﴿وَأَلْقِ عَصَاكَ﴾: نلحظ تفاصيلَ وأحداث لم تذكرها الآية في هذا الموضع، وذُكِرَت في موضع آخر في قوله عزَّ وجلَّ: ﴿وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى﴾[طه]، أمّا هنا استثنى مباشرة جاء بلفظ: ﴿وَأَلْقِ عَصَاكَ﴾ مباشرة.
﴿فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ﴾: فلمّا ألقى موسى عليه السّلام عصاه وجدها تهتزّ.
﴿كَأَنَّهَا جَانٌّ﴾: أي: حيّة تسعى وتتحرّك، والعجيب أنّها لم تتحوّل إلى شيء من جنسها، فالعصا عود من خشب، كان فرعاً في شجرة، فجنسه النّبات، ولـمّا قُطعت وجفَّتْ صارت جماداً، فلو عادت إلى النّباتيّة، يعني: إلى الجنس القريب منها واخضرّتْ لكانت عجيبة، أمّا الحقّ عزَّ وجلَّ فقد نقلها إلى جنس آخر، إلى الحيوانيّة، وهذه قفزة كبيرة تدعو إلى الدّهشة، بل والخوف، خاصّة وهي: ﴿تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ﴾؛ أي: تتحرّك حركة سريعة هنا وهناك، وطبيعيّ أنْ يخاف موسى عليه السّلام ويضطرب حين يرى العصا الّتي في يده على هذه الصّورة: ﴿فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى﴾ [طه]، ومعنى: ﴿الْأَعْلَى﴾ [طه: من الآية 68]، إشارة إلى أنّه عزَّ وجلَّ يُعِدّ موسى عليه السّلام لمهمّة كبرى، ولهذه العصا أدوار مع الخصوم، وسوف ينتصر عليهم، ويكون هو الأعلى.
وحين نتتبّع اللّقطات المختلفة لهذه القصّة نجده يقول مرّة: (جانّ)، ومرّة: (حيّة)، ومرّة: (ثعبان)، وهي كلّها حالات للشّيء الواحد، فالجانّ فَرْخ الثّعبان، وله مِن خفّة الحركة ما ليس للثّعبان، والحيّة هي الثّعبان الضّخم.
﴿وَلَّى مُدْبِرًا﴾: يعني: انصرف عنها وأعطاها ظهره.
﴿وَلَمْ يُعَقِّبْ﴾: نقول: فلان يُعقِّب؛ أي: يدور على عَقِبه ويرجع، والمعنى: أنّه انصرف عنها ولم يرجع إليها؛ لذلك ناداه ربّه عزَّ وجلَّ:
﴿يَا مُوسَى﴾: ونلحظ هنا نداءين اثنين يذكر فيهما المنادى موسى عليه السّلام، وكأنّهما تعويض للنّداء السّابق الّذي نُودِي فيه بالخبر: ﴿أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا﴾.
﴿لَا تَخَفْ﴾: علَّة عدم الخوف ليعلّمه أنّه سيُضطرّ إلى معارك، فليكُنْ ثابتَ الجأْش لا يخاف؛ لأنّه لن يحارب شخصاً بمفرده، إنّما جمعاً من السَّحرة جُمِعوا من أنحاء البلاد كلّها، وسبق أنْ قال له: ﴿إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى﴾[طه: من الآية 68]، حتّى لا تُرهبه هذه الكثرة، وهنا قال:
﴿إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ﴾: والمعنى: لا تخفْ؛ لأنّي أنا الّذي أرسلتُك، وأنا الّذي أتولّى حمايتك وتأييدك، كما قال الحقّ عزَّ وجلَّ في موضع آخر: ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾ [الصّافّات]، فأنت معذور في الخوف إنْ كنتَ بعيداً عنّي، فكيف وأنت في جواري وأنا معك أخاطبك؟ وكان إلقاء العصا من موسى عليه السّلام هذه المرّة مجرّد تجربة ليألف هذه المسألة ويأنس إليها، وتحدث له دُرْبة ورياضة، فإذا ما أجرى هذه العمليّة أمام فرعون والسّحرة أجراها بثقة وثبات ويقين من إمكانيّة انقلاب العصا إلى حيّة.
وبعد ذلك يأتي بآية تُثبت منطقة التّكليف في البشر، حتّى الرّسل، فهم أيضاً مُكلَّفون، وكلّ مُكلَّف يصحّ أن يطيع أو أن يعصي، لكنّ الرّسلَ معصومون من المعصية، أمّا موسى عزَّ وجلَّ فله حادثة مخصوصة قبل الرّسالة حين وكَز الرّجل فسقط ميْتاً، فقال: ﴿وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ﴾[الشّعراء]، وفي موضع آخر يُحدِّد هذا الذّنب: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ﴾ [القصص].