﴿مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ﴾: قد يأتي في أذهان بعضهم ما يشوّه عقائد الإيمان، فيقول قائلٌ: كيف يدخل فلانٌ النّار وهو من أعطى البشريّة هديّة المخترعات الهائلة الّتي غيّرت مسارات الحضارة وأسعدت النّاس؟ فكيف يعذّب الله سبحانه وتعالى هؤلاء الّذين بذلوا الجهد ليطوّروا العلوم والفنون؟ أيُعذّبهم بمجرّد أنّهم كفّارٌ به؟ الجواب: إنّ العذاب يتعلّق بالإيمان والكفر، والله سبحانه وتعالى يعذّبهم مع أنّه تعالى لا يضيع عنده أجر من أحسن عملاً: ﴿إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ﴾]الكهف: من الآية 30[، وهو قادرٌ على أن يجزيهم في الدّنيا بما قدّموه من مجدٍ وشهرةٍ ليكوّنوا النّتيجة والثّروة، وهم قد عملوا من أجل ذلك، وانطبق عليهم الحديث الشّريف: «إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِأَنْ يُقَالَ: جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ، وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ، وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ: عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ: هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللهُ عَلَيْهِ، وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ: هُوَ جَوَادٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ، ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ»([1])، وأخذوا أجورهم ممّا عملوا، وعندما عملوا لم يكن الله سبحانه وتعالى في بالهم، والقرآن الكريم يصوّر مسألة الجزاء، فهؤلاء الكفّار إذا كانوا يتلقّون العذاب الغليظ على الكفر، فالحقّ سبحانه وتعالى لا يغمط أجر ما فعلوه من خيرٍ، فينالون ذلك في الدّنيا، وقد قال النّبيّ ﷺ: «فمن كانت هجرته إلى دنيا يُصيبها أو إلى امرأةٍ ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه»([2])، أمّا في الآخرة فالعذاب جزاؤه؛ لأنّه عاش كافراً بالله جل جلاله، فالقرآن الكريم واضحٌ لا يقبل لبساً في هذا الأمر.
﴿أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ﴾: فلا يقولنّ قائلٌ: إنّ الأعمال الّتي صنعوها في الدّنيا، وظنّوا أنّها أعمالٌ إنسانيّةٌ وأعمال برٍّ ستأتي يوم القيامة، بل ستصبح يوم القيامة رماداً تهبّ عليها الرّيح الشّديدة في يومٍ عاصفٍ لتذروه بعيداً، ولن تكون لديهم فرصةٌ لاستئناف الحياة ليستفيدوا من التّجربة، بل من أمامهم ومن حولهم العذاب، ولسان حالهم يقول: ﴿ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ﴾ ]المؤمنون: من الآية 99-100[، لكنّه لو ردّ إلى الحياة الدّنيا لعاد لما نُهي عنه، مصداقاً لقول الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ ]الأنعام: من الآية 28[، وهذا الكفر هو الضّلال البعيد الّذي جعل أعمالهم الّتي ظنّوا أنّها صالحة مجرّد أعمالٍ محبطةٍ، فلا أجر ولا ثواب لها، فضلّوا بالكفر عن الطّريق الموصل إلى الغاية، وكلّ ما اكتسبوه وما أخذوه وما قاموا به مثّله المولى سبحانه وتعالى بقوله: ﴿كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ﴾، والسّبب واحدٌ، وهو كفرهم بالله جل جلاله.
فالأنبياء عليهم السلام جاؤوا بمهمّةٍ تبدأ بقوله سبحانه وتعالى: ﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ﴾]محمّد: من الآية 19[، فلم يأت رسولٌ لقومٍ من الأقوام، من لدن آدم عليه السلام إلى لدن سيّدنا رسول الله ﷺ إلّا وكانت دعوته: ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾]الأعراف: من الآية 59[، فهي دعوة الأنبياء عليهم السلام الأساسيّة، ومن يُشرك بالله عز وجل فمن الطّبيعيّ أن يكون جزاؤه هو الّذي تحدّثت عنه الآيات السّابقة.
([1]) صحيح مسلم: كتاب الإمارة، باب مَن قاتل للرّياء والسّمعة استحقّ النّار، الحديث رقم (1905).
([2]) صحيح البخاريّ: كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله ﷺ، الحديث رقم (1).