الآية رقم (193) - نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ

كان من الممكن أن يكون الوحي من عند الله عزَّ وجلَّ إلهاماً أو نَفْثاً في الرَّوْع؛ لذلك قال عزَّ وجلَّ بعدها: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ﴾، فالأمر ليس نَفْثاً في رَوْع رسول الله ﷺ بحكم ما، إنّما يأتيه روح القُدُس وأمين الوحي، يقول له: قال الله: كذا وكذا، لذلك لم يثبت القرآن الكريم إلّا بطريق الوحي، بواسطة جبريل عليه السّلام، فيأتيه الملَك؛ ولذلك علامات يعرفها ويحسّها، ويتفصّد جبينه منه عرقاً، ثمّ يُسرِّي عنه، هذا هو الوحي، أمَّا مجرّد الإلهام أو النَّفْث في الرَّوْع فلا يثبت به وَحْي، لذلك كان جلساء رسول الله ﷺ يعرفونه ساعة يأتيه الوحي، وكانوا يسمعون فوق رأسه صلى الله عليه وسلم دويّاً كدويّ النّحل أثناء نزول القرآن الكريم عليه، وكان الأمر يثقل على رسول الله ﷺ، حتّى إنّه إنْ أسند فَخِذه على أحد الصّحابة أثناء الوحي يشعر الصّحابيّ بثقلها كأنّها جبل، وإذا نزل الوحي ورسول الله ﷺ على دابّته يثقل عليها حتّى تنخّ به، كما قال عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا﴾[المزّمّل].

﴿نَزَلَ بِهِ﴾: تفيد العلوّ، وأنّ القرآن الكريم نزل من أعلى، من عند الله عزَّ وجلَّ، فهو ليس من وضع بشر يُخطىء ويُصيب ويجهل المصلحة، كما نرى في القوانين الوضعيّة الّتي تُعدَّل كلّ يوم، ولا تتناسب ومقتضيات التّطوّر، والّتي يظهر عُوَارها يوماً بعد يوم، ولأنّ القرآن الكريم نزل من أعلى فيجب علينا أن نستقبله استقبالَ الواثقِ فيه المطمئنّ به، لا نعانده، ولا نتكبّر عليه؛ لأنّ الإنسان يتكبّر على مساوٍ له، أمّا ما جاءه من أعلى فيلزمه الانقياد له عن اقتناع، وحين نتأمّل قوله عزَّ وجلَّ في التّشريع لحكم من الأحكام: ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ﴾ [الأنعام: من الآية 151]، كلمة: ﴿تَعَالَوْا﴾ تعني: اتركوا حضيض تشريع الأرض، وأَقْبلوا على رِفْعة تشريع السّماء، فتعالوا؛ أيْ: ارتفعوا، ولا تهبطوا إلى مستوى الأرض، وإلّا تعبتُم وعضَّتكم الأحداث؛ لأنّ الّذي يُشرِّع لكم بشر أمثالكم لا يعلمون حقائق الأمور، فإنْ أصابوا في شيء أخطؤوا في أشياء، وسوف تُضطرّون لتغيير هذه التّشريعات وتعديلها، فالأسلم لكم أنْ تأخذوا من الأعلى؛ لأنّه عزَّ وجلَّ العليم بما يُصلحكم.

﴿الرُّوحُ﴾: سُـمِّي جبريل عليه السّلام الرّوح؛ لأنّ الرّوح بها الحياة، والملائكة أحياء لكن ليس لهم مادّة، فكأنّهم أرواح مطلقة، أمّا البشر فمادّة فيها روح.

كما أنّ كلمة الرّوح استُعمِلَتْ عدّة استعمالات في القرآن الكريم، منها:

– ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾[الإسراء]، والمراد: الرّوح الّتي نحيا بها.

– وسُـمِّي القرآن الكريم رُوحاً: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا[الشّورى: من الآية 52].

– إضافة إلى الملك الّذي نزل به، وهو جبريل عليه السّلام: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ﴾.

فالقرآن الكريم روح، والملَك الّذي نزل به روح، فإنْ قلتَ: فما حاجتي إلى الرّوح وفيَّ روح؟ نقول لك: هذه الرّوح الّتي تحيا بها مادّتك، تفارقك حين تموت وتنتهي المسألة، أمّا الرّوح الّتي تأتيك في القرآن الكريم فهي روح باقية خالدة، إنّها منهج الله عزَّ وجلَّ الّذي يعطيك الحياة الأبديّة الّتي لا تنتهي، لذلك، فالرّوح الّتي تحيا بها المادّة للمؤمن وللكافر على حَدٍّ سواء، أمّا الرّوح الّتي تأتينا من كتاب الله تعالى وفي منهجه، فهي للمؤمن خاصّة، وهي باقية، وبها نستأنف حياة جديدة خالدة بعد حياة المادّة الفانية.

ثمّ يَصِف الحقّ عزَّ وجلَّ الرّوح بأنّه:

﴿الْأَمِينُ﴾: أي: على الوحي، فالقرآن الكريم مَصُون عند الله عزَّ وجلَّ، مصون عند الرّوح الأمين الّذي نزل به، مَصُون عند النّبيّ الأمين الّذي نزل عليه، لذلك يقول عزَّ وجلَّ: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ﴾[الحاقّة]، وقال عزَّ وجلَّ: ﴿وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ﴾ [التّكوير].

«نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ» ماض وفاعله ومتعلقان بنزل

«الْأَمِينُ» صفة