الآية رقم (2) - هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ

﴿هُوَ ٱلَّذِي بَعَثَ فِي ٱلۡأُمِّيِّـۧنَ﴾: لقد كان رسول الله ﷺ مبعوثاً إلى أمّة أمّيّة ليس لها ثقافة، والقرآن الكريم إنّما نزل ليخاطب أمّة أمّيّة، وجاء على لسان رسول الله الأمّيّ ﷺ في أمّة لا تعرف المسائل العلميّة شديدة التّعقيد والفلسفات والثّقافات والحضارات، فالله عز وجلَّ لم يُنزِل القرآن الكريم على أحد ممّن تشبّع بفلسفات اليونان أو الإغريق أو الفراعنة، إنّما أنزله على نبيٍّ أمّيٍّ لا يقرأ ولا يكتب، في أمّة أمّيّة، وهذا له حكمة بالغة؛ لأنّ معنى (أمّيّ)؛ أي: أنّه لم يأخذ علماً من البشر، إنّما جاءت ثقافته وعلمه من السّماء.

ونلحظ أنّ الحقّ سبحانه وتعالى قال: ﴿بَعَثَ فِي ٱلۡأُمِّيِّـۧنَ﴾، ولم يقل: (أرسل إلى الأمّيّين)، فمعنى الإرسال أنّه أرسل إليهم منهم أو من غيرهم، وكذلك لم يقل: (بعث إلى)، ولكنّه سبحانه وتعالى بعث فيهم، والبعث فيه التفات إلى إعادة الحياة، وهو هنا إعادة الحياة لدين إبراهيم وإسماعيل عليهما السّلام دين التّوحيد الّذي كان في العرب منذ أزمان طويلة.

﴿هُوَ ٱلَّذِي بَعَثَ فِي ٱلۡأُمِّيِّـۧنَ رَسُولا مِّنۡهُمۡ﴾: والأمّيّون هم الّذين لا يعرفون كتاباً سماويّاً، والحقّ سبحانه وتعالى يسمّي العرب المعاصرين لرسول الله ﷺ أمّيّين.

وهذه الصّفة صفة الأمّيّة في رسول الله ﷺ وفي أمّته كانت شهادة تفوّق؛ لأنّها أمّة لم تأخذ علمها بالقراءة عن حضارات الأمم السّابقة، وإنّما أخذته عن الله عز وجلَّ، والله جل جلاله إنّما بعث في هؤلاء الأمّيّين واحداً منهم أمّيّاً مثلهم: ﴿رَسُولا مِّنۡهُمۡ﴾: فإيّانا أن نظنّ أنّ الأمّيّة عيب في رسول الله ﷺ، فإن كانت عيباً في غيره فهي فيه شرف وكمال؛ لأنّ معنى أمّيّ يعني على فطرته كما ولدته أمّه، لم يتعلّم شيئاً من أحد إلّا من خالقه، فالله سبحانه وتعالى علّم الخلق، وعلّم النّبيّ ﷺ مباشرة عن طريق الوحي، وقد كانت هذه دعوة إبراهيم عليه السلام فقال: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الحكيم﴾[البقرة].

﴿يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ﴾: أي: يتلو عليهم آيات القرآن الكريم.

﴿وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ﴾: يجب أن تعرف أنّ هناك فرقاً بين التّلاوة وبين التّعليم، فالتّلاوة هي أن نقرأ القرآن الكريم، أمّا التّعليم فهو أن نعرف المعاني وما جاء بها لنطبّقه، وإذا كان الكتاب هو القرآن الكريم، فإنّ الحكمة هي أحاديث رسول الله ﷺ الّتي قال الحقّ سبحانه وتعالى فيها في خطابه لزوجات النّبيّ ﷺ: ﴿وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَىٰ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ الله وَالْحِكْمَة﴾ [الأحزاب: من الآية 34]، وفي آيةٍ أخرى، يقول الحقّ سبحانه وتعالى: ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾[البقرة]، فمؤدَّى تلاوة آيات الله عز وجلَّ هي التّزكية؛ أي: التّطهير، فآيات الله سبحانه وتعالى تطهّر النّفوس والقلوب من الدّنس الّذي قد يعلق بها، فطهّرهم من عبادة الأصنام ومن وأد البنات والخمر والميسر والرّبا، ومعنى التّزكية أيضاً سلب المضارّ، فكأنّه جاءهم بالنّفع وسلب منهم الضّرّ، وهو عندما يزكّيهم ويطهّرهم، إنّما يقودهم إلى طريق الخير وتمام الإيمان، وهذا بتعليمهم الكتاب والحكمة، وإذا وردت كلمة الكتاب على إطلاقه ينصرف إلى القرآن الكريم، والكتاب يعطيك التّكليف، إمّا أن يأمرك بشيء وإمّا أن ينهاك عن شيء، فهي دائرة بين الفعل والتّرك، والحكمة هي وضع الشّيء في موضعه وأن تفعل الفعل الّذي يحقّق لك خيراً أو يمنع عنك شرّاً.

﴿وَإِن كَانُواْ مِن قَبۡلُ لَفِي ضَلَٰل مُّبِين﴾: فهم أمّة أمّيّة، كانوا في ضلال، لا يعرفون الحقّ ولا يعرفون إلى أين يتّجهون، فهذه الآية بيّنت أوّل المقاصد الّتي بُعث النّبيّ ﷺ من أجلها وهي تلاوة آيات الله سبحانه وتعالى، يقول جل جلاله: ﴿يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ﴾، وبعد تلاوة آيات الله عز وجلَّ التّزكية: ﴿وَيُزَكِّيهِمۡ﴾، وبعد ذلك: ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ﴾: تعليم وفهم معاني القرآن الكريم، وبعد ذلك: ﴿وَٱلۡحِكۡمَةَ﴾: وهي السّنّة النّبويّة، ما أمر به النّبيّ ﷺ وما نهى عنه، فهي تنقية ونماء، فالنّبيّ ﷺ جاء ليزكّي النّفوس، والتّزكية هي تطهير وتنقية ونماء، والتّزكية تزكية الإنسان نفسه في ذاته، فبدلاً من أن يكذب لسانه طهّره عن الكذب، وبدل أن تمتدّ عينه إلى محارم غيره طهَّر عينه من النّظر إلى المحرّمات، وبدلاً من أن تمتدّ يده خُفية وتسرق فهو لا يفعل ذلك، وطهّر ذرّيّته من الدّنس، وجعل لها وعاء شريفاً عفيفاً وإطاراً لا تشوبه شائبة، فجاء النّبيّ ﷺ ليزكّيكم في حركات جوارحكم كلّها.

والتّزكية لا بدّ أن تقترن بتعليم الكتاب والحكمة، فهنا أمور ثلاثة: تلاوة القرآن الكريم، والتّزكية، ثمّ تعليم الكتاب؛ أي: تعليمهم ما جاء في هذا القرآن الكريم، وتعليمهم أيضاً الحكمة، وهي أقوال وأفعال وإقرار ونهي النّبيّ ﷺ، بدليل قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَىٰ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ الله وَالْحِكْمَة﴾  [الأحزاب: من الآية 34]، فآيات الله عز وجلَّ القرآن الكريم، والحكمة أحاديث رسول الله وسنّته ﷺ، يقول الحقّ سبحانه وتعالى: ﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ [البقرة: من الآية 269]، فهؤلاء الأمّيّون الّذين بعث الله سبحانه وتعالى فيهم رسولاً منهم ليتلو عليهم آيات الله عز وجلَّ، ويزكّيهم، ويعلّمهم الكتاب والحكمة كانوا في ضلال مبين.

﴿ضَلَٰل﴾: يقولون: ضلّ فلان الطّريق؛ أي: مشى في مكان لا يوصله إلى الغاية، أو يوصل إلى ضدّ الغاية، فالضّلال في الدّنيا، والأمور المادّيّة، قد لا يوصل إلى الغاية المرجوّة، لكن في الأمر القيميّ لا يوصل إلى الغاية المرجوّة وهي الجنّة فحسب، ولكنّه يوصل إلى المقابل وهو النّار، هذا هو الضّلال المبين.

﴿مُّبِين﴾: إنّه ضلال واضح ظاهر، فكانوا في ضلال مبين لا يعرفون الهداية.

«هُوَ الَّذِي» مبتدأ وخبره والجملة استئنافية لا محل لها

«بَعَثَ» ماض وفاعله مستتر

«فِي الْأُمِّيِّينَ» متعلقان بالفعل

«رَسُولًا» مفعول به والجملة صلة

«مِنْهُمْ» صفة رسولا

«يَتْلُوا» مضارع فاعله مستتر والجملة صفة

«عَلَيْهِمْ» متعلقان بالفعل

«آياتِهِ» مفعول به

«وَيُزَكِّيهِمْ» معطوف على يتلو

«وَيُعَلِّمُهُمُ» مضارع ومفعوله الأول والفاعل مستتر

«الْكِتابَ» مفعوله الثاني

«وَالْحِكْمَةَ» معطوف على الكتاب

«وَ» الواو حالية

«إِنْ كانُوا» إن مخففة وماض ناقص واسمه

«مِنْ قَبْلُ» متعلقان بمحذوف حال واللام فارقة

«في ضَلالٍ» خبر كانوا

«مُبِينٍ» صفة والجملة حال.

{الْأُمِّيِّينَ} … العَرَبِ الَّذِينَ لَا يَقْرَؤُونَ، وَلَا كِتَابَ عَنْدَهُمْ.

{وَيُزَكِّيهِمْ} … يُطَهِّرُهُمْ مِنَ العَقَائِدِ الفَاسِدَةِ، وَالأَخْلَاقِ السَّيِّئَةِ.

{الْكِتَابَ} … القُرْآنَ.

{وَالْحِكْمَةَ} … السُّنَّةَ، وَإِذَا جَاءَتِ الحِكْمَةُ مَعَ الكِتَابِ فَالمُرَادُ بِهَا: السُّنَّةُ.