الّذين يستنبطون قضيّة يقينيّة في الوجود، كهذه الاكتشافات الّتي تخدم حركة الحياة، وتدلُّ النّاس على قدرة الله تعالى، وبديع صُنْعه تعالى، وتُذكِّرهم به عزَّ وجل، ولنتأمّل في أنفسنا مثلاً وَضْع القصبة الهوائيّة بجوار البلعوم، ولنتأمّل، وَضْع اللّهاة وكيف تعمل تلقائيّاً دون قَصْد منّا أو تحكّم فيها، ولنتأمّل الأهداب في القصبة الهوائيّة، وكيف أنّها تتحرّك لأعلى تُخرج ما يدخل من الطّعام لو اختلَّ توازن اللّهاة، فلم تُحكِم سدَّ القصبة الهوائيّة أثناء البلع، وهناك آيات كثيرة في جسم الإنسان وفوق الحَصْر، ولا سبيلَ إلى معرفتها إلّا باستنباط العلماء لها، وكشفهم عنها، وهذا من نشاطات الذّهن البشريّ، أمّا العلم الّذي يخرج عن نطاق الذّهْن البشريّ فهو نازل من أعلى، وهو قانون الصّيانة الّذي جعله الخالق تعالى لحماية الخَلْق، فالّذي يأخذ بالعلم الدّنيويّ التّجريبيّ فقط يُحرَم من الخير الباقي؛ لأنّ قصارى ما يعطي علم المادّة في البشر أنْ يُرفّه حياتهم المادّيّة، أمّا علم الآخرة فيُرفّه حياتهم في الدّنيا، ويبقى لهم في الآخرة، فقوله تعالى: ﴿ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ﴾؛ أي: قانون الصّيانة الرّبّانيّ بـ: افعل كذا ولا تفعل كذا، وإيّاك أنْ تنقل مدلول (افعل) في: (لا تفعل)، أو مدلول (لا تفعل) في: (افعل)، فإنْ لم تعلموا هذه القضيّة فلن ينفعكم علم بعد ذلك، يقول تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ﴾ [الشّورى]، فالخير الباقي هو الخير في الآخرة.