﴿لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ﴾ : يتبادر إلى الذّهن أنّ اللّام في: ﴿لِيَكْفُرُوا﴾ لام التّعليل، أو لام السّببيّة الّتي يكون ما بعدها سبباً لما قبلها، كما تقول: ادرس لتنجح، وكذلك في الشّرط والجواب: إنْ تدرس تنجح، فِعِلَّة الدّراسة النّجاح، فهل يستقيم المعنى هنا على هذا الفهم؟ وهل نجّاهم الله عزَّ وجلَّ وأذاقهم الرّحمة ليكفروا به؟ نقول: ليس الشّرط سبباً في مجيء الجواب كما يفهم السّطحيّون في اللّغة، بل الجواب هو السّبب في الشّرط، لكنّهم لم يُفرِّقوا بين سبب دافع وسبب واقع، فالتّلميذ يذاكر؛ لأنّ النّجاح ورد بباله، وتراءتْ له آثاره الطّيّبة أوّلاً فدفعتْه للمذاكرة، فالجواب سبب في الشّرط؛ أي: سبب دافع إليه، فإذا أردتَ أن يكون واقعاً فقدِّم الشّرط ليجيء الجواب، وكما تقول: ركبتُ السّيّارة لأذهب إلى طرطوس، فركوب السّيّارة ليس سبب ذهابك إلى طرطوس؛ لأنّك أردْتَ أوّلاً الذّهاب فركبتَ السّيّارة، فلمّا ركبتها وصلتَ بالفعل، فنقول: الشّرط سبب للجواب وهو دافع يدفع إليه، والجواب سبب للشّرط، فهنا نجّاهم الله سبحانه وتعالى من الكرب، وأذاقهم رحمته لا ليكفروا به، إنّما ليُبيِّن لهم أنّه لا مفزعَ لهم إلّا إليه، فيتمسّكون به سبحانه وتعالى، فيؤمن منهم الكافر، ويزداد مؤمنهم إيماناً، لكن جاء ردُّ الفعل منهم على خلاف ذلك، لقد كفروا بالله عزَّ وجلَّ؛ لذلك يسمّون هذه اللّام لام العاقبة؛ أي: أنّ كفرهم عاقبة النّجاة والرّحمة، فالأسلوب هنا: ﴿لِيَكْفُرُوا﴾ يحمل معنى التّقريع؛ لأنّ ما بعد لام العاقبة ليس هو العلّة الحقيقيّة لما قبلها، إنّما العلّة الحقيقيّة لما قبلها هو المقابل لما بعد اللّام: أذاقهم الرّحمة، ونجّاهم ليؤمنوا، أو ليزدادوا إيماناً، فما كان منهم إلّا أنْ كفروا، ولهذه المسألة نظائر كثيرة في القرآن الكريم، كقوله سبحانه وتعالى في قصّة موسى عليه السّلام: ﴿فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا﴾ [القصص: من الآية 8]، ومعلوم أنّهم التقطوه ليكون لهم قُرَّة عين، ولو كانوا يعلمون هذه العاقبة لأغرقوه أو قتلوه كما قتلوا غيره من أطفال بني إسرائيل.
﴿فَتَمَتَّعُوا﴾ : لأنّه كفر ليتمتّع بكفره في الدّنيا؛ لأنّ للإيمان مطلوبات صعبة تشقُّ على النّفس، فيأمرك بالشّيء الثّقيل على نفسك، وينهاك عن الشّيء المحبّب إليها، أمّا الأصنام الّتي عبدوها من دون الله عزَّ وجلَّ وغيرها من الآلهة فلا مطلوبَ لها ولا منهج، ومتاع الدّنيا قليل؛ لأنّ الدّنيا بالنّسبة إلينا مدّة بقائنا فيها، فلا تقُلْ: إنّها ممتدّة من آدم عليه السّلام إلى قيام السّاعة، فهذا العمر الطّويل لا يعنينا في شيء، الّذي يعنينا عمرنا نحن، ومهما كان عمر الإنسان في الدّنيا فهو قصير وتمتُّعه بها قليل، ثمّ إنّ هذا العمر القصير مظنون غير مُتيقَّن، فربّما داهمنا الموت في أيِّ لحظة، ومَنْ مات قامت قيامته، ونلحظ هنا أنّ الأسلوب القرآنيّ عطف فعل الأمر: ﴿فَتَمَتَّعُوا﴾ على الفعل المضارع: ﴿لِيَكْفُرُوا﴾، وفي موضع آخر قال سبحانه وتعالى: ﴿لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ [العنكبوت: من الآية 66]، فجعل التّمتُّع ليس خاضعاً لفعل الأمر، إنّما للعلّة: ليكفروا وليتمتّعوا، لذلك اختلفوا حول هذه اللّام، أهي للأمر أم للتّعليل؟! ﴿فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ [العنكبوت: من الآية 66]، جاءت بعد: ﴿وَلِيَتَمَتَّعُوا﴾ [العنكبوت: من الآية 66]، وهذه جاءتْ معطوفة على: ﴿لِيَكْفُرُوا﴾ [العنكبوت: من الآية 66]، فكأنّه قال: اكفروا وتمتّعوا، لكن ستعلمون عاقبة ذلك، والّذي جعلهم يقولون عن اللّام هنا: لام التّعليل، أنّها مكسورة، أمّا لام الأمر فساكنة، فلمّا رأوا اللّام مكسورة قالوا: لام التّعليل، أمّا الّذي فهم المعنى منهم قال: ما دام السّياق عطف فعل الأمر ﴿وَلِيَتَمَتَّعُوا﴾ [العنكبوت: من الآية 66]، على المضارع المتّصل باللّام، فاللّام للأمر أيضاً؛ لأنّه عطف عليها فعل الأمر، وهو هنا للتّهديد، لكن، لماذا كُسِرَتْ والقاعدة أنّها ساكنة؟ قال أحد النّحاة: لام الأمر ساكنة، ويجوز أنْ تُكْسَر، واستشهد بهذه الآية: ﴿لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا﴾ [العنكبوت: من الآية 66]، ونقول لمن يقول: إنّها لام التعليل: إذا سمعت لام التّعليل فاعلم أنّها تعني لام العاقبة؛ لأنّ الكفر والتّمتّع لم يكُنْ سبباً في إذاقة الرّحمة، ويا مَنْ تقول: لام الأمر، سيقولون لك: لماذا كُسِرَت؟ وفي القرآن الكريم شواهد كثيرة تدلّ على أنّها قد تُكسَر.
﴿فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ : تدلُّ على التّراخي واستيعاب المستقبل كلّه، سواء أكان قريباً أم بعيداً، فهي احتياط لمن سيموت بعد الخطاب مباشرة، أو سيموت بعده بوقت طويل.