يخاطب الحقّ سبحانه وتعالى المكذِّبين للنّبيّ عليه السّلام: ما أنزلتُ إليكم آية بعيدة عن معرفتكم، إنّما أرسلتُ إليكم رسولاً بآية من جنس ما نبغتُم فيه، ولـمّا نزل القرآن الكريم فهمتموه وعرفتم مراميه، بدليل أنّ في القرآن الكريم ألفاظاً تُستقبل بالغرابة، ولم تعترضوا أنتم عليها، ولم تُكذِّبوا محمّداً فيها مع أنّكم تتلمّسون له خطأ، وتبحثون له عن زلّة، فمثلاً لـمّا نزلتْ: ﴿الم﴾ ما سمعنا أحداً منهم قال: أيّها المؤمنون بمحمّد، إنّ محمّداً يدَّعي أنّه أتى بكتاب مُعْجز فاسألوه: ما معنى ﴿الم﴾ ؟ ما فعلوا ذلك، ممّا يدلّ على أنّهم فهموها وقبلوها، ولم يجدوا فيها مَغْمزاً في رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنّ العرب في لغتهم وأسلوبهم في الكلام يستخدمون هذه الحروف للتّنبيه.
﴿فِيهِ ذِكْرُكُمْ﴾: سبق أنْ أوضحنا أنّ الذّكر يُطلق بمعنى: القرآن الكريم، أو بمعنى: الكتب المنزّلة، أو بمعنى: الصِّيت والشّرف، أو بمعنى: التّذكير أو التّسبيح والتّحميد، والذّكر هنا قد يُرَاد به تذكيرهم بالله سبحانه وتعالى خالقاً، وأنّه أنزل القرآن الكريم شرفاً لهم، ويكفي أنّ القرآن الكريم عربيّ، وهو شرفكم وصيْتكم ومكانتكم ونباهة شأنكم بين الأمم؛ لأنّ القرآن الكريم الّذي نزل للدّنيا كلّها نزل بلغتكم، فكأنّ الله سبحانه وتعالى يبيّن لهم أنّ القرآن الكريم نزل عربيّاً فكان أولى لهم أن يؤمنوا.
﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾: أفلا تُعملِون عقولكم وتتأمّلون أنّ خيركم في هذا القرآن الكريم في الدّنيا والآخرة، فإنْ كنتم تريدون خُلقاً وديناً ففي القرآن الكريم، وإنْ كنتم تريدون شرفاً وسُمعة وصيتاً ففي القرآن الكريم، وأيُّ شرفٍ بعد أن يقول النّاس: النّبيّ عربيّ، والقرآن الكريم عربيّ؟ فالقرآن الكريم نزل بلسانٍ عربيٍّ مبين، فحفظ الله سبحانه وتعالى القرآن الكريم بأن جعل اللّغة العربيّة وعاءً لكلامه، فهي محفوظة بالقرآن الكريم، وأخذت عزّها وصيتها من القرآن الكريم، ومن كلام الله عزَّ وجلّ، «وَفَضْلُ كَلَامِ اللهِ عَلَى سَائِرِ الكَلَامِ كَفَضْلِ اللهِ عَلَى خَلْقِهِ»([1]).
([1]) سنن التّرمذيّ: أبواب فضائل القرآن، باب 25، الحديث رقم (2926).