لماذا يطلب الإنسان الرّجوع إلى الدّنيا؟ الجواب: عندما يرى الحقيقة في لحظات الموت وسكراته، يتمنّى أن يرجع لسبب واحد، وهو: ﴿لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ﴾؛ أي: أنّني تركتُ كثيراً من أعمال الخير، فلعلّي إنْ رجعتُ بعد أنْ عاينتُ الحقيقة أستدرك ما فاتني من الصّالحات، أو لعلّي أعمل صالحاً فيما تركتُ؛ لأنّني ضننْتُ بمالي وبمجهودي وفَضْلي على النّاس، وكنْزتُ المال الكثير، وتركتُه خلفي ثمّ أُحاسب أنا عليه، فإنْ عُدت قدّمته وأنفقته فيما يدّخر لي ليوم القيامة. ثمّ تأتي الإجابة:
﴿كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا﴾: أي: قوله: ارجعون لعلّي أعمل صالحاً فيما تركت، مجرّد كلمة لا واقع لها، كلمة يقولها وقت الضّيق والشّدّة، فالله تعالى لن يرجعهم، ولو أرجعهم ما فعلوا؛ لذلك نفاها بقوله: ﴿كَلَّا﴾ الّتي تردّ على قضايا تريد إثباتها، ويريد الله تعالى نفيها كما ورد في سورة الفجر: ﴿فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ﴾[الفجر]، فيردّ الحقّ تعالى: ﴿كَلَّا﴾ لا أنت صادق ولا هو، فليس المال والغِنَى وكثرة العَرض دليل كرامة، ولا الفقر دليل إهانة، فالقضيّتان كلتاهما خطأ، بدليل أنّك إذا أعطاك الله تعالى المال، ثمّ لا تؤدّي فيه حَقَّ الله عزَّ وجلَّ وحَقَّ العباد، ولا يعينك على أداء ما فُرِض عليك صار المال وبالاً عليك وإهانة لا كرامة، ما جدوى المال إنْ دخلتَ في قوله جلَّ جلّاله: ﴿كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ﴾[الفجر]؟ ساعتها سيكون مالك حُجَّة عليك، كذلك الحال مع مَنْ يظنّ أنّ الفقر إهانةٌ، فإنْ سلب الله تعالى منك المال الّذي يُطغيك فقد أكرمك، وإنْ كنت لا تدري بهذا الإكرام.
﴿وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾: أي: كيف يتمنّوْنَ الرّجوع وبينهم وبينه برزَخ يمنعهم العودة إلى الدّنيا؛ لذلك تُسمَّى الفترة بين الحياة الدّنيا والآخرة بالحياة البرزخيّة، فليست من الدّنيا، وليست من الآخرة.
وفي موضع آخر يُصوِّر الحقّ تعالى هذا الموقف بقوله: ﴿وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ﴾ [الأنعام: من الآية 28]؛ أي: لو رددناهم من الآخرة لعادوا لما كانوا عليه من معصية الله عزَّ وجلَّ، وإنْ كانت هذه قضيّة عقليّة ففي واقعهم ما يُثبِت صِدْق هذه القضيّة، واقرأ فيهم قول الله تعالى: ﴿وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا﴾[الإسراء]، فأخذ نعمة الله عزَّ وجلَّ وتقلَّب فيها، ثمّ تنصَّل من طاعة الله تعالى، ويقول تعالى في هذا المعنى أيضاً: ﴿وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [يونس: من الآية 12].
والبرزخ: هو الحاجز بين شيئين، وهذا الحاجز يأخذ قوّته من صاحب بنائه، فإنْ كان هذا الحاجز من صناعته تعالى، فلن ينفذ منه أحد، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ﴾[الرّحمن]، وما داما يلتقيان، فما فائدة البرزخ هنا؟ قالوا: نعم يلتقيان، ولا يبغي أحدهما على الآخر؛ لأنّ المسألة ليست سَدَّاً أو بناءً هندسيّاً، إنّما برزخ خاصٌّ لا يقدر عليه إلّا طلاقة القدرة الإلهيّة الّتي خرقتْ النّواميس، فجعلتْ الماءَ السّائلَ جبلاً ، بعد أن ضربه موسى عليه السلام بعصاه، فصار كلّ فِرْق كالطّود العظيم، طلاقة القدرة الّتي فجّرت الحجر عيوناً، فالمسألة ليست (ميكانيكا) كما يظنّ بعضهم، والبرزخ بين الماء المالح والماء العَذْب آية من آيات الله عزَّ وجلَّ شاخصة أمامنا، يمكننا جميعاً أنْ نتأكّد من صحّة هذه الظّاهرة، لكنّ هذا البرزخ من أمامهم، فلماذا قال تعالى: ﴿وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾؟ قالوا: لأنّ اللّفظ الواحد يُطلق في اللّغة وله معَانٍ عدَّة؛ لذلك يُسمُّونه المشترك، فمثلاً كلمة (عَيْن) تُطلَق على العين الباصرة، وعلى عين الماء، وعلى الجاسوس، وتُقال: للذّهب والفضّة، وللرّجل البارز في قومه، والسّياق هو الّذي يُحدِّد المعنى المراد؛ لذلك على السّامع أن تكون عنده يقظة ليردّ اللّفظ إلى المعنى المناسب لسياقه، وكذلك كلمة: (النّجم) تعني الكوكب في السّماء، وتعني مَا لا ساقَ له من النّبات، وهو العُشْب الّذي ترعاه البهائم.
فكلمة (وراء) تُطلَق ويُراد بها معانٍ عدة، قد تكون متقابلة يُعيِّنها السّياق، فتأتي وراء بمعنى: (بَعْد) كما في قوله تعالى: ﴿وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ﴾ [هود]، وتأتي بمعنى: (غَيْر) كما في قوله تعالى: ﴿فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ﴾ [المؤمنون]، وتأتي بمعنى: (أمام) كما قوله جلَّ جلاله: ﴿وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا﴾ [الكهف: من الآية 79]، فالملك كان أمامهم ينتظر كلّ سفينة قادمة، وكذلك في قوله تعالى: ﴿مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ﴾[إبراهيم: من الآية 16]، فقوله تعالى: ﴿وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾؛ أي: أمامهم.